الرئيسية / افكار / أينَ هيَ إرادة المثقّفين ؟

أينَ هيَ إرادة المثقّفين ؟

سألني أحد الأخوة الإعلاميين ، وهو يحاورني : هل مازال المثقف العربي يفتقد للقنوات التي تشد الجماهير إلى ما يدعو إليه ؟ أجبته : لا أقول ” يفتقد ” ، بل زاد افتقاده للقنوات التي يتصل بها بالجماهير ، سواء بأفكاره أو أعماله ، أو إنتاجه وإبداعه .. مع تضاعف عدد السكان لمرات عما كان عليه المجتمع قبل عشرين سنة .. إن ملايين الشباب اليوم لا علاقة لهم بالمثقف أو الثقافة ! ليست المشكلة أحادية ، وليست نخبوية .. إنها مشكلات معقدة متداخلة مع بعضها البعض منذ بدء الثورة الإعلامية المعاصرة قبل عشرين سنة ، والثورة تجتاح مجتمعاتنا بكل وسائلها واتصالاتها المعاصرة ، وتستحوذ بفشل ذريع على كل وظائف الثقافة ، ولم تمنح المثقف فرصته الحقيقية ، ليقول ما عنده بالرغم من تضاءل حجم المثقفين وانكماشهم نتيجة غلبه السياسيين ، فالمثقف لا يمكنه أن يكون كذلك إن لم يبدع .. والإبداع يأتي لمجتمعه جديد الأفكار والرؤى والأصوات والحركات والنصوص الجديدة .. ولا يمكن للمثقف أن يكون كذلك ان لم يعترف به المجتمع ، وتتداوله الألسن ‘ فيكتسب شرعيته .. اليوم ، يجد المثقف نفسه محاصرا .. إذ تغير الزمن .. فإذا كانت نخب المثقفين العرب السابقين تجد قنواتها الى كل الجماهير متاحة عبر مقهى ، أو مجلس أو فلم ، أو رواية ، أو نص شعري ، أو مقال صحفي ، او انجاز فني ، او أي منتج ابداعي او رسم تشكيلي.. فان القنوات الإعلامية المتاحة اليوم ، وهي كبيرة ومؤثرة ، لا تعتني بالمثقف قدر عنايتها بالسياسيين .. إن السلطات العربية ( سياسية كانت ام اجتماعية ام دينية ) في اغلبها تشعر بان المثقفين المتمدنين وباء أو أشتات من المقرفين الذين لا ترتاح لطروحاتهم أبدا .. فكان الإقصاء سبيلا حقيقيا للمثقفين العرب الأقوياء .. ونجد القنوات الحقيقية تفتح أبوابها للمفذلكين والمفبركين والمثرثرين والمقلدين والمعممين ورجال الدين الذين لا عمل لهم الا ترديد ما يقولونه ! فضلا عن المسؤولين والسلطويين والسياسيين وانصاف المثقفين .. إن الإعلام قد ساهم منذ خمسين سنة في سحق الإرادة ، وشل التفكير ، وشراء الذمم ، والتغني بالأكاذيب ، والترويج للانقسامات والتماهي مع الهزائم .. الخ ان المثقف الحقيقي لا يمكنه أن يكون بوقا لهذا أو ذاك ! انه يجد نفسه ربما مهمشا ، وربما غير فاعل ، وربما محبطا .. أو مهاجرا أو يمضي للمشاركة هنا أو هناك على استحياء !

