الرئيسية / افكار / كتّابٌ أصابهم عمى الألوان !

كتّابٌ أصابهم عمى الألوان !


مقدمة : بين الأمس واليوم
حظي المحيط الثقافي والإعلامي العربي منذ أزمان بأناس يقدمون أنفسهم للعالم كمثقفين ومحللين سياسيين بل وحتى مفكرين !! وهم تحركهم ليس عقولهم وضمائرهم ومشاعرهم وعواطفهم الحقيقية ، بل تسيّرهم مصالحهم الذاتية الانوية ومنافعهم الشخصية التي يبنونها على أسس متهافتة في كل ما يذيعونه في العلن وخصوصا على شاشات الفضائيات ، أو كل ما يكتبونه وينشرونه في الصحف والمجلات .. إنهم يملأوون الدنيا ضجيجا وصخبا إزاء قضية عن موضوع ما .. فإذا ما تبدلت الأمور، تجدهم لا يكتفون بالسكوت والانزواء والخجل ، بل يطلعون علينا وقد بدلوا جلودهم وغيروا ضمائرهم وانقلبوا 180 درجة إلى الضد باعتبار أن مصالحهم الشخصية المتدنية وأفواههم وكروشهم المتدلية قد وجدت نصيبها في مكان آخر ! سابقا ، كانت الكلمة شبه مقدسة فهي شرف صاحبها وتاريخه عند رجالاتنا الأوائل متخذين من مبدأ ” يوم تبيض وجوه وتسود وجوه ” أساسا في تعاملهم مع كلامهم النظيف الصادر من الأعماق وكلمتهم الواحدة التي يعرفهم الناس من خلالها ، إذ يحسبون جزءا منها ويحاسبون عليها كونهم يسجلون موقفا في تاريخهم الشخصي ، لكن الأعراف والأخلاق ومجمل التقاليد الأصيلة التي قد كانت مشاعة في الأرض العربية قد ذهبت مع أصحابها كما يبدو أدراج الرياح منذ زمن ليس بالقصير أبدا !

المواقف الراسخة رسوخ الجبال
نعم ، شهدنا عدة فصول تاريخية في الخمسين سنة الماضية شكلت أزماتها : حالاتها الأيديولوجية ، وخطاباتها الثورية ، وبياناتها العسكرية ، وتشدقاتها التقدمية .. وحلّ فساد عارم في الضمائر العربية فتشكلت تقاليد غريبة من المنافع الضارية التي تحركها الأكاذيب والمفبركات والمواقف الآنية والسجالات والعنتريات والمشاكسات والسباب والشتائم في الإذاعات واستعراض العضلات في الصحف والمجلات ومؤخرا فجاجة بعض القنوات على شاشات الفضائيات ، وهي تتحدث بغلوائها باسم الثقافة والمثقفين .. واغلبها مواقف مشتراة وذمم مغرقة بالأوحال ومرتزقة يبيعون ضمائرهم بسرعة شديدة ! ولم يكتف أصحاب تلك الموجات التي ساقتها الظروف أيام الحرب الباردة بما ينشرونه في صحف ومجلات ، أو ما يذيعونه من أقاويل صارخة وبكائيات عاطفية جارفة وتصريحات في الإذاعات الهائجة ، بل ثمة من راح يؤلف الكتب والمذكرات ويعقد الحوارات ويسجل المقالات ليشوه تواريخ كاملة بأكاذيبه واختلاقاته ومفبركاته التي ربما ينخدع بها الناس حتى اليوم !

