الرئيسية / افكار / الأبواب المنغلقة والنوافذ المفتوحة

الأبواب المنغلقة والنوافذ المفتوحة


الانغلاق والانفتاح
ان مسألة الانغلاق الفكري والسياسي والاجتماعي لا تخص الانسان العربي وحده في مجتمعاتنا بالشرق الاوسط .. ولا تخص البسطاء والجهلة فقط ، بل تشمل حتى اولئك الذين يحملون قصاصات ورقية باسم شهادات عليا ينتهون في حالة من الانغلاق حتى وهم يقرأون في جامعات متقدمة غربية ، اذ لا يعرفون من الغرب الا اسمه ، بل ويذهبون اليه ويرجعون او لا يرجعون ، وهم مشحونون بالعداء لا لسياساته وممارساته ومواقفه ، بل لكل منجزاته ومتغيراته وثقافات شعوبه .. اذ ليس لهم القدرة على المشاركة في الحياة الغربية ، فكيف بالاندماج الثقافي .. انهم يذهبون ويرجعون وكأنهم مثلما ذهبوا رجعوا من دون اي ثقافة ولا اي اطلاع ولا اي تجربة ولا اي مشاركة ولا اي معرفة للحياة .. لننظر مجتمعات الشرق الاوسط قاطبة ، ثم نحكم على حالات التقهقر التي تعيشها وهي منغلقة على نفسها تماما ! فما الذي يمكن فعله ازاء هذه البنية الصلدة من التفكير ؟
ان ثمة مجتمعات داخلية تصاحبها ازدواجية معايير فهي ليست صاحبة تفكير منفتح حسب ، بل انها ليست صاحبة تفكير واضح .. انها تتعامل بازدواجية وبثنائيات بل باكثر من صيغة ازاء اي قضية ، فتجدنا نعيش فوضى فكرية عارمة منذ اكثر من خمسين سنة في اغلب مجتمعاتنا . ان المشكلة ليست فقط في مجتمعات عربية بحيث نقول لقد تغير المجتمع البدوي وتغير الريف في الكثير من الدول العربية ، كما تغيرت العواصم العربية ! المشكلة في مجتمعات الشرق الاوسط قاطبة ، بل اجد ان بعض المجتمعات العربية التي كانت بدوية صرفة قبل اربعين سنة من اليوم ، تجدها اليوم يسودها النظام على احسن ما يكون ، بل وتجد البدو السابقين يتصرفون بكل لباقة وهم يلبسون انظف الملابس ويتعطرون ويعرفون كيف ينظمون انفسهم .. المشكلة في مجتمعات كانت تسمي نفسها حضرية ، وتجدها اليوم كسيحة تماما عن اداء وظائفها في الحياة ، كونها اختلطت وتقلصت حضريتها اولا ، وانها تعرضت لسياسات همجية فانكمشت حيويتها ثانيا .

مشكلة التخلف .. اجتماعية قبل ان تكون سياسية !
ان مجتمعات الشرق الاوسط كلها متخلفة على اشد ما يكون التخلف .. فالتخلف لا ينحصر بالعرب وحدهم ، كما يشاع في ادبيات واعلاميات مضادة لهم ، لا حصر لها ، وكأن جيرانهم من الاقوام الاخرى قد اصبحوا متحضرين ومشاركين في الحضارة الانسانية وهم ما زالوا يتعاملون بمنطق العصور الوسطى او بمنطق القبائل البدائية ! وسواء دخلت التكنولوجيا والتلفزيون والانترنيت الى المجتمعات العربية ام لم تدخل فالمشكلة ليست احادية بهذا المجتمع دون غيره ، ان الصحافة والراديو والسينما قد وجدتا منذ عشرات السنين ولم يدرك المجتمع منها شيئا ، بل انني وجدت كبار المتخصصين وهم يعيشون في الغرب وما زالوا يؤدون تقاليدهم الاجتماعية القديمة على افضل ما يكون ، ولم ينفكوا ابدا من خصالهم التي تربوا عليها في مجتمعاتهم الكسيحة .. ان المجتمعات لا تتحول عن تقاليدها وعاداتها وافكارها بمجرد وجود تكنولوجيا وابنية وشوارع ما لم تتغير الذهنية المسيطرة على التفكير .. ما لم تتغير اساليب التعليم والتربويات .. ما لم تحدث نقلة نوعية في تنمية التفكير .. ما لم تفتح النوافذ لتغيير الهواء الفاسد ، ما لم تؤمن المجتمعات بالتمدن الحقيقي وتصبح مالكة لحرياتها في الاعتقاد والتفكير والاختيار .. ما لم تتخلص من ربقة العقائد والايديولوجيات السياسية الاحادية .. ما لم تكن حيادية في تقييم الاشياء ..

