الرئيسية / النقد السياسي والتاريخي / شتراوس : رحيل رجل الانسنة والتناقضات !

شتراوس : رحيل رجل الانسنة والتناقضات !

رحل قبل أيام احد أقطاب الفكر الفرنسي ، كلود ليفي شتراوس Claude Lévi-Strauss الذي مات عن عمر تجاوز مئة سنة . ويعتبر احد أعمدة العالم في الانثربولوجيا ( = علم الإنسان ) . ولد في بروكسل في 28 نوفمبر 1908.. ورحل بعد أن شهد وعاش كل القرن العشرين . اختط منهجا له ورسّخه من خلال مدرسته التي انتمى إليها العشرات من الدارسين والباحثين في العالم .. وهو من جيل رواد القرن العشرين الذين أثاروا جدلا كبيرا بأفكارهم ونظرياتهم وطروحاتهم .. يمتد من أرومة يهودية ، وعاش منذ طفولته ذكيا يفكر في الأشياء وصناعتها ، وبقي طوال حياته يهتم بجذور الإنسان لا بحاضره أبدا ، ويعشق بقايا الثقافات الاجتماعية القديمة ، ويحاول إيجاد حلقة ترابط بينها . درس الفلسفة ، ولكنه تمرد عليها ، كونه وجدها مجرد نظريات لا تخدم مجتمعات الدنيا ، وأعجب منذ بداياته بكارل ماركس والتحق بالحزب الاشتراكي ، وآمن بالماديات ولم يؤمن بالروحيات ونفر من الأديان كما بدا للعالم في بداياته ، ولكنه عاد يحترم الأديان ويتسامح معها ، على الرغم من بقائه لا يعير أية أهمية للمسائل الدينية .. ومن اجل إكمال أطروحته ، رحل إلى البرازيل ليدرس علم الاجتماع مع بدايات تكوينه كعلم قائم بذاته ، وهناك اكتشف أشياء جديدة في أمريكا الجنوبية .. وعشق الاهتمام بعلم الإنسان الذي كان لعلماء أميركيين جهودهم فيه .. عاش شتراوس بين السكان الأصليين من الهنود الحمر ، ومهر في معرفة ثقافتهم المتوارثة وفولكلورهم وتقاليدهم ، فكانت تجربته الأولى منطلقا حقيقيا له لتأسيس علم الانسنة على يديه .. اصدر أفكاره الأولى عام 1948 ، ثم عاد إلى فرنسا ، وقدّم أطروحته عن المشاكل النظرية للقرابة عام 1949 ، وأعقبها بنظريته الموسّعة في كتابه الشهير ” مدارات حزينة ” المنشور 1955 ، فاشتهر من خلاله شهرة عريضة بعد أن اهتم به كبار علماء فرنسا وفلاسفتها ، ومن بينهم : موريس بلانشو وجورج باتاي وميشيل ليريس وريموند أرون وغيرهم ، فانتقل شتراوس من ردهات الجامعة إلى مهنة الكتابة ، ولكنه ارتقى بعدها ليكون أستاذ في ” كوليج دي فرانس ” عام 1959 ، وشغل كرسي الانثربولوجيا الاجتماعية ، ثم أبحر في اعماق الانسنة مؤسسا لمنهج خاص في الانثربولوجيا . لقد بقيت تجربته مع الهنود الحمر والدفاع عن حقوقهم ، حية ترافقه في دفاعه عنهم وعن أنماط عيشهم .. وبقيت له حظوته عندهم ، فاشتهر في البرازيل خصوصا بعد مساهمته في تأسيس جامعة ساوباولو .
لقد كان شتراوس موسوعي التفكير في دراسته للانسنة ، ومعالجاته التحليلية للبنى الاجتماعية للإنسان في جذوره الثقافية ، من خلال العادات والتقاليد والأفكار وتلاقحها من جيل لآخر .. ولعل نظريته عن ” أنظمة القرابة ” التي تدارسها انثربولوجيا ، قد جعلته واحدا من فلاسفة البنيوية في القرن العشرين ، وسيبقى تأثيره كبيرا في تطور العلوم الاجتماعية على امتداد مستقبل طويل . إن أهمية إبداعاته تكمن أيضا في مفهوم التواصل ، إذ يرى أن المجتمعات كلها ترجع في أصولها إلى وحدة نظام فيزيقي ، تباينت ثقافاته من زمان إلى آخر ، ومن مكان إلى مكان ، فاتخذ كل زمان له موديلاته ، واتخذ كل مكان له رموزه .
اكتشف شتراوس أن البشر يجمعهم التواصل من خلال ما تعبر عنه الثقافات على وجه الأرض ، سواء بممتلكاتها وتشيؤاتها أم بكلماتها وتعابيرها ، أم برموزها وشخوصها .. وكل ثقافة إنسانية قد تأثرت بالبيئة التي عاشت فيها ، واكتسبت طبيعتها ومواصفاتها كاملة . نجح في تأسيس منهجية جديدة لها جديّتها وتفاصيلها العلمية ، مستفيدا من العلوم الألسنية والبنيوية على الرغم من انه يعلن دوما عن انتمائه الى القرن التاسع عشر كون أفكاره متجذرة هناك ، دون القرن العشرين . حلل انساق الفكر المتوحش والتنميط الثقافي الذي ينتجه لتسطيح التباينات الجوهرية بين التمدن والتخلف ، مكرسّا مفاهيمه لتمجيد الحضارة الغربية ، ولم ير في كل جنبات الإنسانية أية إجابات تسكته ! ويبدو انه كان يناقض نفسه من زمن إلى آخر ، اذ سرعان ما كان يتخلى عن تصريحاته قبل سنين ليقول بأنه كان يعيش في زمن عدواني ! بقي بعيدا عن اليمين وعن اليسار معا ، وبقي قلقا جراء كارثة الانفجار السكاني ! وقد دعا إلى أن تكون الثقافات المدنية صّماء ، فاعتبر مشرعنا للعنصرية .. ولكن العولمة قد جرفت كل أفكاره ، علما بأن البعض يصف قلقه بالمشروعية نظرا لما يحدث من اختراقات وانسحاقات للثقافات الحية .

