الرئيسية / الشأن العراقي / هل من إستراتيجية عراقية جديدة ؟

هل من إستراتيجية عراقية جديدة ؟

يقترب موعد الانتخابات التشريعية في العراق يوما بعد آخر ، هذا إن لم تؤجّل مرة أخرى .. ولم يزل العراق غارقا بمشاكله الكبيرة ، وهي بحاجة إلى معالجات جذرية لا يمكنها أن تكون مجرد أقوال أو دعايات أو حتى مجرد إصلاحات عابرة . العراقيون ينتظرون تغييرا حقيقيا منذ هذه اللحظة كي يكونوا مؤهلين لمجابهة تحديات المرحلة القادمة . ولا يمكن أن نبقى أسرى حسابات يعتقد البعض أنها صالحة للبقاء والعمل من دون أي شعور بضرورة العراقيين لمقومات جديدة تنتشلهم من واقعهم الذي وجدوا أنفسهم فيه .. إن العراقيين ينتظرون ما ستسفر عنه الأيام القادمة ، فمنهم من يراهن على أسماء معينة ، ومنهم من يتوقع أسماء أخرى .. والبعض يخشى من انفجار قادم .. وان البعثيين يأملون برجوعهم إلى حكم العراق ، بل وان محللين عراقيين وغير عراقيين يتوقعون وصول دكتاتور جديد على رأس حكومة عسكرية .. الخ من الظنون أو الاعلانات والدعايات ، والكل يتحدث وكأنه المخطط الحقيقي لما ستأتي به الأيام .

الايام القادمة حبلى بالاحداث
صحيح ان الأيام القادمة حبلى بأحداث جديدة ، وقد غرق الجميع بهوس ما ستسفر عنه الانتخابات القادمة وما يجري من تحالفات ، وما سيطبق من سيناريوهات ، لا اعتقد أن أي عراقي في هذا الوجود يدرك خفاياها .. صحيح ان الطبقة السياسية في البلاد لا هم لها إلا كيفية الوصول إلى السلطة ، وبأي ثمن كان ، ولكن الشعب العراقي ينتظر حلولا حقيقية لما يكابده ويعانيه من مشكلات صعبة ، ومن أمراض خطيرة ، ومن اقتصاد منهك ، ومن امن مفقود ، ومن خدمات تعيسة ، ومن انقسامات على الأرض ، ومن قوانين ينتظر صدورها .. الخ ربما من حق أي عراقي أن يكوّن له رأيه في ما يحدث وما يمكن أن يحدث ، ولكن علينا أن نفكّر بما هو الأصلح للعراق في مرحلته القادمة ؟؟ علينا أن نفكّر بمختلف البدائل التي يمكنها ان ترث هذي السنين العجاف .. علينا ان نفكّر كيف لنا أن نبقي على العراق موحدا بعد كل ما حاق به من التحديات والانشطارات .. علينا أن نفكر ونتساءل : هل باستطاعة العراقيين تحّمل المزيد من النكبات والآلام والتمزقات ، أم أن الضرورة تفرض على العراقيين خلق إستراتيجية جديدة للتعامل مع المرحلة القادمة ؟ هل نبقى نعيش هواجسنا القاتلة لمن ستكون له السلطة .. أم أن نعمل من اجل وطن خذله أبناؤه في زمن الشدة ؟ هل نبقى نتنازع من اجل أقاليم مصطنعة ، أم نسعى مع الساعين لإخلاء ترابه من بقايا اليورانيوم وما تبقى على ترابه من آثار الحروب الدموية والهجمات البربرية ؟ هل نبقى نتشرذم طوائف وأعراقا .. اكثريات وأقليات .. أحلافا وعشائر .. ام نسعى لاستعادة حقوق العراق المهدورة ؟ هل نثير المشكلات التافهة من اجل غنائم ومصالح شخصية وسرقات علنية أم نمارس نكران الذات ليكون من هو الأصلح في مكانه الحقيقي الذي يحتاجه العراق ؟ هل نبقى نتشدّق بالديمقراطية التوافقية ( أي : المحاصصية ) أم علينا أن نعمل لتطوير الديمقراطية الحقيقية ، كي يكون العراق سباقا في تحقيقها على أسس صائبة ؟ هل نبقى نتكلم بالاكثريات والاقليات وحكم المكونات الرئيسية ونحن نقتل المواطنة الحقيقية لكل العراقيين ؟ هل أبقى اعدد ما نحتاجه وهو كثير للغاية كي نبقي على الأقل ما تبقى من قيمنا وأخلاقنا وأصولنا التي تربينا عليها في بحر متلاطم من الخصومات والانشقاقات والكراهية والأحقاد التي لم يكن يعرفها مجتمعنا قبل عقود من السنين ؟