نماذج من واقع سياسي وسلطوي أليم :
كلنا يتذكر كم كانت ولم تزل تصدر حتى اليوم مجموعة كبيرة من الصحف اليومية والمجلات الأسبوعية العربية في الخارج والتي تمولها جهات عربية معينة ، إذ وصل الأمر في عقدي السبعينيات والثمانينيات أن دولة عربية واحدة ، كانت تمّول مجلات لا حصر لها لكي تشيد ببطولاتها وأمجادها في حروبها وتستضيف في كل حين العديد من الكتاب والمثقفين الذين يمجدونها ويكتبون عنها وهي تنفق الملايين عليهم وعلى المجلات والصحف وشراء الأصوات . ولما انهارت تلك الدولة انقلبت عدة مجلات كانت تسبح بحمدها صبح مساء لتغدو من أعدائها تذمها وتلعنها نهارا جهارا ! وكم من كاتب وشاعر وأعلامي يندفع إلى أقصى مداه في مدائحه وكتاباته إزاء طرف من الأطراف حتى إذا ما انقطع ما يرده منه ، تركه ليغدو أجيرا ومرتزقا عند آخرين !
اليوم بالذات يمكن لأي مثقف ومتابع أن يرصد اختفاء عدد من أمثال هؤلاء عندما كانوا يدافعون دفاعا مستميتا عن قضية تحت حجج الأمة والعروبة والإسلام والشعب ، أجدهم ينبطحون وينقلبون رأسا على عقب ، وقد وجدوا بأن المعادلة ستنقلب ضدهم ، أي بمعنى أن الموقف غدا ضد مصلحتهم ومنفعتهم .. ولما كانوا قد عرفوا واحدا واحدا للناس ، فسوف لن يتوقعوا إنهم سيحافظون على شرف كلمتهم التي كانوا يتمتعون بها قبل حين ! لقد أصبحت المبادئ التي يتشدقون بها بمثابة متطفل يجلس على كل الموائد ويأكل منها وسرعان ما يبصق فيها ! إنهم لا لون لهم ولا طعم لهم ولا رائحة عندهم .. إنهم أنفسهم يغيرون مبادءهم صباح مساء ، فتراهم على أشكال متعددة : تقدميون ورجعيون ! قوميون وإسلاميون ! ماركسيون وليبراليون !! متحررون ومنغلقون !! قدماء ومحدثون.. ! إنهم لكل شيء يصلحون ما دامت الصفقة فيها قدر من المنفعة التي يلهثون من ورائها أناء الليل وأطراف النهار .

أهل مكة أدرى بشعابها !
إنني لا أهاجم جميع الكّتاب العرب بالطبع ، ففيهم من العقلاء والكرماء والنزهاء والشرفاء وأصحاب موقف حق وكلمة سواء ، وإنما أهاجم فقط بعض من ارتضى أن يستخدم ابشع التعابير مستغلا الفضاء الديمقراطي الذي هو فيه لتأجيج الكراهية والأحقاد .. ان ما يمارسه بعض الكتّاب العرب من كتابات بذيئة لا تنسجم ابدا مع أي قيم ولا اخلاق ، ولا يمكن ان نجد لها مثيلا في أية مجتمعات اخرى ! فكم هي الحاجة ماسة الى النقد العقلاني ، والى الكلمة القوية في اطار الموضوعية واظهار الحسنات والسيئات معا .. ان الكتّاب العرب لديهم الفرص السانحة في وسائل الإعلام الصوتية والمرئية والمكتوبة ليقولوا كلمة حق ، وخطاب عقل ، ونقد اوضاع ، وان لا يتطفل البعداء على موضوع من اجل إقصاء أصحابه عنه . فلندع صاحب الشأن وشأنه من دون أن تمحق إرادته ويلوي صوته ويقمع وجوده ! إن موضوعا يشغل الناس اليوم ليل نهار وجدت من خلال متابعتي لأغلب الإعلاميات العربية بأن صاحبه هو المغيب الحقيقي عن قصد وسبق إصرار في الإفصاح عما يريده ، في حين أصبحت قضيته يتبجح بها غيره من البعداء من دون أي إحساس أو وازع من ضمير !
ولماذا الحيادية والموضوعية هنا ؟ قد يسألني سائل ومن حقه أن يسأل ، أقول : لقد غابت الموازين اليوم في الدفاع عن الحق والعدل مقارنة بما كانت عليه موازين الماضي حيث يقف الكتّاب الملتزمون ليشهروا بياناتهم وآرائهم ويوضحوا مواقفهم إزاء القضايا التي يجمع عليها كل الناس بل أن بعض المثقفين دفع حياته ثمنا لمواقفه الملتزمة إزاء قضية معينة واحدة !

زمن المفارقات الصعبة
ان القضايا في الماضي كانت متلاقية ومتشابهة ومتلازمة في مبادئها وأهدافها فنالت تعاطف العالم اجمع عليها في ظل وجود انعكاس ثنائي في الإرادة الدولية للتوازن الدولي ، أما وقد غدت قضايا اليوم مضطربة وغير متلاقية وغير متجانسة لا في المبادئ ولا في الأهداف ولا في النتائج المصيرية ، فمن الأجدى أن يحرص أي كاتب عربي على تاريخه ونظافة سجل حياته بأن لا يقحم اسمه في حلبة الرقص هذه أو يندفع بهز جسمه في حلبة أخرى . لقد كان المثقفون العرب قد هزتهم فجيعة يونيو / حزيران 1967 هزا عنيفا ، فهناك من اعتل وهناك من مات وهناك من انتحر وهناك من انقلب على عقبيه من كتابات داعرة إلى أشعار ملتزمة .. الخ لقد كانوا برغم كل أخطاء البعض منهم: أصحاب مواقف صلبة ، وذوي كلمة حرة ونزيهة واستنارة وإجماع إزاء الاستقلالات الوطنية والثورات المسلحة والكفاح الوطني. كان ينبغي علينا أن نتذكر بأن الاصطفاف من قبل أولئك المثقفين الحقيقيين كان إلى جانب الشعوب والدفاع عن مصالحها وقضاياها العادلة ولم يكن اصطفاف المثقفين وانحيازاتهم إلى غير ذلك أبدا .

