الرئيسية / مقالات / ثورة الأمنيات الجميلة

ثورة الأمنيات الجميلة


تطوير بيداغوجي

إن المدارس والجامعات هي التي تصنع أجيال المستقبل.. والمناهج والأساليب المتقدمة هي التي ترعى المبدعين وتؤهل الأذكياء وتخلق الفرص الثمينة .. وان المتغيرات نحو الأفضل ، لا تتم إلا من خلال التجديد والتطوير في الآليات والإجراءات واستحداث القرارات .. إن مؤسساتنا التربوية والتعليمية في عموم بلادنا العربية ، في حاجة ماسة إلى ذلك كله .. لقد مضت أزمان طوال على بقاء المناهج والآليات القديمة ، من دون أية مستحدثات تتصل بما يجري في بلدان أخرى تبذل الغالي والنفيس من اجل صنع أجيال جديدة مختلفة عن أجيال الماضي . لقد كان ولم يزل العديد من المفكرين الواقعيين ينادون ، ليس بالإصلاح فقط ، بل بتغيير المناهج الدراسية في مدارسنا وجامعاتنا .. ولكن لم نجد أية استجابات تبعث على الأمل ، فكيف بمن كان ولم يزل ينادي بثورة الأمنيات الجميلة ؟
إن أسس التغيير في مناهج التربية والتعليم ، في جميع دولنا ، هي إطلاق حرية التفكير ووجوب تنميته لدى التلاميذ والطلبة، والإفادة من مناهج عالمية معاصرة. عليهم أن يعتمدوا على أنفسهم كي يكتسبوا ثقة عالية بأنفسهم .. عليهم أن يحددوا منذ بداياتهم الأولى أهدافهم في المجتمع ، وما الذي يمكن أن يقدموه إلى الحياة .. عليهم أن يتعلموا كيف يتكلمون ويصوغون عباراتهم اللغوية بلغة مبسطة. عليهم أن يتربوا معرفيا بعيدا عن المحرمات والممنوعات، لكن شريطة أن يعوا مخاطر ما يمكن أن يفعله الإنسان ضد نفسه، وأهله، ومجتمعه، ووطنه، والإنسانية جمعاء. عليهم أن يتربوا على التوازن والقياس ونسبية الأشياء ، ويبتعدوا عن الغلو والتطرف في اتجاه أي فكرة ، أو أيديولوجية ، أو سياسة معينة يلتزمها هذا من دون ذاك. عليهم أن يتعلموا المرونة ، والعفو عند المقدرة، ويجيدوا أساليب التصرف الحضاري في الحياة. عليهم أن يتعلموا من الدين الحنيف دوره الأخلاقي والحضاري في بناء العلاقات البشرية واحترامه ، من دون التوغل في إغراق نفسية الطفل بالمخاوف والرعب ، أو حرق ذهن الطفل بالتعقيدات الفقهية .
إن على السياسة التربوية والتعليمية في دولنا ، أن تخلق الفرص أمام الجيل الجديد للإبداع والابتكار، ليس في أروقة المدارس والمعاهد وحسب، بل في تأسيس نواد وجمعيات ومراكز تربوية يأوي إليها هؤلاء التلاميذ والطلبة. علينا ، أن لا نغرقهم في المشكلات السياسية، وعلينا أن نشبعهم بمعرفة جغرافيتهم وحب أوطانهم ، وان نفرق في تربيتنا بين المصالح والمفاهيم، ولا نخلط المبادئ الوطنية بالقضايا السياسية. علينا أن نخرج قليلا من صوامع تقاليدنا وترسبات انغلاقاتنا، كي يجد الجيل الجديد فرصة للتعرف على شعوب العالم ، ويكتشفوا ثقافات المجتمعات الأخرى .. ولقد أصبح التلفزيون ـ اليوم ـ أعظم وسيلة لنشر الثقافة العامة ومتابعة الاختراعات ومشاهدة الاستكشافات والتمتع بجغرافيات العالم ، وتحليل تواريخ مجتمعاته ، واستعراض فلوكلورياته الشعبية الجميلة .
