الرئيسية / فن وموسيقى / كريمة الصقلّي : ظاهرة أطلسية

كريمة الصقلّي : ظاهرة أطلسية


التراث الحي : حالة مغربية
قبل أربع سنوات ، طرق سمعي صوت شجي من إحدى محطات الراديو ، وأنا في سيارتي بإحدى البلدان العربية .. وعجبت جدا من صوت أطربني تماما في زمن كسيح افتقدنا فيه حقا إلى الطرب الحقيقي ! تابعت كي اعرف من تكون صاحبة ذلك الصوت الرخيم ، فقيل لي انه صوت قادم من المملكة المغربية .. كنت اذكر ، ولم أزل ، أيام إقامتي الجميلة في تلك البلاد الأطلسية الرائعة قبل أكثر من ربع قرن ، عندما كنت أستاذا زائرا في جامعة الحسن الثاني بكازابلانكا ، وكم وجدت عناية خاصة من لدن الملك الراحل الحسن الثاني ( رحمه الله ) بالفن الموسيقى والطرب والثقافة ، بل وكان هناك على الساحة المغربية قبل قرابة ثلاثين سنة طبقة متميزة من الفنانين والمطربين الذين تتلون أساليبهم وترتقي مناهجهم مع روعة أدائهم نسوة ورجالا ..
كان تراث المغرب العربي غنيا بالتواصل مع عظمة الأندلس وبقايا الأندلسيين ، ولم يزل المغرب الأقصى ، له ثراؤه وقوة منابعه وتعدد مدارسه .. لم استغرب أن يبرز بين حين وآخر نخبة من المطربين والفنانين الموسيقيين ، واغلبهم لهم بداياتهم الصعبة على أساليب الغناء الأندلسي الجماعي ، والموشحات الجميلة ، والمحليات المغربية المتنوعة ، فمنهم من يبقى على أسلوبه المحلي المغربي مثل المطربة القديرة نعيمة سميح ، ومنهم من يجيد الطرب العربي وخصوصا في تأدية روائع مصر القديمة مثل المطربين الكبيرين عبد الوهاب الدوكالي وعبد الهادي بلخياط .. وكنت استمع إلى جميعهم بعناية كبيرة ، وبالرغم من صعوبة فهم بعض التعابير باللهجة المغربية الدارجة ، إلا أن زمن إقامتي هناك قد علمني كيف اتقّبل تلك اللغة الجميلة المغناة ..

تكوين القدرات الفنية :
تذكرت كل هذا وذاك ، وأنا ازداد شغفا لسماع هذا الصوت الأطلسي الهادر القادم من العاصمة المغربية .. الرباط ، ثم بدأت اعرف الكثير عن صاحبته السيدة كريمة الصقلي ، فهي فنانة مثقفة حقيقية تعشق الغناء منذ صغرها ، وقد طفقت تغني وهي طفلة لا يتجاوز عمرها تسع سنوات ، بل وأنها قد تربّت في عائلة مثقفة ومحافظة في مدينة الدار البيضاء ، ويبدو أن قوة عربيتها وروعة مخارج حروفها قد اكتسبتهما من البيت الذي عاشت فيه تكوينها الأول . لقد تفوقت كريمة في بداياتها الأولى بتأدية أغنيات أم كلثوم الصعبة ، وتفوقت في أداء ( أغدا ألقاك ) .. وبقيت تؤدي وصلاتها لنفسها بين الجدران ، وتتمرّن على أصعب اللزمات الصوتية ، وكلما امتد بها الزمن ، ازدادت مساحة صوتها ، واتسعت أعماق أنفاسها ، وطابت عذوبة حنجرتها ، ونجحت في استهلالاتها الصوتية وقفلاتها الرائعة .. ويبدو أن انطلاقتها جاءت متأخرة بعض الشيء ولكنها انطلقت انطلاقاتها الهادئة الحقيقية مع روائع المطربة الراحلة أسمهان ، فكان أن أجادت الأداء ، ليس بتقليدها ، بل بإتباع نهجها ، على عكس كل من قام بتقليد أسمهان منذ أكثر من خمسين سنة على رحيلها المحزن ..
إن من يقارن بين أداء أسمهان وطريقة كريمة ، سيجد أن الأخيرة لها القدرة على التميز والإبحار في عالم أسمهان الصعب من دون أن تكون نسخة طبق الأصل منها ، ولكن أجدها في قارب أطلسي مغاربي خاص بكريمة ، وهو يعوم بكفاءة في يم بحر الطرب العربي ، على غير قارب اسمهان الذي حطمته بنفسها رحمها الله ، فكانت أن خسرت ثقافتنا وأجيالنا ما كان منتظرا منها لزمن آت !
لقد كان من حسن الحظ ـ أيضا ـ أن أجد أمامي الفنانة كريمة الصقلي وهي تؤدي واحدة من روائع أم كلثوم في باريس ، فكان أن أجادت أغنية ( حلم ) إجادة فائقة ، بحيث كانت تسيطر بقدرتها على التموجات النغمية من خلال المساحة الصوتية الواسعة التي تمتلكها ، وقد وجدتها مطربة قادرة على أن تكون هادئة وسريعة في آن واحد ، بحيث يمكننا القول ، أن مثل هذا الأداء لا يمكن أن يتعلمه صاحبه في معهد أو كلية أو أي مدرسة للأنغام والطرب ، بقدر ما هو موهبة يتحكم فيها صاحبها بعد إعداد وتمرين وبروفات .. لقد حلقّت كريمة الصقلي بعيدا ، وهي تؤدي بعض اعمال ام كلثوم الصعبة ، فوجدتها ترفض ان تكون نسخة طبق الاصل ممن تغّني لهم ، بل ان قدرتها تصل الى جذب المستمع اليها ، وتمييزها عن الأصل ، بحيث يجد الأغنية تمتلك شخصية جديدة وغير مألوفة ابدا .

