الرئيسية / النقد السياسي والتاريخي / تاريخنا.. يمشي على عكاز!!

تاريخنا.. يمشي على عكاز!!


المسكوت عنه كبير جدا !
ثمة أسئلة صعبة بحاجة إلى أجوبة واضحة ، وجرأة متناهية ، وشجاعة كافية ، وسبل إقناع حقيقية، منها : هل نجحنا في قراءة تاريخنا قراءة ذات منهجية نقدية ؟؟ وهل هناك مخفيات في كل ذلك التاريخ ؟ وهل هناك مستور عنه أو مسكوت عليه ؟ وهل هناك ما لم يكشف منه حتى اليوم ؟ ومن كان وراء التزييف والتزوير والتشويه ؟ وهل لمؤرخينا العرب أن يكونوا أحرارا قدر الإمكان للتوصّل إلى مجموعة من الحقائق التي قد يجدها البعض صعبة .. ولكن ينبغي على أجيالنا القادمة أن تمتلك الوعي بحقائق الأشياء بالرغم من قساوتها على التفكير والمشاعر . ان المخفي مغيّب دوما ، وان المسكوت عنه كبير جدا .. هذه ” دعوة ” تضاف الى دعوات أخرى ، من اجل الكشف عن مستورات التاريخ الذي لا يمكن ان يبقى صاحبه المؤرخ ينافق وهو يجهد نفسه للإبقاء عليه مزورّا او مخفيا او يعمل المستحيل من اجل ان يبقى صامتا ، وهو يدري تماما ان تاريخنا يمشي على عكاز منذ زمن طويل ..

الخروج من اجترار الاقانيم
لا يمكننا البقاء أسرى مدونات خطيرة ، ولها تفصيلات تخالف قناعاتنا اليوم طي كتب منمقة ومطرزة ومزينة يتباهى الناس بأغلفتها ولا يقرأ منها شيئا ! علينا أن ندرك بأن هناك من يقدّس سفاسف التاريخ ويبقى يتعّبد في أقبيته ، ولا يريد زحزحة تفكيره بالوعي به فكيف نطالبه أن يتدارسه نقديا ! لقد قلت في محاضرة لي قبل سنتين بأن هناك بنية كهنوتية من المؤرخين والكتاب العرب والمسلمين الذين يؤمنون بارثودكسية اللا تفكير ، وهم يمنعون غيرهم من التفكير .. إذ يريدون البقاء على قناعاتهم المزيفة والفضفاضة ، وإتباع الأهواء والمشاعر والتقاليد الميتة التي عرفها الآباء والأجداد ، وهي على شاكلة تسجيل الحوليات التمجيدية ، وترديد المقولات الخاطئة ، ورواية القصص والأحداث تلفزيونيا كما كانت تلقى في المقاهي أيام زمان ! ناهيكم عن كتّاب وباحثين عرب لهم صفتهم الانتقائية ، إذ لا يريدون الكشف عن كل مخفيات هذا التاريخ وأسراره خوفا ورعبا من سلطة المجتمع قبل سلطة الدولة ! وهناك كّتاب ومفكرون عرب مؤدلجون يريدون إثارة ما ينفع أجندتهم وأفكارهم السياسية من دون أي منهج ، ولا أي نقد ، ولا أي عملية تفكيك ! وهناك ندرة من باحثين حقيقيين لا يمكنهم أن يغطوا كل هذا التاريخ والتراث بأعماقه الدنيا وآفاقه الواسعة وهم قد جعلوا دراسة التاريخ وتدريسه مهنة أو حرفة ترزقهم وأولادهم .. فلا يريدون إذكاء النيران أو إثارة المستور من علامات الاستفهام ! الخ