هل يمكن بناء تصور جديد لوظيفة المثقف العربي ؟
خذوها قاعدة ، انه لا يوجد مثقف له قوته الحقيقية ان لم يجد وظيفته من داخل التاريخ الثقافي الوطني أو خارجه معا .. ان التاريخ الثقافي الوطني سواء كان قد استوعبه أو لم يستوعبه ، فهو تاريخ مستهلك في اغلبه ، وان هذا العصر قد تجاوز تاريخنا الثقافي الوطني كثيرا ، ولم يعد هذا التاريخ يلبي حاجات أساسية في الثقافة الحديثة ، نتيجة ما تضمنه هذا التاريخ من هزائم وانتكاسات وما شكله من أكاذيب ، وهلوسات ، وتعداد أمجاد ، بعض منها لا أساس له من الصحة أبدا ، فضلا عن انه تاريخ مشوه لمجموعة تناقضات وتقاليد لأفكار مسروقة من هنا ومنتحلة من هناك .. ولكن لا يمكن لأي مثقف حقيقي أن يختزل الطريق مباشرة كي يصطف خارج تاريخه الثقافي الوطني قبل أن يتشّبع به تماما .. إن المثقف الحقيقي لا يمكنه أن ينفصل أبدا عن تاريخه الثقافي الوطني مهما حمل من سلبيات ، ولكن لا ينبغي التعويل عليه في هذا العصر ! ليس هو عبئا عليه ، إن وجده صعبا ، فليس تاريخنا الثقافي بسيطا أو تافها .. انه ” تاريخ ” معقد وشمولي وكبير وغني وملئ بالسلبيات والايجابيات ، لكنه غير مدروس نقديا البتة .. إنني لا استطيع أن أجد مثقفا عربيا ملتزما بقضايا متنوعة في بيئته أو مجتمعه إن لم يكن له رصيد من الركائز القوية في تاريخه الثقافي والتمييز بين مساحاته ، وقراءة نصوصه بتمكن نقدي .. بمعرفه مفاصله بموسوعية ودقة . إنها مسألة حيوية بالنسبة لي في أن اصنع من الآخرين مثقفين لهم وظيفة أساسية خارج التاريخ الثقافي العربي ، شريطة أن يكونوا قد سيطروا منذ البداية على ذلك ” التاريخ ” ومشاكله .. كي يكونوا مؤهلين لأية مهمة خارجة عن إطاره .. وعليه ، فإنني لا أعول على أبناء وأحفاد الجاليات العربية الذين لهم وظائفهم الثقافية خارج تاريخ ثقافتهم الأم ، كونهم مفتقدين إياها . إذن ، هم لم يعودوا يخدمون الثقافة العربية كونهم انفصلوا عنها .. عكس مثقفين آخرين نجحوا بمزاوجة وظيفية رائعة بين الاثنين وارتقوا على كل التناقضات .. وقدموا للثقافة البشرية روائع نادرة .