لماذا كريمة الصقلي ؟
كريمة الصقلي .. اكتب عنها لأنني اعتبرها اليوم هي الوريث الشرعي الوحيد للنهضة الطربية العربية التي عاشها العرب في القرن العشرين من دون مبالغة أبدا .. ولكونها سيدة حقيقية للطرب العربي اليوم بعد رحيل جيل العمالقة العرب الذين سيذكرهم التاريخ بأحرف من نور ! كريمة الصقلي لا يريدون لها أن تشتهر وتذاع كل أغنياتها كونها لا تصفق لهذا الزمن الأجوف الفارغ الذي يعيش فوضى عارمة في بلادة الألحان ، وتيبس للأصوات ، وهزال في الكلمات ! وهناك من يخرج علينا ليتفلسف بقوله أن كريمة لا تعرف إلا تقليد الآخرين ، من دون أن يدرك أمثال هؤلاء الذين فسدت أذواقهم ، وبارت تجارتهم ، وضعفت قيمهم الثقافية العربية .. إن كريمة الصقلي تتفوق على اللحن مهما كان رائعا .. لقد تفوقت في أداء الحان الموسيقار محمد عبد الوهاب وأداء بعض أغنياته بحيث بثت فيها روحا جديدة .. كما تفوقت في أداء بعض أغنيات المطربتين الكبيرتين ليلى مراد وسعاد محمد .. وتبقى حصة الأسد من نصيب أغنيات أسمهان ، فلقد تفوقت كريمة بقوة أدائها ، وروعة شخصيتها ، وسحر حضورها .. فضلا عن إجادتها اداء الجمل اللحنية الصعبة وبصوت رخيم غاية في الجمال .. إن مساحة صوتها العريضة تجعلها قادرة على الانطلاق اوبراليا على المسرح وبإحساس شرقي دافئ ! أقول هذا وأنا متأكد مما أقول ، فالزمن هو الذي سيقول كلمته في نهاية الأمر .

روائع بانتظار صوت كريمة الصقلي
أريد القول أيضا أن ليس العبرة بانتقاد أي مطرب أو مغني يعيد أداء العديد من المقطوعات الغنائية القديمة .. من دون أن يدري أن ما أنتجه القدماء من روائع ومبدعات ، لا يمكن لها أن تموت أبدا ، وكنت أتمنى لو ظهرت الفنانة كريمة الصقلي في زمن محمد القصبجي ، لوجدت نفسها على غير ما تجده اليوم ، بما لديها من قدرات اوبرالية يفتقدها الجميع منذ زمن طويل .. إنها لم تستغل حتى يومنا هذا تلك القدرات الرائعة .. إنني اطلب منها أن تقوم بأداء كل إبداعات محمد القصبجي الصعبة ، وبالأخص رائعة أم كلثوم ( رق الحبيب ) ورائعة أسمهان ( يا طيور ) ، ومن المحتمل أنها قد أدتهما ، ولكن لم نسمع بهما ! هنا ، أريد التشديد عليها لتأديتهما بالطريقة التي تتميز بها ، وبتوزيع اوبرالي جديد .. وأنا واثق تمام الثقة انها ستنتصر انتصارا حقيقيا للفن ألطربي العربي الذي يكاد يموت هذه الأيام على أيدي أبناء جيل جديد .. وعلى أيدي أناس فرضوا أنفسهم على ميدان الغناء لأسباب نفعية ومادية ، فكانوا كالوباء عليه .. إن الفوضى التي يعيشها المجتمع العربي ، ينبغي أن تنتهي نهائيا .. ولكنها لن تنتهي الا من خلال تبلور ظروف مناسبة ، وان تتكامل عناصر النجاح من خلال توفر الكلمة واللحن والأداء .
إن بروز صوت كريمة الصقلي التي اعتبرها الآن أفضل مطربة عربية بعد الجيل السابق ، يعد ظاهرة استثنائية في محيط لم يعد ينجب العمالقة منذ أكثر من خمسين سنة ! ويكاد المغرب يكون حالة استثناء أطلسية على طول تاريخ طويل ، بسبب خصوصية تاريخه ، واستقرار مجتمعه ، واستمرارية الحياة فيه منذ عصور خلت على عكس بيئات عربية أخرى مات فيها كل شيء، وتيبست منها القرائح ، وتبعثرت فيها المواهب والطاقات بسبب انقلابياتها وفوضوياتها . فهل باستطاعة كريمة الصقلي مقاومة هذا الوباء الذي يعم مجتمعاتنا باسم الأغنية السريعة أو الفيديو كليب ؟ هل باستطاعتها أن تحتفظ بقدرتها على الإبداع في عالم يرفض الإبداع الحقيقي ، ويهرع للفوضى والزعيق والذوق البليد ؟ هل باستطاعتها أن توسع قاعدتها الجماهيرية على مر الأيام القادمة .. وهذا ما اتوّقع حصوله حتى وان بقيت طوال حياتها تردد إبداعات القرن الماضي ، وتعيد إنتاج الأغنية العربية حسب أصولها وقواعدها الحقيقية ، لتغدو مدرسة للآخرين وللأجيال القادمة .

