الرئيسية / الشأن العراقي / كيفَ يخرجنَ من أعشاش الدبابير؟

كيفَ يخرجنَ من أعشاش الدبابير؟


المرأة المقهورة
لمناسبة يوم المرأة العالمي في الثامن من مارس/ آذار من كل عام، علينا ان نقف جميعا وقفة حضارية لانصاف المرأة العراقية اليوم بعد ان عاش هذا الكائن الرائع حياته طوال مائة سنة مرت تناقضات اجتماعية مريرة جراء تحولات سياسية قاسية.. وبعد ان تناصفت حياة هذا الكائن عمليات تطور المجتمع العراقي واخفاقانه الى جانب الرجل! ان المرأة العراقية باختصار كبير، عاشت مظلومة ومقهورة على امتداد تاريخ طويل، وبعد ان اعيد تكوين المجتمع الحديث من خلال بناء دولته المعاصرة.. لا اقول ان المرأة هي الافضل في عموم مجتمعات الشرق الاوسط، وانها لم تعان من قسوة الحياة في اغلب مجتمعات العالم الاسلامي، ولكن المرأة العراقية تمّثل الاستثناء المثير بمقارنة معاناتها باوضاع نسوة كل بلد من هذا العالم! وان كان البعض يسجّل عن بلادة او سذاجة او خباثة مواقف مشينة، ويلصقها بالمرأة العراقية، فأنني لا استثني المجتمعات الاخرى، وكأنها مجتمعات ملائكية، لا تشّذ النسوة فيها عن القواعد المعروفة. واعتقد ان كل الاخطاء والانحرافات التي يعاني منها المجتمع العراقي، كانت نتيجة من نتائج الدمار الاجتماعي الذي اصاب البنية العراقية جراء الحروب والقمع والطغيان والحصار والفاقة والخوف والهروب.. لقد كادت ان تحرر نفسها من قهر التقاليد البالية، وقد شاركت واسهمت بنجاح منقطع النظير في مجالات الحياة المدنية، ولكنها دخلت فجأة اعشاش الدبابير!

روعة المشاركات النسوية
كان للمرأة دورها الذي يعدّ ايجابيا من نواح متباينة، فلقد كانت وراء تشكيل العائلة العراقية الجديدة وتربية اجيال حضرية واعية، وخصوصا في المدن الكبيرة.. وبقدر ما اخفقت في نيل حقوقها كاملة، فقد نجحت في مشاركة الرجل الى حد كبير في الجوانب الاجتماعية والمؤسسية والثقافية وحتى السياسية والاعلامية والابداعية الفنية والتشكيلية.. بل واعتبرت المرأة العرالقية سباقة من خلال نماذج متقدمة في الريادة الادبية والفنية والعلمية مقارنة بغيرها من نسوة مجتمعات المنطقة.. وقد كان لزاما على المجتمع العراقي ان يجد في هذا الكائن المتميز مكانته الفاعلة والعليا.. سواء بذيوع اسماء شهيرات لامعات في الشعر والادب.. ام في العلم والطب والهندسة والعمارة.. أم في حمل اول امرأة لحقيبة وزارية في العراق مقارنة بين كل دول المنطقة.. أم في الصحافة والجامعات.. الخ الا ان انتكاستها جاءت بعد سلسلة من التغيرات الخطيرة التي اضرت بواقع المرأة على امتداد نصف قرن مضى.. لقد استحقت المرأة العراقية كل الالقاب نظرا لمجابهتها التحديات الصعبة باعصاب من حديد، ولم تهن ولم تحزن، واستمرت تمد الحياة بعطائها الخصب، بل وانها بقيت تخصب الحياة باروع الاثمار.. ولكن؟