مشكلة الوعي : هل الاسلام مسؤولا ؟
هل يمكننا ان نحصر الاسباب حول غيبوبة الوعي وتعطل العقل في سبب واحد ؟ هل يمكننا القول ان المشكلة الاساسية في الاسلام كدين ؟ ام في المؤسسة الدينية وشيوخ الدين ؟ هل يدعو الاسلام نفسه الى العشائرية والقبلية ، والى الطائفية المقيتة ..والى التعصّب الاعمى ، او الى الانقسامات الاجتماعية ؟ اسأل : هل المشكلة في الاسلام ام في الدين ؟ واذا كان الاسلام فهل هو الاسلام السياسي ام الاسلام الحضاري ؟ هل الاسلام لم يقبل بالاجتهاد ؟ ولم يقبل بالمقاصد ؟ ولم يقبل بالاصلاح ؟ ولم يقبل بالضرورات ؟ ولم يقبل بالفقه والرأي والاستحسان سواء كان قديما ام جديدا ؟ ام المشكلة في المؤسسة الدينية التي غدت حجر عثرة امام التغيير ؟ علما بأنها لم تقف ضده وضد منجزات القرنين الثالث والرابع الهجريين وصولا حتى القرن العشرين؟ فهل منعت المؤسسة الدينية الفيلسوف ابن رشد ان يكون استاذا للفلسفة في العالم ؟ هل منعت المؤسسة الدينية محمد اقبال من قول الشعر ؟ هل منع الازهر ام كلثوم ان لا تغنّي وتطرب الناس ؟ هل وقفت المؤسسة الدينية ضد تحرر المرأة في العراق ابان الخمسينيات والستينيات ؟ ام ان المشكلة اليوم قد خلقتها الاحزاب الدينية المتعصبة التي لاقت تأييدا من رجال التابو الذين يسمون انفسهم بشيوخ الاسلام ومراجعه العظام ؟ ان هناك ثلاثة اصناف من هؤلاء الشيوخ : 1) علماء دين وفقهاء ومجتهدين كبار ليست لهم الا مؤسساتهم وحوزتهم بدأوا يتدخلون في شؤون الدولة والمجتمع معا .. 2) ووعاظ سلاطين معممين كيفما يكون رب الدار فهم يرقصون .. 3) ومشايخ وملالي وسدنة جوامع وحسينيات لا تأثير لهم الا في دواخل اماكن عباداتهم ، ولكن يعبرون اليوم عن مصالحهم بالتعصبات والتشنجات .. كل هؤلاء قد انتقلوا اليوم من وظائفهم الاجتماعية والاخلاقية والفقهية والوعظية ( وحتى ان كانوا اصحاب مصالح دنيوية تجارية ) التي هم افضل من يقوم بها الى ساسة واعلاميين واصحاب قرار ونواب واصحاب مصالح سياسية واعلامية وتشريعية باسم الاسلام السياسي والاحزاب الدينية ، فقد حلت الكارثة ..
ان الدين لا يمكن ان تنزعه من ضمائر الناس في أي بقعة من هذا الوجود ، ولم يتعارض ان كان حضاريا ومتسامحا مع تقدم الانسان لكثرة ما فيه من ابواب وفرص اجتهاد ، وهذا ما جرى على امتداد مئات السنين ، فهو بقدر ما فيه من ابواب مغلقة ، فانه يأذن بنوافذ مفتوحة .. ولكن المشكلة ان حل الاسلام السياسي فهو لا يشارك في هندسة الحياة بل يعمل على بعثرتها في المجتمع .. انك تستطيع ضبط اهواءه في المجتمع باعتبار ان قوته اعتبارية ومعنوية ولكن لا تستطيع مقاومة اجندته في الدولة لامتلاكه السلاح والسلطة .. وعليه ، فان مشكلتنا ليس مع الاسلام بحد ذاته ، بل المعضلة ان اصبح ايديولوجيا سياسية مهيمنة تفرض اجندتها الاحادية على كل الحياة الدنيوية ففي ذلك قتل للحياة المدنية المعاصرة التي لا يمكن ان يستجيب لها رجال الدين مع مؤسساتهم كونها تقضي على مصالحهم وتكسباتهم وتمثيلياتهم والاعيبهم .. ان المجتمع الواعي سيكتشفهم ، ولكن ليس باستطاعته مواجهتهم ، ذلك ان المجتمعات قاطبة معهم ، فهم يتمسكون باسلحة المجتمع ، فكيف ان حلّت السلطة بايديهم ؟؟

