الرئيسية / الشأن العراقي / بدائل أم تحالفات*

بدائل أم تحالفات*


مفترق تاريخ صعب
كان العراقيون وما زالوا على مفترق تاريخ صعب ، فالدلائل تشير ـ اليوم ـ إلى أن هناك أجندة متصادمة بين هذا الطرف عن ذاك! وان هناك شبح الحرب الأهلية برغم خفوته وسكوته ، لكنه قادر على ان يطل دوما بشن الأزمات والمشاكل حول قضايا مختلقة لم نكن نسمع بها من قبل! لقد أرادوها سلة واحدة باستطاعة الأقوى أن يستحوذ على ما فيها، وهم يدركون أن العراق بحاجة إلى أن يستعيد عافيته، وان المجتمع العراقي الذي عانى الويلات، ينبغي عليه أن يتنفّس الصعداء، ويخّلص نفسه من مشروعات أميركية سرية ، ومن إقليمية مفضوحة ، ومن مساع محمومة محلية للسلطة ..
السؤال : كيف يمكن للعراق ان يستعيد حريته بعد أن افتقدها طويلا على ايدي اناس لا ترى وجودها في العراق الا مرتهن بالسلطة والنفوذ ؟ .. كي يرّتب العراقيون شؤون بيتهم ، اذا غابت البدائل الحقيقية ولم نجد الا اصطفافات وانسحابات .. تخندقات واصطراعات ؟؟

التقلبات السياسية عند العراقيين
إن تجارب كل الشعوب التاريخية تعلمنا أن أبناءها الحقيقيين يتوّحدون في لحظات التحدي ضمن مبادئ حقيقية من اجل السعي لخدمة البلاد ، أي ان تجاربهم مهما كانت مريرة تعلمهم الدروس المستفيضة بأن أي حزب او تجمع وصولا الى أي فرد ان فشلوا في اداء مهامهم ، فليفسحوا المجال امام غيرهم كي يؤدي مهمته الوطنية .. ليس معهودا الا في العراق ان ينتقل أي شخص من شيوعي الى بعثي او من بعثي الى اسلامي او من ماركسي الى ليبرالي او من قومي الى سلفي او من جتة وجحوش الى بيشمركه واسايش .. الخ من التقلبات ! الامر بسيط جدا في العراق ، فكثير من العراقيين عندما يرى أية موجة عاليه فهو يحاول ان يركبها .. فمصلحته تتقدم كل الدنيا ولتذهب المبادئ التي يحملها الى الجحيم! السلطة عند العراقيين : مسألة حياة او موت!
ان الحالة ليست طارئة او جديدة ، بل وجدناها عند العديد من العراقيين الذين اشتغلوا بالسياسة منذ بدايات تأسيس الدولة ، ولكن تفاقمت كثيرا في العقود الاخيرة ، بحيث اصبح مطلب ” الحكم ” (= السلطة ) هو الهدف الاساسي للاحزاب العقائدية سواء (مطلب عظيمي) او (جئنا لنبقى) .. وان كل ما يجري من تآلفات وتحالفات هي من جملة المخادعات التي تتلبس لبوسا وطنيا امام الناس ، ولكن الشيء المثير للانتباه ، والذي لم نجده سابقا هو تحالف تيارات واحزاب وجماعات مضادة لبعضها البعض فكريا وعقائديا وسياسيا كي تجتمع تحت مظلة واحدة حتى وان كان ذلك الى حين اجراء الانتخابات .. لم يكن يجري في يوم من الايام ان وجدنا على وجه الارض كلها حزبا شيوعيا يتآلف من حزب ديني او طائفي ؟ ولم نكن نجد احزابا قومية تتحالف مع حزب دعوي ديني ؟ ولم نكن نجد حزبا كرديا من اصول بارتية ماركسية يتآلف مع كتلة مجلسية دينية ! ولم نجد جماعات ليبرالية تتفق مع حزب ديني او جماعات عشائرية ؟ هذا المخاض العراقي له غرابته على الواقع التاريخي، ولكن له مشروعيته عند اولئك الذين يبيعون مبادئهم الوطنية او الفكرية من اجل مصالحهم السلطوية ، حتى وان كان ذلك من اجل هامش بسيط من الجاه او النفوذ ، او من اجل كسب منصب ما!