الخصائص الفنية
تتميز هذه الفنانة المغربية القديرة بشخصيتها وحشمتها ووقارها ، وأيضا بثقافتها العربية .. كما تتميز بقدرتها على السيطرة على المسرح الذي تغني على خشبته .. ومدى حضورها وجذب كل من يحضر حفلاتها أو يستمع إلى أعمالها .. إنها تدرك وقع الإيقاعات ، فتتناغم مع رفقتها للفرقة الموسيقية التي تصاحبها .. إنها تجيد ـ أيضا ـ إعادة اللزمات أفضل من الأصل في بعض الأحيان ضمن الكوبليه الواحد .. وهي ـ كما وجدتها ـ لها القدرة على أن تتلاعب وتتموج بصوتها بين المقامات العربية الجميلة ، ويساعدها في هذا كله النفس الطويل الذي تمتلكه من دون أن يغدر بها أبدا .. ولم الحظ انها تلحن في الأداء او تنشز في الغناء ، وخصوصا في الطبقات العليا من صوتها ، وهي في ذلك تكون منسجمة أفضل بكثير من أدائها ضمن نطاق القرار .. ولكنني واثق أنها قادرة على تأدية كل الميانات الصعبة ( كما نسميها نحن في العراق ) ، مع صوتها الرخيم ، فجمالياته في وسطيته المثلى بين النعومة والصلابة . وعلى هذا الأساس ، تمنيت أن يعود القصبجي مع عوده إليها ، أو يعود الشيخ زكريا احمد مع نغماته إليها .. أو يعود رياض السنباطي وفريد الأطرش ومحمد عبد الوهاب وغيرهم كي يتأملوا في قدرات كريمة الصقلي ، وينطلقوا معها إلى آفاق الإبداع كما كان ذلك مع أسمهان وأم كلثوم وسعاد محمد وليلى مراد وهدى سلطان وغيرهن .
وأخيرا ، فان الحياة الثقافية العربية بحاجة إلى تجديد دائم لا يستطيع القيام به إلا من كان مؤهلا له ، وأمنيتي من كل المؤسسات الثقافية العربية الوقوف إلى جانب المبدعين الحقيقيين بدل تهميشهم أو إقصائهم .. إن تربية الأجيال مهمة صعبة جدا ، وخصوصا على خصائص الذوق الفنية وتخليصهم من كل هذا الوباء الذي يجتاح حياتنا . واستطيع القول أن الفنانة كريمة الصقلي ظاهرة أطلسية متميزة مع بدايات القرن الواحد والعشرين . تحية مباركة لها ، وستبقى هي المطربة العربية رقم واحد عندي متمنيا لها كل التألق والمزيد من الأعمال الفنية الرائعة ..

نشرت اصلا في الف ياء الزمان ، 11 يناير / كانون الثاني 2010 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com

شاهد أيضاً

فقرات من كلمة الدكتور سيار الجميل في حفل تكريم صديقه الفنان حمودي الحارثي في كندا الحفل اقامه اتحاد الفنانين التشكيليين العراقيين الكنديين يوم 29 /5 / 2011 على قاعة اسيمبلي هول في مدينة تورنتو

ايها الاصدقاء الاعزاء اسعدتم مساء شكرا جزيلا لاتحاد الفنانين العراقيين الكنديين استضافته لي هذه الامسية …