الرئيسية / مقالات / أنجيلا ميركل : تعود لحكم ألمانيا من نافذة مفتوحة

أنجيلا ميركل : تعود لحكم ألمانيا من نافذة مفتوحة

أثبتت مستشارة ألمانيا الاتحادية أنها زعيمة واقعية ، ولكنها فاشلة في أداء المسرحيات السياسية ، وخصوصا بعد الثقة التي نالتها ، إذ أعيد انتخابها لمرحلة ثانية . فهل بإمكان زملائها في دول أخرى متقدمة أو متخلفة أن يستفيدوا من تجربتها وقد واجهت على مدى أربع سنوات جملة تحديات واسعة ، نجحت في تجاوزها ، فبقيت تتمتع بشعبية كبيرة ؟ لقد اعتمدت على واقعيتها بدل أن تسرح بعيدا في الخيال .. إنها لا تهمها المظاهر بقدر ما تمتعها الأفعال .. إنها القادمة من ألمانيا الشرقية، ولم تحمل معها أي كاريزما بالألوان لكسب أصوات الناخبين ، كونها تؤمن بالحياة العملية الذي يوحي بالثقة وان هذا ما يميزها ـ حسب فلسفتها ـ وليس ماكياج وجه أو تسريحة شعر ! إن الناخبين الألمان ليسوا بأغبياء ليختاروا ديكا ملونا مستشارا لألمانيا ، بقدر ما يدركون أن زعامتهم خطيرة وان ميركل مؤهلة وموثوق منها فضلا عن كونها تعرف ماذا تفعل ! إن تجربتها لسنوات مضت جعلتها تكسب في الانتخابات نسبة تأييد 60% خلال الفترة المؤدية إلى 27 سبتمبر 2009 . فمن تكون هذه المرأة ؟
إنها امرأة بروتستانتية قدمت من ألمانيا الشرقية ( 55 عاما ) ، وقد نجحت في كسر التقليد في قيادة الحزب الديمقراطي المسيحي الذي كان يهيمن عليه رجال كاثوليك من ألمانيا الغربية . ولدت في مدينة هامبورغ 1954 عن أب راعي الكنيسة اللوثرية منتقل إلى بلدة صغيرة في شرق ألمانيا ، فترعرعت أنجيلا في منطقة ريفية خارج برلين الشيوعية وبرزت موهبتها في العلوم والرياضيات واللغات وحصلت على دكتوراه فيزياء 1978 وعملت صيدلانية ، ويبدو أنها كانت تختزن تفكيرها السياسي المعارض للشيوعية ، فلم تشارك سياسيا ، ولكن عندما بدأ تغيير العالم ، وقد أصبحت في السن 36 ، بدأت تشارك في ازدهار الحركة الديمقراطية 1989 ، وانطلقت بعد سقوط جدار برلين ، فغدت متحدثة باسم الحكومة عقب أول انتخابات ديمقراطية ، وانضمت إلى الاتحاد الديمقراطي المسيحي قبل شهرين من إعادة توحيد ألمانيا ، وأصبحت في غضون ثلاثة أشهر وزيرة للشباب في حكومة كول . لقد تفرغت للعمل السياسي 1994 وأصبحت زعيمة للحزب 2000 وانتخبت مستشارة لألمانيا 2005 .. متزوجة وليس لها أطفال .. ومن سجاياها الوطنية ، أنها وقفت مع الحق العام ضد حليفها الكبير المستشار السابق هيلموت كول ونشرت مقالة تطالب باستقالته عندما القي القبض عليه في فضيحة رشاوى !
بعد انتخابها الأول عام 2005 ، تحالفت مع منافسها في الحزب الديمقراطي الاشتراكي وزير الخارجية فرانك فالتر شتاينماير الذي نافسها في انتخابات عام 2009 أيضا ، وفازت عليه مرة أخرى ، وهي تهدف الآن للتخلص من مهام مخطط لها من اجل تدابير أكثر يسارية ووقائية لتحفيز المالية الضخمة والخلاص من أزمة الركود بالرغم من تعرضها لانتقادات كون محاولاتها يسارية ، ولكنها تلعب لعبتها بذكاء وبراغماتية عالية ..