الاعتراف بالخطأ فضيلة
نعم ، اليوم ، اغلب الساسة العراقيين في سباق محموم لتشكيل التآلفات والتحالفات .. ينسحبون من هنا ليلتحقوا هناك ، ويطرد هذا من هناك كي تجده يلهث مسعورا من اجل ان يحتويه احد .. وبرغم كل الظروف، حتى يحققوا مشروعهم الوطني، ومن ثّم يتناظرون أو يتجادلون حول حقوقهم وواجباتهم.. حول مطالبهم أو مصالحهم.. كان على الساسة والمتحزبين العراقيين الذين اندفعوا لتّولي شؤون العراق منذ انبثاق مجلس الحكم حتى هذه اللحظة أن يكونوا على درجة عليا من الوطنية العراقية.. وعليهم أن يعترفوا بأخطائهم، ويعلنوا لكل الناس بأنهم قد فشلوا.. إنهم يحاربون اليوم بعضهم بعضا عند الشدائد، ولكنهم يتجمهرون لقسمة المصالح والأدوار.. إن بعضهم لا يقبل بنجاحات غيره، ولا يرضى بأن يبارك للآخر انتصاره.. إنهم في حلبة صراع كالديكة حينا وستجدهم أصدقاء عند الاقتراب من موعد الانتخابات العامة! بل نجدهم اليوم كلهم ملائكة لهم شفافيتهم الرائعة وكل اللعنة على اميركا وايران والعرب ! اريد مسؤولا عراقيا واحدا يقول : والله يا جماعة الخير ، عذرا لقد اخطأت ، فلم اجد ذلك ابدا .. وكأننا لم نراقب ما الذي جرى وحصل على امتداد قرابة سبع سنوات ! كما اريد أي قائد سياسي عراقي يشيد بمنجزات خصمه وجهده .. ويقدم له الامتنان والنصح معا ! كما اريد ان اجد أي قائد سياسي ينتقد انتقادا مريرا ، اجراءات من يتحالف معهم ، وهو يدرك حجم التجاوزات التي تجري في البلاد على ايديهم ، اذ اجده يغض الطرف او يصمت كي يداري مصالحه فقط.

هل من زعامات جديدة متغيرة؟
أتمنى على الشعب العراقي أن يطالب بانتخابات عامة على الأسماء وليس على القوائم، إذ لا نريد أن تعاد مأساة الماضي.. ربما تتغير وجوه وتأتي وجوه، ولكن كلها من سلة واحدة وجوهها معروفة للعراقيين، وهي مالكة ليس للعراق، بل للزمن العراقي اليوم.. إنهم الزعماء الجدد. لقد كان عليهم بعد مسيرتهم الصعبة في بحر العواصف أن يتعلموا من التجارب الثورية الراديكالية، أو الحرة الليبرالية، أو الانقلابية العسكرية، بل ومن التجربتين الدينية والقومية.. الكثير، وأن يلمّوا شملهم السياسي من خلال المشاركة والمعارضة معا تحت زعامة وطنية تجمعها مبادئ عراقية واحدة (طالبت بها منذ 2003)، لا زعامات متنوعة، لا يعرف اغلبها فن الزعامة، ولا أسلوب المناورة ولا جدل المفاوضات، ولا القدرة في الأخذ والمطالبة بالمزيد.. ولا مشاركة الناس حياتهم الطبيعية: زعيم لا يريد أن يكون أبا للعراقيين كلهم، فهو باق على رأس حزبه! وزعيم يريد أن يهب إيران المليارات تعويضات حرب! وزعيم مخضرم يريد تقبيل أعتاب الأميركان على الرغم من إرادة العراقيين المجروحة! وزعيم يهدد بالانفصال عن العراق من حين إلى آخر! وزعيم فشل في تأسيس إقليم البصرة! وزعيم يهدي رامسفيلد سيفا من ذهب! وزعيم يهدد بالانقلاب العسكري بين زمن وآخر! وزعيم يريد عودة الماضي إلى الحياة! وزعيم يريد خصخصة الموارد النفطية العراقية! وزعيم معارض يبارك الإرهاب! والخ من لائحة باسماء زعماء جدد لا يتمتعون بأي رصيد من الزعامة الحقيقية التي ليس لها الا العراق.

