الرئيسية / النقد السياسي والتاريخي / مكابدات امرأة عراقيّة – الحلقة الثانية – جدليّة الموصد والمفتوح

مكابدات امرأة عراقيّة – الحلقة الثانية – جدليّة الموصد والمفتوح



غلاف كتاب يوميات المدن

توظيف الرموز التاريخية
نعم ، هذه حلقة أخرى ، نعيش فيها معا رفقة كتاب ” يوميات المدن ” للروائية العراقية السيدة لطفية الدليمي التي قدمت لنا تسجيلا فنيا رائعا في عملها ، وفلسفة معمقة عن الوجود بالرغم من بلوغ العدم عندها مداه الكبير .. في ذكرياتها المخصبة لكل من الذات والموضوع .. في كل سياقات المدن التي مرّت بها وعاشت أيامها فيها .. إن أروع ما أدهشني فنيا ، قدرتها على مجادلة التاريخ ، وكأنها تعيش ، أو أنها عاشت صوره وألوانه ، أشكاله ومضامينه ، ونجحت في إعادة رسمه في لوحات مختزلة وبأسطر أو كلمات عابرة ، لكنها تحمل جملة من المعاني الواسعة .. إن ابرز ما شدّني فنيا في هذا العمل ، خطاب صاحبته لمن له القدرة على فهمها أولا ، ولن يفهمها أحد إن لم يكن على درجة عالية من الثقافة ، وخصوصا في جانبين اثنين : فلسفية وتاريخية .. فضلا عن كونها تقدم عملا فنيا يعج بالصور والأشكال ، بل ويتضّمن عدة رسائل فكر وفن ، ويقّدم صورة حية عن مكابدات امرأة عراقية عرفت تماما معنى العراق .. وصوّرت للعالم طبيعة العراقيين بين انفتاحهم من خلال النوافذ العالية وبين انغلاقهم من خلال أبوابهم التحتية الموصودة .. حتى تصل بعد أن تجول في مدن متنوعة في هذا العالم .. إلى التعريف بفلسفة الانتروبيا بعد أن عرف العالم كيف كان العراقيون يجترحون الخلود منذ آلاف السنين ، ولكنهم اليوم خلقوا نقيضها في عالم انتروبيا موحش ! والانتروبيا تعني حصيلة التبدد غير القابلة للاسترجاع ، حسب تعريف اسحق عظيموف في كتابه ” أفكار العلم العظيمة ” ( ص 185) .

طعنة بغداد .. قاسية نجلاء
بغداد هي العراق كونها قلبه النابض بالحياة .. لعل أروع ما تضمنته ” يوميات المدن” تلك الذكريات المرة عن مدينة عاشت في قلب العالم ، ولكنها افتقدت حريتها منذ خمسين سنة ! إنها بغداد التي افتقدت عظمتها في فجر يوم اسود .. ولم تزل الاحتفالات تقام بتقاليد جاهلية .. ولم تزل الهوسات تردد بكل فوضوية .. استمرارا مع الأيام الكالحة التي سحقت فيها الكرامة العراقية وسقطت معها الآلاف المؤلفة من الشباب طعاما للعدم .. وحلت العداوات بين الملل والطوائف .. ووصل المتوحشون الجدد كي ينحروا حتى النسوة من الأعناق .. تقف صاحبتنا التي كانت قد ترّبت في زمن رائع بقلب بغداد ، وجعلت ساحة التحرير من ورائها ، فهي ساحة كانت ولم تزل مأهولة بالهوس والصراخات ، وبالرعب والإعدامات ، ومن ثم بالغزو والدبابات ونسوة ملفعات بالسواد .. ونحن نخبة نقف بعيدا مع لطفية التي تمّثل جيل الاجتراحات والإبداع .. نشهد غرق السفينة بمن فيها ، والكل يفتك باللحظة الممكنة ، والكل يطعن الموت ( ص 29 ) ..
نتابع سيل الحكايات ـ بفنية عالية المستوى وحبكة ماهرة ـ ، تلك التي يرويها ملفقو التاريخ ، وأولئك الذين يهذون في الفضائيات ( ص 41 ) وكلهم يعيشون ببلادة وغباوة وانعدام إحساس .. قبل أن يولد جيل لم يزل يعيش تحجرا وقساوة وانعدام ضمير ! نعم ، نجد صاحبتنا لطفية تعيش لحظة الموت وهي ترى انشطار العراق .. إنها لحظة الزمن المرير ، وقد نجحت في تصويره أروع تصوير .. حتى وقفت على مدينة كئيبة اعتصرتها الدماء ، وأحرقتها آبار النفط ، وهي تردد ذكر الجنيد والسهروردي وزبيدة والعباسة ورابعة والحلاج وأبو نؤاس والشريف الرضي .. ( ص 49 ) . انه توظيف فني رائع لتاريخ لم تعد الأجيال تردده ، وحتى إن سمعوا به ، فان الناس قد تبدلت بغير الناس .. لم يعرف احد اليوم قيمته بعد ان تقلبت بهم الأزمان الصعبة ! كما كثر اعداء العراق ، ومن يعادي العراق يعادي تاريخه الحضاري ، ويثلم دوره الانساني ، ولا يعمل الا على تشويه صفحاته الرائعة والاساءة الى رموزه .