الغلو والتطرف في العقائد والايديولوجيات
ان المشكلة ليست في الاديان بقدر ما تكمن في الغلو والتعصب ونحن نعالج غيبوبة الوعي .. المشكلة في كيفية صناعة المجتمع المدني بعيدا عن اي حزب ديني متعصب او تيار ديني متطرف .. المشكلة تكمن في كيفية اقناع من يمّثل هذا الطيف الملتهب بأن كل شيء نسبي في هذه الحياة وليس هناك هذا الكم الواسع من المطلقات التي لا يمكن تصديقها تحت اي باب من التفكير .. المشكلة هو كيفية تخليص المجتمع من الاوهام المسيطرة ليست بالضرورة باسم الدين ، بل باسم التاريخ او باسم التراث او باسم العادات والتقاليد .. ان العشائرية والطائفية لا علاقة لهما بالدين ، ولكنهما من الاوبئة الفتاكة التي ليس من السهل ان تفك اعماق من يؤمن بها عنها .. اننا نصادف بعض الانماط من لا يؤمن بالدين ابدا ومنفصل عنه تماما ، ولكن تجده طائفي النزعة حتى النخاع ! فالطائفية نزعة متشددة مغالية متطرفة في اقصى الضد لا علاقة لها بالدين ابدا .. انما يعتمد الدين بابا للتمسح به من اجل تلك الطائفية الرعناء .. وما تجده في النزعة الطائفية تجده في النزعة العشائرية وهي نزعة قديمة في الانتماء والتفاخر بالاعراق والهياكل والبطون والاطراف ، وهكذا بالنسبة للقومية الشوفينية التي تذهب بعيدا في تقديس الذات العرقية والثقافية.. ولكن هل تنحصر عند العرب فقط ، اولئك الذين فشلوا في تحقيق ما نادوا به من خلالها كأيديولوجية ، ام نجدها لدى كل شعوب المنطقة بمنتهى الاساليب الشوفينية العدائية ؟

علاقات انتاج مشوهة وسياسات احزاب مؤدلجة !!
ان مجتمعاتنا ازدادت انغلاقا وتحجرا عما كانت عليه في الماضي .. وسابقى اضرب على اوتار هذه النقطة كثيرا لقناعتي ان ما حصل من جنايات سياسية من قبل كل الايديولوجيات والاحزاب السياسية والدينية بحق اجيالنا الجديدة يفوق كثيرا ما اقترفته القوى القديمة بحق اجيالنا الراحلة !
هنا ، لابد من اعادة نظر في ما حصل من جنايات سياسية داخلية بحق التحولات الاولى . هنا ينبغي ان ندرك ان الشرق الاوسط لم يحظ برعاية ابوية من قبل نخب متحضرة فعلا .. هنا لابد من الاعتراف كم ارتكب من اخطاء في النصف الاول من القرن العشرين مقارنة بالاخطاء التي زاولها كل من مارس السلطة في النصف الثاني منه .. وما ارتكب من اخطاء كبيرة وجسيمة كي يصل الاسلاميون اليوم الى السلطة في اهم ثلاث بلدان متحضرة وعريقة في الشرق الاوسط : ايران وتركيا والعراق .. علينا ان لا ننسى دور العوامل الخارجية في رعاية جملة من التيارات السياسية والقيادات العسكرية وجعلها في سدة الحكم لتأسيس دكتاتوريات فاشية في المنطقة .. علينا ان لا ننسى ما صنعه الانقلابيون من العسكريين السذج وما ولد من دكتاتوريات لم تعرف روح المصالحة ولا المسالمة ولا المسامحة .. لقد ثبت فشل الاحزاب الدينية اليوم وبعد ثلاثين سنة على تجاربها المنكودة ، كما كانت قد فشلت من قبلها كل الايديولوجيات السياسية البليدة . ان الضرورة تقضي باعادة التفكير في فهم الحياة السياسية واساليب التقدم الاجتماعي بعيدا عن كل هذه القوى المسيطرة اليوم .

نشرت في الف ياء الزمان ، 2 نوفمبر 2009 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com
ملاحظة : اللوحة المرفقة بريشة الفنانة العراقية عالية الوهاب ..

شاهد أيضاً

مطلوب لائحة اخلاق عربية

تعيش مجتمعاتنا العربية في حالة يرثى لها، لما أصابها من تفكك سياسي جعلها تتمزق اجتماعيا، …