ضرورة اعادة التفكير ببناء العراق
وعليه بعد كل هذا وذاك ، دعوني أسأل وأجيب : كيف نعيد التفكير ببناء العراق مستقبلا ؟ إذ لا يمكن أبدا ان يبقى هكذا على حاله لخمس سنوات أخرى مع بقاء جهود المخلصين والأوفياء .. ولا يمكن لكل القوى السياسية أن تبقي أجندتها من دون أي تغيير ، وبلا فرز للمبادئ عن المصالح ؟ لا يمكن أن تبقى الأوراق مخلوطة سواء بمشيئة أمريكية صرفة ، او بمقدرات تأتي من وراء الأستار أو الحدود .. وينبغي للوعي بالمستقبل أن يستفيق من غيبوبته .. فالتغيير مسألة حضارية ولا يمكنها أن تبقى سياسية ، والسياسة العراقية ترمومتر للمجتمع ، وهي بيد قوى لا يمكنها ان تبقى مهترئة لخمس سنوات قادمة .. ان نقلة من العام 2009 الى العام 2010 ستحمل اثقالا اخرى وسط دوامة الإعصار الذي شل حياة المجتمع وحركته . فالتغيير لابد ان يجد البدائل الحقيقية لإعادة البناء .. لقد اعتمد على بدائل هشة لم تصلح له ابدا ، وعلى أناس لا اقول كلهم ، بل اغلبهم من المفسدين والفاسدين .. وقد عولجت ضمن اجندة عدم الاستقرار وتبلور الأهواء المتصارعة والإرادات الجديدة التي لم يصلح بعضها للحكم أبدا كما لم يصلح بعضها الاخر للمعارضة ابدا .. ان تصحيح الاخطاء مهما بلغ حجمها ينبغي ان تصلح سواء عند حكومة مركزية ام حكومة اقليمية !

مطلوب استراتيجية عراقية جديدة
إن إستراتيجية وطنية جديدة تتطلب الآتي :
1/ هندسة العراق الاجتماعية
ان الوطنية العراقية لا يمكن ان تحتكر من أي طرف من الاطراف في ظل ديمقراطية حقيقية . وهندسة العراق الاجتماعية ينبغي ان يقف من ورائها عقل عراقي مدبر وارادة وطنية صرفة ، ، فان لم تتبلور حتى الان ، فستبقى الحالة غير مستقرة وغير آمنة وسيبقى العراق يزدحم بالصراعات وتهديدات الجيران .. ان الانطلاق من الاسلوب الذي رسمه الامريكيون اعتمادا على محاصصة المكونات الطائفية والعرقية هو اسلوب خاطئ في عملية التغيير والبناء ، ويصر البعض على تسميته بـ ” الديمقراطية التوافقية ” .. ونحن نرى منذ قرابة سبع سنوات ، كيف طفحت المكبوتات وانفضحت المخفيات . ان الامور لا يمكنها ان تتصّفى من تلقائها من دون اي حساب للتفكك الداخلي وللتدخل الاقليمي .

2/ التعايش السلمي
المهم ان يعمل الجميع من اجل خلق مفهوم التعايش السلمي ، وهو لا يؤسس سريعا ، فالعراقيون بأمس الحاجة اليوم الى نسق تفكير جديد يلتزمه مسؤولون اكفاء يبتعدون تماما عن اي نزعة طائفية ، وعن اي اثارة انقسامية .. اذكياء يدركون وسائل التعامل والخطاب مع المحتل .. ويترجمون عوامل التجانس والالتقاء بديلا عن هوس الاختلافات والتباينات مع الشعب .. ويتدرجون في معالجة المشكلات خطوة خطوة ، ولا يمكنهم ممالئة الحزب والطائفة والاثنية على حساب الجميع .. ولا يخلطون الاوراق هروبا ، ونريدهم يبتعدون عن الفساد والاختلاسات وسرقة المال العام والارض والنفط والانسان ..

3/ الشراكة السياسية لكل العراقيين
ان العراقيين بأمس الحاجة الى الايمان بمبدأ الشراكة السياسية ، وابعاد كل من يستغل الاحقاد الاجتماعية ادوات للحكم .. وتطال المسؤولية ايضا كل السياسيين العراقيين وقدرتهم في ترجمة ضرورات المستقبل باستراتيجية متفق عليها لمعالجة الجراح لا التنكؤ لها .. استراتيجية تسخر نفسها لخدمة العراقيين ، كل العراقيين ومن دون ان تغدو اداة مسلطة بيد الاغلبيات على حساب من يسمونها بـ ( الاقليات ) . انها مشروع عمل له وطنيته وموضوعيته وحياديته وشفافيته في كشف كل الاخطاء وادانة كل الفاسدين .

4/ الغاء المليشيات
ان مجرد وجود مليشيات وقوى غير حكومية على أي شبر من تراب العراق سيبقى العراق على نفس الطاس ونفس الحمام ! ان مجرد ابقاء الدستور والتشريعات المنتظرة بلا أي اصلاح او تغيير ، يعد مدعاة للصراع والتمزق بين القوى السياسية ، فكيف اذا اصبحت بين القوميات والعشائر والاعراق ؟ انه احياء للاهواء والعصبيات وما تنتجه من امراض طائفية وعرقية وفئوية وتحزبات دينية ومحليات .

5/ القانون اولا
ان الاستقرار السياسي والامن الاجتماعي لا يمكنهما ان يسودا بالحديد والنار والدم ، وكذلك لا يمكن شرائهما بالمال والسلاح من ميليشيات حزبيين ، او اناس قبليين ، او مرتزقة طفيليين وسط تصفيق المهرجين .. ان اي دولة تحترم نفسها لا يمكنها ان تعيش بلا قانون يحمي حدود وطنها ، ويؤمن على مؤسساتها ويدافع عن أمن مجتمعها .. والقانون لا يسود بلا قوة عسكرية او قوة بوليسية ..
واخيرا : هل من استراتيجية عراقية وطنية جديدة تعبّر عن ضرورات العراقيين اليوم ، حتى يمكننا ان نجد تغييرا عراقيا حقيقيا نحو الافضل ؟ هذا ما ستجيب عنه الايام القادمة !

نشرت في جريدة الصباح ، بغداد ، 15 اكتوبر / تشرين الاول 2009 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com

شاهد أيضاً

نقطة نظام ضد الفساد والمفسدين والفاسدين

ملاحظة : طلب مني عدد من الاصدقاء العراقيين ان اعيد نشر هذا ” المقال ” …