هل هناك اية استفادة من المناهج الحديثة ؟
لقد مرت أكثر من مائة سنة على ولادة أفكار ومناهج وقراءات وكتابات عن تاريخنا .. وعّربت فلسفات وكتب ومناهج ، وتعّرف العرب على أساليب وسبل متطورة حديثة ، بل ودرس البعض في جامعات عالمية متقدمة .. ولكن يبدو أنهم لم يوفقوا في تطبيق سبل الحداثة بفعل سطوة التفكير القائم !! ولم أجد هناك من له القدرة والجرأة حتى اليوم على أن يفصل بين الماضي والحاضر .. لقد مرت عشرات السنين وكتابة التاريخ عربيا تمشي على عكازات مكسّرة وتخشى من إثارة موضوعات وتتمنّع على أن تثير أية إشكاليات أو معالجة أية مشكلات .. الخ والاحوج إلينا والى تفكيرنا أن نشّخص السلبيات في تاريخنا ، وان نمتلك الشجاعة الكافية لكي يقول الإنسان اليوم بأن في تاريخنا خطايا ارتكبتها أنظمة حكم وقادة وحكام وشرائح مجتمع ومثقفون .. بحق أنفسهم وبحق أجيالهم ومستقبلهم ! لابد أن تدرك الأجيال اليوم بأن تاريخنا ليس كله مزدهر وعظيم وان لا نبقى نزّمر ونطّبل ونغّرر بالأجيال بأن ليس في تاريخنا أية مثالب وليس في مجتمعاتنا السابقة من هنات وليس للحكام والخلفاء والسلاطين من موبقات .. لا يمكن أن نبقى أسرى الخوف من بعض الذين ليست لديهم إلا المفاخرات والأمجاد والتهم الجاهزة فيتهمونك بالمروق والاستشراق والكفر وأنت تتحدث عن تاريخ والتاريخ ليس مقدسا ، فهو صناعة بشرية .. ليس من الصحة أن نسكت على ما حدث في تاريخنا من ظلم وجور ، ومن عبودية وأنوية ، ومن استبداد وقمع ، ومن قطع رؤوس وحز رقاب ، ومن معارك قبلية أو صراعات محلية أو طبقية أو سياسية .. أو حتى من ممارسات جنسية وإباحية ضد المرأة سواء كانت من السبايا أو الجواري ، تحت أبواب ما يجوز وما لا يجوز !! ليس من الحقيقة أن نقمع أي صوت يريد أن يعلن ما سكت عنه الآخرون .. ليس من العدالة أن نبقى أسرى الكهنوت سواء من رجال احتكروا الدين واحتكروا التاريخ معا ! ليس كما تعلن بعض السلطات الشوفينية والإيديولوجيات الكاذبة أن إثارة موضوعات حقيقية سيفكك كيان الأمة وينخر الثقافة ويميت العرب ويتصدّون للنقاد والمفكرين تحت شعار ( لا تجلدوا الذات .. ) .. العكس هو الصحيح .