الرمز الاحمر القاني وقصة التوحش
لم تقتصر لطفية على ترميز تلك الاضاءات الرائعة الخضراء ، بل انتقلت من احتفالية للمتنبي في زيورخ بدعوة الشاعر علي الشلاه إلى مجالسة ابن رشد في حفل شاي .. بقي الشاي ، يشكّل عند كاتبتنا ضرورة لها معنى خصب ! لقد أترعت يومياتها بشرب الشاي ، واحتسائه ليل نهار حتى بدا لي وكأنه يمثّل رمزا عراقيا بلونه الأحمر القاني .. فهو ليس اسودا كما عند المصريين ، ولا ورديا كما عند أهل بلاد الشام .. انه يزهو عراقيا وبامتياز منذ زمن طويل لأناس ربما كانوا طيبين ، ولكنهم غدوا لا يعرفون إلا الأحمر القاني ! وإذا أرادت الكاتبة أن تختزلهم جميعا ببغداد ، فأنني أجدهم في كل بقعة من ارض العراق .. ربما اختزلت العراق كله ببغداد التي كانت تحتضر أمام أعيننا ( ص 157 ) . بغداد .. آه كم جنينا عليك عندما فتحنا أبواب الموت عليك .. لأننا شئنا أن نبددها ، وشئنا أن نضيعها وهي تشهق بألف ميت وبألف جدار ينهض من أحشائها ليعلن العداء عن وراء الجدار .. الأمكنة تعادي الحياة ، وهي تتواطئ مع الموت ( ص 158 ) .
لقد انتصرت لطفية الدليمي لمعرفة العلة والسبب بعد أن غزا أولئك المتوحشون بغداد بكل أحقادهم وأمراضهم النفسية القاتلة .. كما نجحت هذه المرأة الذكية أن تختزل معضلة المجتمع العراقي الذي صافح الموت بشكل علني ، فتحوّل المكان إلى عدو ، وبادله الناس الكراهية والتوجس ، فأعلن بأنه لا يحب أحدا ، فبادلناه الخيانة ! إن كاتبتنا تختزل المأساة بفقرة اعتبرها من أروع ما كتب عن العراق ، وبصراحة متناهية .. تقول : ” بغداد غدت مكانا معاديا للحياة ، هكذا أصبحت المدينة منذ نحو خمسين سنة ، حين صحت على سحل جثث وتقطيع أوصال وحرق محطات وقود ونهب قصور ملوك وتدمير مبان وتعليق مصلوبين في الطرقات ، وصارت أشد عداء بعد خمس من سنوات الاضطراب والفتك وتحولت إلى ابتكار أشكال جديدة للعداء بين مواطنيها وتبارى أبناؤها الدمويون في تحويلها إلى ميادين لسفك الدم على هوية سياسية طوال أربعين عاما ، وعلى هوية عرقية وطائفية طوال حروب وغزوات ( ص 158 ) .