كان لشتراوس موقفه السلبي من العرب والمضاد للإسلام والمسلمين أجمعين ، وكان مستفزا لطلبته منهم ، وملاطفا للبوذيين ، ومشاكسا للمسيحيين .. وتتضح تناقضاته من سلوكه ، إذ يبدو انه مشبّع بالكراهية من دون أن يستمع إلى أي حوار .. وبقدر ما يتهم الإسلام بالجمود ، فالكاثوليكية المسيحية متهمة به أيضا ، ولكنه يدين الإسلام بالعزلة من دون أن يسمح للآخرين بأن يساهموا فيه ! وبالرغم من جرح الهنود الحمر الذي أراد تضميده ، وبالرغم من عدم تأييده إسرائيل تأييدا أعمى ، الا انه كان يقول أن ” اللقاءات التي جمعته بالعرب اوحت له بالنفور منهم “! وبالرغم من قضائه أشهرا في بنغلادش ، إلا انه لم يحس بأي ميل لها أو لسكانها ! إن يهوديته لم تكن بالنسبة له إلا جذرا من أبوين أو تذكارا ليس إلا ! وقد شكّلت زيارته لإسرائيل التي تردد في القيام بها ، عبئا نفسيا وتجربة مؤلمة ـ كما وصفها ـ كونها أعادته إلى جذور لم يعترف بها ! أما بالنسبة لقضية الجزائر التحررية ، فكان متذبذبا أيضا .

نشرت في البيان الاماراتية 11 نوفمبر 2009 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com

شاهد أيضاً

على المشرحة.. لا مواربة سياسيّة في الحوار العلمي (الحلقتان الثالثة والرابعة)

ثالثا : الاحرار العرب : مستنيرون لا خونة ! 1/ اخطاء تاريخية وتحريف للتاريخ ويستكمل …