تقييم الخطاب السائد .. اجترارات هذه الايام
الإبداع قليل ، بل نادر جدا مقايسة للنمو الديمغرافي العربي .. الثقافة العربية في حالة انحدار مستمر منذ خمسين سنة ! الخطاب السائد ، استطيع وصفه ، بخطاب اجتراري ليس في عباراته وكلماته ومصطلحاته ، بل حتى في مفاهيمه وأفكاره وأنساقه ! الخطاب السائد عربيا اليوم هو إعلامي وشعاراتي أكثر منه ثقافي وإيديولوجي .. انه مزدحم بالتناقضات الدينية والسياسية بعد أن اختفى فجأة الخطاب القومي واليساري الذي ساد بعد الحرب العالمية الثانية .. لقد عشنا مرحلة ثلاثين سنة 1979 – 2009 ازدحم الخطاب فيها حقا ، بثنائية التناقضات ، وهيمنت الانشائيات الدينية ولم تزل ، وخصوصا عندما بدأت منذ مطلع ثمانينيات القرن الماضي ، شعارات خطاب ثورة ولاية الفقيه الإيرانية من طرف وخطاب الصحوة الدينية العربية من طرف آخر .. وقد وصلت كل منهما إلى حالة التصادم .. إنني لا أجد في كل من الخطابين ( ثقافة ) حقيقية ، بل إنهما خطاب انجرف الملايين لتأييدهما بسذاجة بالغة .. اليوم نحن عند مفترق طرق صعب .. خطابنا العربي في اشد حالات البؤس والشقاء والضياع ، إذ لم يعد له تأثير بالغ كما كان سائدا في السابق ، وذلك بفعل ابتذال الكلمة وميوعة مقول القول .. الخطاب اليوم إعلامي وإنشائي ودعائي ، وفي أسوأ درجة من مقول القول وتلقي المتلقي .. سواء على شاشات الفضائيات الهزيلة ، ام على مواقع الانترنيت المبتذلة . صحيح انه مغرق بالسياسة الجوفاء ، ولكنه ليس بخطاب سياسي حقيقي ، وهو بعيد عن تلبية أية حاجات اجتماعية وحضارية كالتي يحياها العالم .. لم يعد الخطاب يشكّله أناس محترفون او بالأحرى مهنيون .. لم يعد الخطاب يتميز به فلاسفة جادون ومفكرون حقيقيون.. لم يعد الخطاب مكتنز بالشعراء والأدباء المثقلين بالقوة .. لم يعد الخطاب خطاب الثقافة والإبداع ، بقدر ما هو اليوم خطاب السياسة المشوهة والتسابيح الإملائية .. لم يعد الخطاب خطاب علم ومعرفة ، بقدر ما هو خطاب شعارات وشائعات .. هناك بقايا خطاب رائع يحمله أبناء جيل سابق ممن تربى على روعة الكلمة وأداء مقول القول .. إن الجيل الجديد لا يعرف من الخطاب ، إلا ما يجده على الويب من دون أن يتعب نفسه في مكتبة أو مركز ثقافي أو ردهات جامعة أو أرشيف معلومات .. الفنون كجزء معبر من الخطاب لم تعد كما كانت سابقا .. الغناء مبتذل جدا ، الطرب منعدم أو يكاد ينعدم .. مات الموشح .. مات المسرح الغنائي .. المسرح الملتزم اختفى .. التشكيل اختلط أمره على كل من هب ودب .. الأدب اضمحل جدا ، ولم يبق الا بضعة أدباء أقوياء تأكلهم الإمراض والأسقام .. السينما العربية غدت تافهة جدا ، والناس غدت تنتظر المسلسلات الرمضانية سنويا وكأنه تقليد أعمى لقتل الزمن ! إننا نعيش خطابا يتوزع بين الوعظ الديني ، ومشاحنات الاتجاه المعاكس .. وتفاهات البرامج التلفزيونية ولم أقف إلا على النادر من البرامج الحية ..

واخيرا : متي يتحقق الحلم ؟
إن النقد كواحد من مقومات الخطاب لم يعد أدبيا ، ولا فلسفيا ، ولا إبداعيا .. انه المجرد من كل المقومات . إن الخطاب الحقيقي هو مقول قول حياتنا التي ينبغي ان يكون خطابها مشاركا البشرية مشاكلها ، وأريده أن يكون معّبرا عن إرهاصات مجتمعاتنا نحو بناء المستقبل وليس ما تريده من المتعة الآنية ، بل ما يمكن أن يكون تحديا لها كي تستجيب له بعد أن يتغّلب الوعي عندها ، فالوعي مغيّب تماما ، والتفكير أصابه الشلل ، والحركة ميتة .. بالرغم من الدعوات المستمرة للإصلاحات والتغيير .. ولعل أهم ما قدم في السنوات الأخيرة وثيقة الإسكندرية للإصلاح.. والتي لم يأخذ بها احد حتى الآن ! لقد كنت ولم أزل انظر إليها بداية طريق جديد .. فهل ستتحقق أحلامنا يوما من اجل مستقبل جديد ؟

نشرت في مجلة روز اليوسف المصرية ، 1 اغسطس 2009 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com

شاهد أيضاً

مطلوب لائحة اخلاق عربية

تعيش مجتمعاتنا العربية في حالة يرثى لها، لما أصابها من تفكك سياسي جعلها تتمزق اجتماعيا، …