البدائل: خمسة مستلزمات من أجل حياة عراقية مدنية جديدة
سيتهمني بعض المتشرذمين مع هذا الحزب، أو تلك الجماعة، أو ذاك التحالف.. بأنني اكتب رافضا ومعارضا من دون تقديم البديل ـ كما جرت عادتهم ـ، وسيتهمني بعض البائسين بالحنين إلى الماضي الدكتاتوري الذي كنت ولم أزل أدينه لما حصل في العراق من فجائع على يديه ، كوني مؤمن بالديمقراطية والسلام، وكنت من أوائل الذين أدانوا ذاك الجحيم، وكلهم يدركون أنني ارفض العودة إلى الماضي رفضا قاطعا، ولا يمكن للعقل أن يستوعب أن العراقيين بعد كل ما أصابهم وفرقهم وزرع الأحقاد في قلوبهم.. أن يعودوا كي يرهبهم زعيم واحد، أو حزب واحد، أو حزب قائد.. او قائد ضرورة . وعليه، فان البديل عندي واضح جدا وقد صرّحت به مرارا وتكرارا، وهو يطالب:
1/ تعديل الدستور العراقي : يستوجب تعديله تعديلا جذريا وعلى أيدي هيئة تتألف من كبار رجال القانون العراقيين المستقلين عن تأثير أي حزب من الأحزاب الحاكمة أو غير الحاكمة.. فالدستور هو للامة كلها ، وليس من الصواب ابدا ان يحتكر صناعته جماعة متشرذمة تمثل احزابا وتيارات معينة كي يكون دستورا للاجيال القادمة ، وما دام العراقيون قد اعترف اغلبهم بأن في الدستور مثالب وهنات ، فان المطلوب حل اللجنة التي كتبته ، والتأسيس على تشريع تأسيس لجنة قانونية مستقلة من رجال القانون والمجتمع لتأسيس دستور مدني يليق بالعراق والعراقيين. وان تعترف كل الاحزاب التي ساهمت في كتابة هذا الدستور بفشلها امام الناس.
2/ استراتيجية عراقية : العمل على بلورة ستراتيجية عراقية جديدة لحل المعضلات التي خلقتها العملية السياسية الحالية بثلاثة محاور : قضية العراق المدولنة أولا، ومشكلة جعله حقل ألغام إقليمي ثانيا، ومعالجة مشكلاته الداخلية المتفسخة التي كان من ورائها ساسة متحزبون أغرقوه بالحرب الأهلية الطائفية والمليشيات العرقية من خلال جماعاتهم وجيوشهم وقواتهم الخفية والعلنية.. واتمنى على الساسة الجدد ان لا يهربوا من الميدان لتبني ذرائع جديدة كانوا ضدها قبل 5-6 سنوات ، او ان يغيروا عناوينهم ، بل تقضي الحاجة الى ان يعترفوا بفشلهم مهما كانت تياراتهم دينية ام سياسية ، فلا يمكن ان يتغير الديني الى وطني شعارا فقط من دون تغيير كل المضامين والاشكال والانظمة الداخلية.
3/ دولة قانون أم مشروع وطن ؟ ان شعار دولة القانون شعار ممتاز، باركت استخدامه ضمن ستراتيجية مشروع وطني ، وكنت اول من طالب بتطبيقه منذ العام 2003 ، فالعراق لا يمكنه أن يتقدم بلا قانون.. ولكن أطالب بتفعيل هذا الشعار بدءا برئيس الحكومة ورئيس الجمهورية ووصولا الى اصغر موظف في الدولة ..
وان تفضي ممارسته ضد اخطاء كل العاملين في الدولة وضد القتلة والمجرمين والعصابات والمرتشين والمزورين والإرهابيين في المجتمع ، بل وضد كل مسؤول يثبت انه متورط أو متهم تثبت إدانته.. الخ ان دولة القانون لا يصنعها مجتمع متفسخ سياسيا ، فمهمتنا وهدفنا وشعارنا ينبغي ان يكون (الوطن) لا (الدولة) ! فما دولة قانون في وطن متفسخ ؟
4/ الغاء المليشيات وكل القوى الاوليغارية: يستوجب على دولة القانون اساسا: إسباغ الشرعية على وجود جيش واحد وشرطة واحدة (وقد طالبت منذ العام 2003 بتأسيس درك عراقي وقوة حدود مسلحة سيارة )، وإلغاء كل المليشيات والجماعات المسلحة والقوى الخاصة في عموم العراق من شماله حتى جنوبه.. مع تحريم السياسة على الجيش والشرطة والمخابرات واستئصال كل الاختراقات الحاصلة.
5/ مؤتمر وطني : إن محاولة تطبيق كل ما تقدم أعلاه، سيتيح المجال مباشرة لتطوير خدمات العراقيين ومستلزمات حياتهم الصعبة. وعليه ، اطالب بانعقاد مؤتمر وطني يجتمع الجميع تحت مظلته قبل اجراء الانتخابات واقرار المبادئ العليا للبلاد ، والاعتراف بالفشل في ما لم يتحقق وابراز النجاح في ما تحقق . على العراقيين ان يعرفوا حقا اجوبة صريحة جدا على اسئلة خطيرة ومهمة : هل ثمة اجماع وطني على اصلاح الدستور ؟ هل ثمة اجماع وطني على الغاء كل المليشيات ؟ هل ثمة اجماع وطني على وحدة العراق ام فيدراليته ؟ هل ثمة اجماع وطني على ان الاحزاب الدينية قد تغّيرت فعلا الى احزاب وطنية ؟ هل ثمة اجماع وطني على ان الانتخابات القادمة بكل مضامينها واشكالها هي مختلفة تماما عن الانتخابات السابقة ؟ هل ثمة اجماع وطني على ان نكون ديمقراطيين ام توافقيين .. او بالاحرى عراقيا : وطنيين ام محاصصيين ؟