المسكوتات اودت بحاضرنا !
إن السكوت عن الحقيقة والخوف من ممارسة النقد ومعالجة أخطاء وخطايا تاريخنا ، سيجعل الأجيال تعيش وهما مزدوجا وثنائيات غبية ! لا يمكن أبدا البقاء أسرى التزييف من دون معرفة ما يكمن في الأعماق من خطايا حصلت وأنتجت وأثمرت بحكم ترسبات التاريخ . ليس من الحكمة أن نسكت على تواريخنا الكسيحة ، ونصبغها بصبغات ملونة مضيئة ونربي أولادنا على الزيف والبهتان .. ليس من المنطق أن نمزج تاريخنا الحضاري المضئ عبر التاريخ مقارنة بتاريخنا السياسي المقيت بكل ما حفل به من السيئات ومشروعات القتل والسمل والخنوع والعبودية والظلم والاستبداد واضطهاد المرأة واستخدام الغلمان .. لابد أن يخرج أيضا أولئك الذين تشرنقوا بمرجعيات ومنطلقات طائفية ومذهبية وعرقية وقومية شوفينية وسلطوية وقبلية من أثيابهم ليكونوا حياديين وموضوعيين في معالجة التاريخ واتخاذ المواقف ولو لمرة واحدة !
إن أهم مصادر مسكوتاتنا تلك الانوية والشخصنة والمحليات والجهويات .. وأيضا ما ولد في القرن العشرين من القطريات المقيتة بحيث أن هذا يرى أمجاده مصرية فرعونية ، وذاك يرى عظمته شامية أموية ، والآخر يرى عراقيته العباسية أو العلوية فوق الجميع ! هذا يتفاخر بأردنيته البدوية ، أو لبنانيته المتفردة ، أو سعوديته المكرّمة ، أو ليبيته العظمى ، أو تونسيته الباهية ، أو خصوصياته المغربية ، أو جزائريته الثورية ، أو فلسطينية لا تمس ، أو خليجيته المتعالية ، أو يمنيته السعيدة ، أو سودانيته الوحيدة .. الخ لابد من الاعتراف بأن هناك في تاريخنا مركزيات ومحاور وأطراف .. هناك أعمار وأزمان وأجيال وآجال .. هناك مدن حضرية وهناك أرياف زراعية وهناك بواد وصحراوات وجبال .. هناك سواحل ودواخل .. هناك حضارات نهرية قديمة وهناك آثار وكنوز في خارطة تاريخية متغيرة لم تكن هكذا أبدا عبر الزمن كالتي نراها في القرن العشرين ! وآخر ما يمكنني قوله أن تاريخنا الإسلامي بالذات يتجاوز عمره 1400 سنة لا يمكن أن نقف فقط على أربعين سنة من صدر الإسلام ونعتبرها أسمى الأزمان متجاهلين جملة أخطاء وفتن ومشكلات إلى جنب المنجزات ! لا يمكن لمن يعتز بالأمويين وتاريخهم أن ينكر ما حدث من مآس وظلم في عهودهم ! لا يمكن لمن يعتز بالعباسيين وتاريخهم أن ينكر ما حدث من خطايا قاتلة وثورات مميتة وانقسامات مريعة في عهودهم ! لا يمكن لمن يعتز بالفاطميين وتاريخهم أن ينكر ما فعلوه ويتغاضى عن ذلك ! لا يمكن لمن يعتز بالأندلسيين أن ينكر حجم الانقسامات والتشرذمات ومملكات العصبيات وحكومات الطوائف .. لا يمكن لمن يعتز بالصفويين والعثمانيين وتواريخهم أن ينكر ما حدث عند الطرفين من مشكلات سياسية ، وفتن دموية ، ومظالم معيشية ، وحروب داخلية ، وصراعات طاحنة ! ليأتي الجهلة ويقولون والله نحن نمتلك تاريخا عظيما وان مشكلتنا فقط هي مع الاستعمار والصهيونية !!

وأخيرا : متى نزيل ترسبات التاريخ وبقاياه ؟
كما قلت في كتابي ” بقايا وجذور ” ( صدر 1997 ) إن ما تحّكم في مصائرنا اليوم مجموعة من ترسبات التاريخ وجذوره العقيمة التي خلقت من بيئاتنا ما اهلّها لتكون طعاما للاستعمار والصهيونية .. فهل يفّكر العرب وكل الشعوب في عالمنا الإسلامي علنا في ذلك ويقولون ما يبطنون .. أم أنهم يبطنون عكس ما يعلنون ويعترفون بأن الحاجة باتت ماسة لمعرفة ثيمات التاريخ وبدائله بكل خصبه وبكل خطاياه من اجل أن نعرف كيف نتخلص من ترسبات قاتلة في تفكيرنا وأساليبنا وندرك كيفية تعاملنا مع الآخر في ضوء أساليب جديدة لا علاقة لها بما تمنحنا إياه غرائب التاريخ العجيبة .

نشرت في مجلة روز اليوسف ، 25 يوليو 2009 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com

شاهد أيضاً

على المشرحة.. لا مواربة سياسيّة في الحوار العلمي (الحلقتان الثالثة والرابعة)

ثالثا : الاحرار العرب : مستنيرون لا خونة ! 1/ اخطاء تاريخية وتحريف للتاريخ ويستكمل …