الرئيسية / النقد السياسي والتاريخي / ملاحظات منهجيّة على موسوعة بايوغرافيّة !

ملاحظات منهجيّة على موسوعة بايوغرافيّة !


مقدمة : لماذا هذا ” المقال ” ؟
أرسل لي احد الأصدقاء الاكاديميين العراقيين كتابا نشر الكترونيا بعد نشره ورقيا من قبل مؤسسة علمية عراقية ، وهو يمثّل ” موسوعة ” محلية تتضمن تراجم لأعلام إحدى المدن العراقية العريقة ، وكنت قد سمعت بصدورها قبل أشهر ، وأنها قد سببّت ضجة واعتراضات شديدة من قبل العديد من المثقفين والأسر المحلية ، لأسباب عديدة .. صحيح أن هكذا عمل سيخدم لا محالة الأجيال القادمة في التعرّف على تراجم وسير العشرات من الشخصيات المتنوعة ، التي قدمت أدوارها وخدماتها وإبداعاتها للحياة والتاريخ ، ولكن كنت أتمنى أن يأتي مثل هذا ” العمل ” قليل الهنات ، وأكثر استكمالا للشخصيات ، مع ثبات في الخطة والمنهج ، وإتباع للأمانة التاريخية والموضوعية العلمية ، لا أن تتحكم فيه النزعة الذاتية والمزاجية الشخصية ! وعليه ، ليسمح لي القارئ الكريم أن أوضّح في مقالتي هذه بعض الملاحظات المنهجية قبل أن أجد الوقت الكافي لنقد هذا ” العمل ” نقدا تفصيليا ، وأضع هذا ” العمل ” الذي اسماه صاحبه بـ ” الموسوعة ” على المشرحة ! نعم ، أتمنى أن اخضع هذا ” العمل ” للنقد والتقويم العلمي ، إذ أنني وجدت فيه جملة هائلة من الأخطاء والنواقص والهفوات .. التي يستوجب تصويبها خدمة للكتاب أولا ، ولكل الناس المتميزين ثانيا ، فضلا عن خدمة مدينتهم العريقة ثالثا .. إن هذه ” الملاحظات ” تخّص كل من يعنى بأدب التراجم ومنهج السير والبايوغرافيا .. إنها ملاحظات تأتي قبل الشروع بتقديم تفاصيل واسعة عن هذه ” الموسوعة ” التي تضمنت جملة هنات فاضحة وأخطاء جسيمة ومشكلات كبيرة .. فما هي ملاحظاتي المنهجية الأولى ؟

اولا : الخطة والمنهج
ربما يستطيع مؤلف واحد أن يتجرّد لتأليف كتاب موسوعي كبير ، ولكن شريطة امتلاكه لمقدرات كبيرة من نواح مختلفة ، يستطيع من خلالها أن يسيطر على مادة سير وتراجم أعلام وشخصيات مدينة كبرى .. وإمكانات تؤهله لتأليف موسوعة عنهم ، وقد ظهروا على امتداد قرن كامل . وعادة ما يتم ذلك من خلال فريق عمل حتى يمكن للمؤلف أن يسيطر على المعلومات بدقة متناهية ، وان يحكم منهج العمل في كتابة البايوغرافيات والسير لمختلف الأعلام الذين ظهروا فيها وبمختلف التخصصات والتوجهات والميادين .. انه مشروع كبير بحاجة ماسة إلى فريق عمل ، وان تتبناه مؤسسة علمية او اكاديمية ، وتضع له الخطة والمنهج والسقف الزمني .. بحيث يمكن السيطرة على عملية التأليف بدءا بجمع المعلومات والمادة وانتهاء بوضع اللمسات النهائية .. ومن ثم يخضع العمل لفريق عمل آخر من اجل تقويم المادة التي أعدت منهجيا ضمن فقرات محددة ، بحيث لا يمكن للمؤلفين أو المقيمين الخروج عن فلسفة المنهج الذي اقر العمل به ، وإلا نكون غير محايدين أبدا في تقييم الناس .