الانتكاسات المريرة وهول التشظيات
بقدر ما كانت المرأة العراقية ترنو للتقدم والمشاركة ونيل الحقوق ضمن اطر قانونية تؤهلها لاداء الامانة الملقاة على عاتقها، لكنها انتكست انتكاسات خطيرة، وانتهكت حقوقها الشخصية والاجتماعية والسياسية حتى وصلت اليوم الى ان تعيش داخل قوقعة من التقاليد التي لم تعرفها سابقا.. لقد اضرّت بها السياسات الطائشة، والتحزبات السياسية البليدة.. بل وغدت مكتوفة الايدي امام مؤسسة لم تقدم شيئا لها، اسموها باتحاد نساء العراق، اذ انحسرت انشطتها وابداعاتها، ولم تعد لها ادوارها التي عرفتها ابان الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين.. تلك الادوار الناصعة التي وجدنا جذورها منذ العشرينيات والثلاثينيات في تشكيل الجمعيات والمنتديات والنقابات.. ولم تكن الدعوة في العراق الى السفور دعوة لا اخلاقية، كما يتوهم البعض وصف الدعاة الى ذلك!
ان التشظيات التي اصابت المرأة العراقية عبر خمسين سنة مرت، قد عبرت عنها سلسلة من النتائج التي افرزتها الاضطرابات السياسية والصراعات الحزبية والانتكاسات الاجتماعية.. ومن ثم الحروب القاسية والحصارات الجائرة حتى وصلت الى ما هو عليه حالها اليوم! كان على المرأة العراقية ان تجابه التحديات المريرة، فطوردت واعتقلت، وهجّرت قسريا وهاجرت خفية.. او تعرضت للارهاب والتعذيب، وصولا الى تعرضها لقوانين جائرة باسم (غسل العار) سيئة الصيت! لقد انكمشت وسكتت.. او ذبلت ابداعاتها، او خافت ورّوعت، او احتجبت عن الحياة العامة. صحيح ان المرأة العراقية كانت تعاني من سطوة المجتمع القاسي، وخصوصا في الريف والبادية وكانت ولم تزل مظلومة من مجتمعها الذي يقوم على التمييز، كونه مجتمعا ذكوريا يتسلط فيه الذكور على الاناث، الا انها بدأت تعاني من ظلم الدولة والسلطة طويلا.. وقد احرقت كل الاحلام والامنيات التي كانت تروج عند منتصف القرن العشرين.. انني اعتقد ان الدولة ما كانت لتنال من المرأة العراقية، لولا حالات الجور التي كانت تتعرض اليها من المجتمع، وخصوصا عندما بدأ المجتمع يزداد تخلفّه باختلاط عناصره غير المنسجمة، فازدادت ليس مشكلاته، بل تناقضاته. وكانت المرأة هي الضحية الاولى لتلك التناقضات المخيفة.

التحولات الى الوراء
ان هيمنة المتخلفين النازحين الى اعماق المدن الحضرية على الحياة العامة قد غّلب التقاليد البالية على التقاليد الحضرية والقيم المدينية. وفي الثلاثين سنة المنصرمة، وقعت المرأة العراقية خصوصا تحت طائلة الموجات المتعصبة دينيا وطائفيا، وغلبة التفاهات على التفكير الاجتماعي المدني الحديث. لقد غدت مادة سهلة للانغلاق والاستلاب معا، بفقدان كل ما كانت تتمتع به من حصانات وقيم واعتبارات في حارتها او محلتها.. في الشوارع والاماكن العامة.. بل حتى في المؤسسات والدوائر الرسمية. نعم، لقد اصبحت تتعرض من قبل المجتمع نفسه الى اصعب الحالات.. ولما هيمنت الاحزاب والتيارات الدينية على كل من الدولة والمجتمع، غدت المرأة مادة دسمة للاستلاب، كونها من النساء اللواتي يمثلن من وجهة نظرهم كائنات غريبة وناقصة.. لقد وصل الامر في العراق ان تقّطع رقاب النساء ويمثّل باجسادهن! او تقتل النساء من دون رحمة! او يعتدى عليهن وعلى كرامتهن! وان تسجن وتعّذب كما لو كانت من الرجال! او تقّيد حرياتها الشخصية والاجتماعية في ما تختاره من الالبسة والازياء مثلا!