التراجع والانغلاق على رقصة الماريز
كم كان العراق ـ مرموزا من الناحية الفنية ببغداد ـ بحاجة ماسة إلى الحكمة والعقل والتجربة ، إذ نمت الإيديولوجيات والنظرية القومية في القرن العشرين ، ورحلت قبل رحيلنا بعد أن أشاعت الطوباوية والشمولية من قبل الحزب الواحد وجداراته السامقة .. انفجر القيح الذي احتمى بالورم عقودا من السنين ليخصب كل الصراعات الإقليمية والطائفية والعرقية .. ولكن في طرز جديدة وجدران جديدة بالفصل بين الأديان بين الطوائف والملل والأعراق .. الفصل العنصري والمذهبي وكلها مؤسسة على أوهام وأساطير .. يتعّصب لها كل المهووسون كونهم أنقياء .. المرأة انسحقت وأقصيت عن المشهد الأمامي في الحياة ( ص 164 ) ، وحجبها وشلّ قدراتها وجعلها جنسا شريرا ليس له الا أن يفسد المجتمع ( أو : الأمّة ـ كما يسمونها ـ ) ! وتنتهي الكاتبة إلى أن هذا العزل وهذه الثقافة ستفضي إلى ظهور جيل دموي آخر مقموع وقامع ، جهول وجاهل ومنقطع عن سبل الحضارة وأخلاقيات التمدن والسلوك الإنساني السوي ( ص 164 ) .
منذ آلاف السنين ونحن ندفع فاتورة النفط والقار بالنار والأحجار .. وصولا إلى عبادة (بطل) مجنون نخترعه ونركض وراءه ، وما أن يسقط حتى نسحقه بأرجلنا ثم ننوح عليه .. وانتهاء إلى المارينز الذين هتكوا تاريخنا الحضاري .. دعوني انقل هذه الصورة المعبرة من آلاف صور الهتك : ” أدخل بيتي الذي اقتحمه المارينز ونثروه أشلاء ، أجد ابن رشد شاخصا على الرف الأوسط لمكتبتي الكبيرة التي تواجه الباب . أرى دموعا متحجرة في مآقيه ، أرى ابن طفيل يواسي الجاحظ وهما مرميان على الأرائك الخضراء مزقا مزقا وارى فريد الدين العطار يحاور عنقاءه بمنطق اليوم ، أرى شتاينبك يكظم غضبا وأندريه جيد يحاور أبو نواس ويحتسيان ثمالة كأس عثرا على شرابها في خزانتي القديمة ، أرى مجلدات ألف ليلة طبعة بولاق تبحر في ماء انسكب من المزهريات التي حطمها المارينز .. ” ( ص 92) . إن البيت مستباح ، وقد تحطم فيه كل ما تبقى من أشياء جميلة ، وما زال العصف شديدا يتعذر التحكم فيه والصراخ يعلو في كل مكان منه مع دمدمة الانفجارات القاتلة ! لقد أصبحت مدينة للأشباح والزوال ..

ذكرى هيروشيما أم فناء العراق ؟
في خضم مكابداتها المريرة ، أرادت صاحبتنا ان تشعل شمعة لمناسبة عيد ميلادها في 7 مارس ، فقدته بحادث مأساوي ، فطلبت من الصديق الشاعر باسم فرات وزوجته ، وهما يعيشان في هيروشيما ان يشعلا شمعة ويضعا زهرة كبيرة بيضاء عند نصب ضحايا هيروشيما .. وأردفت تقول : ” أردت أن أشير الينا نحن الضحايا الأحياء للسياسة ذاتها . ضحايا نتداول الحياة افتراضيا ، لأننا بلا أية إمكانات للحياة في بلد الموت والموتى فالكل ، في حساب الجرد الأخير ، مرهون للإبادة المتاحة والموت المجاني بقنابل ومتفجرات ، لو جمعنا قواها خلال اعوام العنف الاربعة في العراق ومدنه ، لاكتشفنا أنها تفوق مئات المرات قنبلة هيروشيما ” ( ص 165- 166 ) .
وقبل أن اختتم هذه الحلقة ، كنت أتمنى على مؤلفتنا أن توضح للقارئ العربي خصوصا ما الذي تعنيه بعض المرادفات العراقية ، مثل : زهور الجهنميات ( ص 63 ) ، سماورات خزفية ( ص 69 ، 75 ) ، مشربيات وشناشيل ( ص 105 ) وغيرها . دعوني أتوقف الآن على أمل التواصل معكم والحلقة الثالثة من مكابدات امرأة عراقية ، عنوانها : من اجتراح الخلود إلى هوس الانتروبيا .

نشرت في الف ياء الزمان ، 9 نوفمبر / تشرين الثاني 2009 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com

انتظروا الحلقة الثالثة



الحلقة الأولى من المقال
مكابدات امرأة عراقية -الحلقة الأولى- فلسفة البوح بأسرار المدن

شاهد أيضاً

على المشرحة.. لا مواربة سياسيّة في الحوار العلمي (الحلقتان الثالثة والرابعة)

ثالثا : الاحرار العرب : مستنيرون لا خونة ! 1/ اخطاء تاريخية وتحريف للتاريخ ويستكمل …