ثانيا : مسردات الاسماء
إن العمل الموسوعي للتراجم وسير الأعلام ، ينبغي أن لا يشرع فيه الا بعد تأسيس قوائم ومسردات لكل الذين سيترجم لهم ويكتب عنهم .. أي أن المشروع يفترض أن يتضمن ذكر وسير من كان علما فعلا من الأعلام ، فليس من الصواب أبدا أن يجمع كبار الناس والمشهورين منهم مع أناس لم يسمع بهم العالم ، ولم يتمتعوا بأي درجة من التميّز .. ليس من الصواب أبدا أن نكتب عن كل من نختاره على هوانا من دون أي تمييز بين من هو عَلَم أو غير عَلَم .. فالعَلَم هو الشخص البارز والمتميز بـ Distinguished Personality ، وهو الذي نجح في يكون مرجعا Authority ، أو غدا نجما مبدعا Star .. الخ . لقد وجدت هذا ” الكتاب ” انه قد جمع الغالي بسعر الرخيص في سلة واحدة ، بل واهتم بأناس على حساب أعلام حقيقيين ! وهذا إجحاف تاريخي بحق الجميع ، وان آخرين لم يجدوا في هذا ” العمل ” حتى ذكر أسماءهم ، وهذا حقّهم الطبيعي والمعنوي .. إذ أنهم غيبّوا أو اختزل الكلام عنهم مقارنة مع آخرين من دونهم ! إن منهج التأليف في البايوغرافيات يؤكد على أن المجتمع يحتوي على نخب متنوعة ومن بين هذه النخب ، هناك شخصيات معروفة وكأعلام فعلا اشتهروا بتآليفهم وأعمالهم الكبيرة ومواقفهم وأدوارهم السياسية المشهودة .. وعليه ، فان العمل الموسوعي ينبغي أن يقتصر عليهم لا على ذكر هذا المجهول ونسيان أو تجاهل ذاك المشهور !

ثالثا : الامانة والحيادية
إن من الضرورات التي يلزم بها كل من يشتغل على السير والتراجم ، أن يعامل كل من يترجم لهم بأمانة وبمنتهى الحيادية .. لا أن يدخل المؤلف نفسه كي يشرح ذكرياته ، أو يوّزع آرائه عن هذا أو ذاك ! وليس من حق مؤلف السير والتراجم أن يسترسل في توزيع التهم لهذا ، أو يمنح الأوسمة لذاك ! ليس من حق أي مؤلف حيادي ويتمتع بدرجة من الأمانة العلمية والقيم المنهجية أن يتصرف بحياة الناس وأخلاقهم كما يشاء له مزاجه ! لو كان العمل مجرد مذكرات شخصية للمؤلف أو مجرد ذكريات تاريخية لحياته هو نفسه وخاص به وحده ، فيمكنه ذلك .. أما أن يكون العمل موسوعيا ، فلا يحق له ذلك أبدا . وأقول ، لو كان المؤلف قد اعتنى بدراسة شخصية معينة وألمّ بكل جوانبها وخفاياها .. فيحق له أن يطلق الأحكام عليها .. أما أن يتلاعب بسمعة الناس ، فتلك مسألة خطيرة كان لابد من الانتباه لها ، والإشارة إليها . والخطير في الأمر أن تتبنى جامعة مرموقة نشر هذا ” العمل ” وفيه إساءات بالغة بحق الناس ! إن الأعمال البايوغرافية لا تحاكم الناس على أدوارهم وعلاقاتهم وتصرفاتهم .. بل تقف فقط على سير الأعلام العلمية والأدبية والمواقف السياسية والأدوار الفكرية والمؤلفات ان وجدت .. ناهيكم عن الخدمات والإبداعات ..

رابعا : الآخرون .. أين هم ؟
لا يمكن أبدا أن تنشر ” موسوعة ” للأعلام عن مدينة حضارية زخرت على امتداد قرن كامل بمختلف الشخوص والرجالات الأعلام من علماء وأدباء وشعراء وفقهاء وأطباء وأساتذة وقضاة ووزراء ونواب ومستشارين ومهندسين ومدراء ومؤلفين وخبراء وصناعيين وخطباء ورجال دين وإعلاميين من كّتاب وصحفيين وفنانين ومطربين .. الخ وتخرج على الملأ ، وهي ناقصة على اشد ما يكون النقص ، إذ تجاهلت ذكر العشرات من الأسماء ، وسواء كان ذلك عن قصد أو من دون قصد ، فان ثمة ثغرات لا يمكن تلافيها .. إن الأسماء المغبونة التي لم تذكر بكل منتجاتها وإبداعاتها ، أو مواقفها ونضالاتها ، او ادوارها وخدماتها .. هي أهم بكثير جدا من أسماء مغمورة ومجهولة أو شبه مجهولة ذكرت لأسباب تتعّلق بالمؤلف نفسه ، كأن تكون صداقة شخصية ، أو علاقات ذاتية ، أو عوامل محلية .. إن استبعاد عدد كبير من الشخصيات ، نسوة ورجالا ، وكتابة سيرهم او مجرد ذكرهم .. يعد خللا فاضحا يقلل من قيمة العمل ، بل ويسجل ضده عدة نقاط ضعف لا يمكن أن يقع بها أي باحث حصيف ! وسأّذكر في دراستي النقدية لهذا ” العمل” لاحقا إن شاء الله ، جملة من هذه الشخصيات المهمة التي أسدت للعراق وللثقافة وللإنسانية خدمات كبيرة .