التحرر والانطلاق
ان المرأة العراقية بالرغم من كل ما اشيع عنها، ولكنها تبقى هي الاساس في صناعة الاجيال. ان الذاكرة العراقية لا يمكنها ان تمحي ابدا ما سجلته عنها من الصفحات الرائعة وادوارها الخلاقة التي ينبغي ان تكون امثلة حية يقتدى بها في بناء اجيال القرن الواحد والعشرين. انها اليوم بالرغم من اصوات تنادي بانصافها، واشراكها سياسيا.. الا انها لم تزل حتى اليوم مادة مزدوجة لاستلابات حزبية وسياسية وطائفية وجهوية وعرقية.. الخ ان المرأة العراقية بأمس الحاجة اليوم الى الوعي بحقوقها المدنية والوطنية قبل ان تبقى مجرد رقما معينا يضاف هنا او هناك لسد شواغر ذكورية، او ان تبقى مجرد بيدق يتلاعب بها الرجل كيفما اراد! او ان تبقى محرومة من مواريثها نتيجة التلاعب من قبل اخوتها الذكور بحقوقها! او ان تبقى محاصرة او مسجونة او معلبة في قوالب جامدة منذ صغرها، فتقتل مواهبها وابداعاتها قتلا بطيئا! او ان تبقى لا تعرف من حياتها المعاصرة الا توافه الامور وبلادة التفكير! او ان تبقى لاجئة او مهاجرة او مشتتة في مجتمعات اخرى قد تجد فيها احياء لقابلياتها وانشطتها وفعالياتها، ولكن على حساب اغترابها المضني وافتقادها المزيد من حقوقها الوطنية! او ان تبقى تكدّ وتتعب وتجاهد من اجل لقمة العيش!
انها اليوم بحاجة ماسة الى ان تختط لها خطا جديدا في الحياة، والكل يعرف معرفة حقيقية ما الذي كابدته المرأة العراقية على امتداد خمسين سنة مضت من مكابدات صعبة، وهي متزوجة، او ارملة، او مطلقة، او عانسا، او مسؤولة عن اطفال يتامى! الكل يدرك ما الذي صنعته المرأة العراقية من نجاحات وهي تجابه الاقدار المأساوية والتحديات الظالمة والمشاركات الصعبة.. ويعتقد العديد من الدارسين للمرأة العراقية انها كانت ولم تزل اقوى من اية نسوة يجايلنها في مجتمعات الشرق الاوسط قاطبة.

واخيرا: متى تتحقق الامنيات؟
اتمنى ان يكون يوم المرأة العالمي لهذا العام، مناسبة محفّزة للمرأة العراقية كي تخرج من اعشاش الدبابير، من اجل نيل حقوقها واستعادة كرامتها، وتنمية تفكيرها، وتمتعها بشخصيتها، وان تُحترم ارادتها وخياراتها، وان تكون زوجة صالحة، واما رؤوما، واختا عزيزة، وابنة محروسة.. وقريبة كريمة، وزميلة محترمة، وطالبة نجيبة، وسيدة مجتمع لامعة، وصاحب مهنة بارعة! وفنانة قديرة، ونائبة مثقفة، واختصاصية ممتازة.. الخ. ربما يتهمني البعض انني احلم، ولكن الحياة لا تتقدم ابدا ان لم تحلم بالاشياء الجميلة اولا كي تسعى لتحقيقها. فهل سنجد احلامنا تتحقق في مجتمعنا العراقي المدّمر؟ انني اعتقد حصول ذلك بعد ان يبدأ المجتمع كله ينفض عن كاهله اوزار التخلف، ويتخلص من براثن التقاليد المقيتة.. ويشرع ببناء علاقات انسانية مدنية محدثة، وينسج تقاليد متمدنة، ويمنح المرأة دورها الحقيقي في البناء والتقدم.

نشرت في ايلاف بتاريخ 7 مارس 2010 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com

اللوحة المرفقة للفنانة العراقية التشكيلية رؤيا رؤوف .

شاهد أيضاً

نقطة نظام ضد الفساد والمفسدين والفاسدين

ملاحظة : طلب مني عدد من الاصدقاء العراقيين ان اعيد نشر هذا ” المقال ” …