إن إعادة انتخاب انجيلا ميركل يعد نتيجة تاريخية جيدة سواء بالنسبة لألمانيا أم أوروبا ، فهي ستسعى إلى تشكيل ائتلاف كبير يمكن أن يقوى يوما بعد آخر لتنفيذ إصلاحات ضرورية لألمانيا ، بما في ذلك نظامها الضريبي ونظم الرعاية الاجتماعية ، والرعاية الصحية وسوق العمل .. وان الحكومة الائتلافية ستسبب لها مشكلات حول الضرائب ، وان ميركل تضغط باتجاه إصلاحات السوق وما أصاب سوق السيارات بالذات ، ذلك أن ألمانيا قد خرجت للتو من الركود ولكن مع ارتفاع حجم البطالة . وعليه ، فهي تسعى لإحداث تغييرات جريئة وسط نتائج مذهلة لم تتوقعها الأحزاب الأخرى كالحزب الديمقراطي الاشتراكي المعارض بتاريخه الذي يتجاوز الثمانين سنة مع حزب اليسار الذي كان يرفض العمل .. إن تشكيلة البوندستاج (= مجلس النواب ) والبوندسرات (= مجلس الشيوخ ) ستتألفان من ممثلي الدولة .. وتمتلك ميركل ثقة عالية بإمكاناتها وقدرة مساعديها على تخطي الأزمة .. وستنطلق ميركل لإنعاش الاقتصاد حسب التوقعات مع انزعاج البعض إذ أن النمو سيبقى بطيئا ، فثمة انكماش وشيخوخة سكان ونمو سريع في الدين العام والحاجة إلى الاستهلاك أكثر من الصادرات ، ولكن ميركل ترى انه ” لا يوجد بديل عن الاعتماد على الصادرات للنمو بدلا من المستهلكين ” ، وان الاستجابة الحكيمة لمعالجة البطالة تحرير أسواق العمل وتشجيع التوظيف ورفع سعر اليورو.. إن ميركل تنادي باحتضان “اقتصاد السوق الاجتماعي” .. وترى أن نظريتها تصلح لألمانيا ودول أوربية أخرى تعيش نفس الظروف ..
كما أن على ألمانيا أن تلعب دورها لتحرير سوق الطاقة في الاتحاد الأوربي . ثمة أصوات في ألمانيا تنادي بسحب القوات الألمانية من أفغانستان واعتبار إدخال تركيا إلى الاتحاد الأوربي وصمة عار ، فضلا عن وقوفها ضد المشروع النووي الإيراني ! وثمة مطالبات بالانفتاح على دول أوربا الوسطى والشرقية ، وتحجيم دور روسيا في الطاقة .. وعلى ألمانيا أن يكون لها دورها الريادي في معالجة شيخوخة أوروبا التي ترتفع فيها أعداد المسنيّن وضرورة رعايتهم ، علما بأن الولايات المتحدة ليس لها مثل هذه المشكلة الديمغرافية الهائلة بكل ضغوطاتها على الحكومات في غربي أوربا ، وقد اعتبرتها ألمانيا بداية لدغة على المدى القادم ، أي حتى للعام 2025 .. ومن المرجح أن تظهر علاجات منها متطلبات من العمال لإعادة النظر في الفوائد الاجتماعية السخية ، والإجازات الطويلة وخطط التقاعد المبكر التي تعتبر أمرا مفروغا منه. إن مرحلة جديدة قد بدأت في ألمانيا اليوم في ظل ولاية ثانية لانجيلا ميركل . فهل سنشهد ثمراتها بعد انتهائها ؟ هذا ما ستخبرنا به الأيام .


نشرت في البيان الاماراتية ، 14 اكتوبر 2009 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com

شاهد أيضاً

زعامات ورزايا .. ورئاسات بلا مزايا

 الزعامة غير الرئاسة، والرئاسة غير الإدارة، والإدارة غير القضاء. لقد مضى زمن الزعامات الحقيقية، وماتت …