خامسا : الموضوعية بديلا عن الانتقائية
إن من الأمانة والموضوعية أن يكون المؤلف حياديا ومجردا ومنزها عن أي تيار سياسي أو نزعة أيديولوجية .. وهو يكتب عن أعلام اختلفت مشاربهم ، وتباينت مبادئهم، وتنوعت سياساتهم واتجاهاتهم .. إن المؤلف بقدر ما يكتب عن هذا الذي يحمل فكرا قوميا أو بعثيا ، عليه أن يكتب أيضا عمن يحمل فكرا إسلاميا .. أو فكرا ليبراليا أو فكرا راديكاليا أو شيوعيا .. على المؤلف أن لا يجانب الحقيقة من اجل أهوائه ، ومن اجل رغباته ، ومن اجل مزاجه المتقّلب .. قد يتقلب مزاجه بين حين وآخر ، ولكن لا يمكنه أبدا أن يتجاهل ادوار شخصيات علمية وسياسية وفنية .. لم تزل المدينة تلوك ذكرهم بعد مرور سنين على رحيلهم نظير أدوارهم التاريخية ، سواء كانت ايجابية أم سلبية .. خصوصا ونحن نعلم بأن مدينتهم قد حفلت بادوار واسعة وأحداث خطيرة في القرن العشرين ..

سادسا : الكتابة عن الناس بلا مزاجية !
ليس من المعروف ، ولا من الصواب أن يأخذ ـ مثلا ـ كّتاب القصة حصة الأسد كون المؤلف قد اختص بالقصة .. في حين تغمط حصص الآخرين كونهم لم يكونوا قصاصين ! وليس من الصواب أبدا أن تذكر لبعض الأعلام مؤلفاتهم كاملة ، في حين يتجاهل المؤلف مؤلفات آخرين ! ولا يحق للمؤلف إن ذكر عَلَما كونه مديرا دون ذكر بقية المدراء ، او قاضيا دون بقية القضاة ، أو ضابطا دون بقية الضباط .. الخ إن عملا مهلهلا مثل هذا سوف يرفضه التاريخ ، لأن للناس كلهم عدة حقوق معنوية وتاريخية .. فأما أن نذكر جميع النخب ونكتب عن كل واحد منهم ، وأما أن لا نذكر أحدا .. وحتى إن ذكرنا احدهم كما فعل المؤلف ، فهل يحق له أن يذكر احدهم ليس له تأليفا واحدا ويتجاهل ذكر الآخرين ممن كانت لهم مؤلفاتهم وسمعتهم الكبيرة ؟ إن أي عمل موسوعي لا يمكن أن يثبت جدارته الا من خلال المنهج والأمانة .. إن أي عمل موسوعي للسير والتراجم لا يقوم على أساس علاقات المؤلف الشخصية بهذا دون ذاك !

وأخيرا : ماذا اقول ؟
لا يمكن البتة أن نجازف بكتابة موسوعة عن سير وتراجم أعلام من دون أن نتحّرى الدقة في المعلومات ، والتأكد منها قبل نشرها على العالم وعلى المؤسسة التي نشرت العمل تحمل مسؤولية مضامينه التي تحتوي على مثالب عديدة . وعليه ، فان الدقة ملزمة .. لقد اكتشفنا معلومات خاطئة بحاجة إلى تصويب ، ستجد مجالا للنشر بعد اكتمالها .. وكنت أتمنى على مؤلف هذا ” العمل ” أن يقرأ كيفية الكتابة البايوغرافية وفن السير والتراجم الذي يبرع فيه المؤرخون قبل غيرهم من المختصين .
إن هذه ” الملاحظات ” هي بداية لما سأنشره لاحقا ـ بحول الله ـ من تفاصيل موسّعة تخصّ جملة تصويبات ، وذكر أسماء كبيرة من الشخصيات التي غبنها هذا العمل ، وتجاهلها تماما .. فضلا عن تحديد الدور الشخصي الذي أساء لهذا العمل مع نقد بعض المبالغات ونقد بعض الاتهامات ونقد الاستطرادات ونقد التهكمات .. إننا بحاجة ماسة إلى نقد الأخطاء بدل التعمية عليها ، ومجتمعنا بحاجة ماسة إلى أن يبدأ صفحة جديدة تنقلنا إلى موضوعية الأشياء ، وإعطاء كل ذي حق حقه .. وهي حقوق معنوية ورمزية ، ويهدف منها تأسيس انسجام اجتماعي تحتاجه مدينتنا اليوم قبل أي شيء آخر بدل ان تبقى ضمن قوقعتها التي اضّرت بها كثيرا .. سأكون على موعد معكم لوضع هذه ” الموسوعة ” على المشرحة .. فلننتظر !

نشرت في الف ياء الزمان ، بتاريخ 7 ديسمبر 2009 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيّار الجميل
www.sayyaraljamil.com

شاهد أيضاً

على المشرحة.. لا مواربة سياسيّة في الحوار العلمي (الحلقتان الثالثة والرابعة)

ثالثا : الاحرار العرب : مستنيرون لا خونة ! 1/ اخطاء تاريخية وتحريف للتاريخ ويستكمل …