ماذا لو سمح بتطبيق هذا المشروع ؟
إن محاولة تطبيق كل ما تقدم أعلاه، سيتيح المجال لتخفيف المحاصصة وإلغاء التوافقية والقضاء على الانقسامات العرقية.. ومنح المواطنين العراقيين فرصهم في التعبير وعودة المهاجرين، والحد من هجرة العراقيين، وتوفير فرص الحوار.. الخ وسيتيح المجال أمام كل العراقيين كي يكونوا كأسنان المشط في التوظيف والمناصب والمكاسب.. وتقليل الفجوات بينهم باعتبارهم أبناء وطن واحد يتساوى الجميع أمام القانون في حقوقهم وواجباتهم.. ولا تميزهم الا كفاءاتهم وقوة عطائهم وإنتاجهم.
إن محاولة تطبيق كل ما تقدم أعلاه، سيتيح المجال أمام العراقيين ليخرجوا على العالم بهيئة جديدة وبصورة جديدة.. يطالبون العالم كله، وأميركا على رأسه، بحقوقهم وتعويضاتهم.. وإعادة تعمير العراق والارتقاء به.

ماذا نريد اذن ؟
وعليه ، لا يمكن المضي بأية انتخابات عامة، إن لم يصدر قانون مدني متطور للانتخابات وقانون متطور للأحزاب.. (وان يكلف مجلس النواب العراقي الحالي او القادم نخبة ممتازة من رجال القانون المستقلين عن أي طيف حزبي من الاحزاب لتقديم مشروعات قانونية كهذه) وان تلقى المسؤولية كاملة على كل من يريد إقحام العراق بالمشكلات ويدوس القانون بقدميه.. ويسرق أموال الشعب العراقي..
ويعمل ليل نهار على انقسام العراق، وشرذمة شعبه، ولا يعمل من اجل طمأنينة العراق والسلام في العراق والأمن في العراق وتطور العراق..
ان العراقيين مقبلون على انتخابات جديدة آمل ان تكون افضل بكثير من تلك التي جرت قبل سنوات ، ولكن على كل العراقيين ان يدركوا بوعيهم العميق واحاسسهم المرهف كيف يتم اختيار من يمثلهم في اهم سلطة تشريعية في البلاد التي ستنبثق منها السلطة التنفيذية ولمرحلة مهمة قادمة . فهل وعينا الدرس؟
* كلمة شكر : أود أن اتقدم بها الى بعض الاخوة والاصدقاء في مختلف الاحزاب والقوى السياسية العراقية المتنوعة (وخصوصا الموجودة في حكم البلاد اليوم) على ثقتها واطمئنانها لي وللافكار التي انشرها ..كما اثمن مراسلاتهم جميعا وطلبهم لابداء المشورة والنصيحة ، وسوف لا ابخل ابدا بأي رأي او فكرة على من يطلبها مني من اجل المصلحة العليا للعراق والعراقيين اجمعين.

نشرت في جريدة الصباح البغدادية ، 8 تشرين الاول / اكتوبر 2009 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com

اللوحة المرفقة للفنان مؤيد محسن

شاهد أيضاً

نقطة نظام ضد الفساد والمفسدين والفاسدين

ملاحظة : طلب مني عدد من الاصدقاء العراقيين ان اعيد نشر هذا ” المقال ” …