هناك ـ أيضا ـ أساليب التربية والتدريس ، سواء غيّرنا مناهجنا نحو الأحسن أم لا. المشكلة تكمن في أساليب التدريس ، والإرشاد والتربية والتعليم ، القائمة اليوم على الحشو والتلقين وإهمال مفهوم النقد الذاتي وتطويره. إن جيلا عريضا اليوم في كل مجتمعاتنا لا يعرف إلا المكررات والمستنسخات وحفظ بضع عبارات .. ولما كان يعيش هو نفسه بين التناقضات ، فلقد ارتضى وجودها ، ومن دون أن يشعر ولو لمرة واحدة بخطئها ، كونه مفتقد الوعي بها ! فتجده يؤمن بالأساطير والخرافات والشعوذات وهو يقود سيارة من آخر الموديلات .. إن من لا يفكر جديا في تناقضات مجتمعاته ، فان الوسائل الحديثة والمبتكرات المعاصرة تزيده تشويشا ، وفوضى فكرية ، وتهتكا ثقافيا ، وجنوحا أخلاقيا، بحيث تفقده أي حيوية ، وتجعله من المقلدين الببغاويين، قليل المدركات، ضعيف المفاهيم، هزيل المنطق.
على الجميع أن ينادي مطالبا بتوسيع الرؤية لتحديث المنظومة التربوية والتعليمية في دولنا ومجتمعاتنا كلها، ليس بإصلاح المناهج وحسب، بل بالنظر في أعداد المؤهلين لها من الكوادر وطواقم العمل ، وتأهيلهم على أسس المستقبل وبنائه . وان يؤسس ذلك كضرورة حياة أو موت لمصيرنا ومستقبلنا، علما أن ضرورات التحديث تقتضي أن يتعلم الإنسان كل شيء من دون أن ينغلق على مفاهيم محددة ويخرج على العالم من دون أي إدراك حقيقي له. هنا ينبغي اتخاذ إجراءات تربوية متقدمة، تؤسس من خلال ورش عمل لأعداد كبرى من المعلمين والمدرسين ، تناقش فيها مناهج متطورة في التربية والتعليم، كي ينجحوا في بناء جيل جديد يجهد نفسه ويجتهد أدبيا وفنيا وإبداعيا .
إن مجتمعاتنا لابد أن تتعلم كيف تكون جزءا من هذا العالم المعاصر ، بعيدا عن النرجسية والشوفينية والأحادية ، وكلها صفات التخلف الخ… وينبغي إدخال مناهج ومواد جديدة تتعلق أساسا بالحقوق والواجبات والضمانات للإنسان من منظور اشمل بكثير من المواطنة، ثم تعزيز مواد الاجتماعيات لأهميتها (سمعت أن بعض الدول العربية ألغت تدريس التاريخ وحجّمت من تدريس الجغرافيا، وهذا من اكبر الأخطاء الإستراتيجية )، ويستلزم أن يدرس المرء في المرحلة الثانوية مادتي الفلسفة والمنطق وتاريخ الفكر الإنساني ، من اجل بناء عقلية جديدة ، أو خلق عقل جديد في استطاعته استيعاب مستجدات العصر، ويكون قادراً على مساءلة الذات والبحث عن أجوبة لهل ، ثم تحصين الجيل الجديد في إطار الانفتاح على العالم كله بمختلف الوسائل والأدوات .
وأخيرا ، أناشد كل الزعماء والمشرعين والمسؤولين العرب ، أن يراعوا هذا الجانب الحيوي من اجل خدمة أجيالنا الجديدة كلها ، كي تأخذ طريقها نحو الحياة المعاصرة ، ومشاركتها للمتغيرات الحضارية ، بعيدا عن العنف ومسبباته ، وبعيدا عن الإرهاب وتداعياته، وبعيدا عن أي أجندة مهيمنة لا تتفق والقيم الإنسانية. عندها سنحقق ثورة الأمنيات الجميلة .

نشرت في البيان الاماراتية ، 25 نوفمبر 2009 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
WWW.sayyaraljamil.com

شاهد أيضاً

زعامات ورزايا .. ورئاسات بلا مزايا

 الزعامة غير الرئاسة، والرئاسة غير الإدارة، والإدارة غير القضاء. لقد مضى زمن الزعامات الحقيقية، وماتت …