حالتنا العربية لن تعكس الظاهرة العالمية اليوم !
لم يكن أمر الكتّاب العرب سابقا من ملتزمين ومستقلين ، من راديكاليين وليبراليين معزولا عن مواقف مجايليهم من مثقفي العالم أجمع ، بمعنى أن الأزمة التي يعاني منها اغلب كتّابنا العرب اليوم هي غير متأثرة أبدا بما يموج من تيارات معاصرة لمثقفين وكتّاب عالميين اليوم ، على عكس ما كان قبل أربعين سنة مثلا ، إذ كان كّتاب الأمس يختلفون أيضا في المواقف التي يتخذونها نتيجة قوة تأثير منتجات ومواقف الكّتاب الغربيين عليهم ، وربما أصبحوا أكثر حيادية من التورط في التصفيق لقضية معينة يندمون عليها لاحقا ! لقد وقف اندريه جيد ضد الحرب البشعة في المغرب ، ووقف جان بول سارتر ضد سياسات الفرنسيين في الجزائر ، ووقف اندريه مالرو ضد فاشية فرانكو في إسبانيا .. ومشى ميشال فوكو مع تظاهرات الطلبة في شوارع باريس .. الخ على عكس ما نراه اليوم من لحاق عدد من كبار المثقفين الأوربيين وراء بعض الحكومات من دون أي تعاطف مع قضايا الجماهير ! إن على الكّتاب العرب واجب مقدس إذ ينبغي أن يكونوا أصحاب ضمير ثابت في معالجة الأمور المختلفة ، اذ ليس المطلوب منهم التصفيق أو الردح سياسيا ، بل معالجاتهم لمسائل اجتماعية واقتصادية وثقافية .. وخصوصا في بلدان عربية سنحت بالحوار ومساحات من الديمقراطية . لقد قرأت قبل ايام مقالا كتبه واحد من الكتاب المؤدلجين ، وكله شتائم مقذعة بحق حاكم البلاد ، علما بأن تلك البلاد تتمتع بفسحات كبيرة من الحريات وإبداء الرأي ! فهل مثل هذا الأسلوب الردئ هو المتبع في أية بلدان ديمقراطية في هذا العالم ؟

الملتزمون بعيدا عن جوقات السياسيين !
وأخيرا : هل يمكننا أن نعد أولئك الذين يغيرون مواقفهم وجلودهم ويستبدلون قمصانهم ويمدحون هذا ثم ينقلبون عليه من المثقفين الحقيقيين ؟؟ وهل هم جديرون بحمل لقب ” مثقف ” ؟ خصوصا وهم يخلطون بين القضايا عن غباء! ولا ريب أن المثقف الحقيقي هو ذاك الذي يعيش اليوم أزمة صعبة ، ويشعر بالحرج من أن يلوث اسمه وتاريخه بالمواقف السياسية ..أو أن يكون مخلب قط تستخدمه بعض القوى والجماعات والأحزاب إلى حين ، فإذا ما كان حرا طليقا وقال شيئا رموه بأشنع التهم وأوسخ الصفات ! كتّابنا أنواع ، نوع يعشق الأضواء والكاميرات والشاشات الفضائية والمؤتمرات الفضفاضة ، ونوع لا يعرف غير كيل الشتائم وسيول السباب ، ونوع هاجر من دون رجعة وربما ينّظر في مشاكلنا من وراء البحار .. ونوع سئم هذه الجوقات التي تجمع تشكيلتها كل الألوان وبقى ملتزما بتفكيره وثوابته الأولى ولديه القدرة في استكشاف الممرات بين لجاج المستنقعات الآسنة التي لا تجف أبدا ! فهل سيتغير هذا الحال المألوف إلى حالة نزيهة وحقيقية أفضل ؟ إنني أشك في ذلك !

نشرت في مجلة روز اليوسف المصرية ، 24 اكتوبر 2009 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com

شاهد أيضاً

مطلوب لائحة اخلاق عربية

تعيش مجتمعاتنا العربية في حالة يرثى لها، لما أصابها من تفكك سياسي جعلها تتمزق اجتماعيا، …