الرئيسية / افكار / متى القطيعة ؟.. قاطعوا رجال الدين.. السياسي

متى القطيعة ؟.. قاطعوا رجال الدين.. السياسي



قطيعة.. بيكاسو

القطيعة : المعنى والمبررات
ليس معنى ” القطيعة ” مع رجال الدين ، نفيا للدين ، أو رميهم في سلة المهملات ، بل الانقطاع عنهم وامتلاكهم مهنتهم ومواعظهم في الامر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وان يدركوا انهم فشلوا في قيادة الدولة والسياسة والمجتمع .. وبعد ان قدموا تجاربهم السيئة واخفقوا فيها بما جرى على ايديهم من اخطاء ، وما زاولوه من تناقضات في كل من الدولة والمجتمع .. ولعل تجربة ايران على مدى ثلاثين سنة خير دليل على فشل اقحام الدين بكل تجلياته في السياسة ومستنقعاتها الآسنة ! ان من يبدأ القطيعة سيشعر بأنه سيتحرر من طوق الايديولوجيا التي جعلوها مقدسة ومخيفة ، وسيعلم بأن مجتمعاتنا كلها عاشت اوهاما ولم تزل باسم الثورة الدينية او الصحوة الدينية ! ان تجارب مريرة كالتي جرت في ايران والعراق والسودان والجزائر ولبنان وغيرها .. قد علمّت الناس دروسا حقيقية بأن لا خلاص الا بقطيعة رجال الدين السياسي الذين يتاجرون بالمقدس ، وهم من ابعد الناس عن الواقع !
ان القطيعة ، تمنح الانسان فهم الزمن والتاريخ والوعي والواقع بعيدا عن الحاضر والمستقبل . اننا غير ملزمين بأن نكون مجموعة سلالات ماضوية تتابعية مقلّدة وببغاوية لا نعرف غير ترديد ما قيل .. تتناسل ما حدث بكل غلو وتعصّب واحقاد ، فلكل زمن ظروفه وعناصره واشكاله ومضامينه والوانه وفضاءاته كما هو حال أي بيئة ، تتلون كل الاشياء والعناصر والاحياء بالوانها .. فليس من العقل ابدا ان نبقى سجناء عند اناس لا يعرفون من الحياة الا توافهها ، ولقد انتهى بنا اليوم زمن ” الاسلام السياسي ” بعد ثلاثين سنة فقط من سيطرته على مقاليد ايران وجرف مجتمعاتنا معه ! هذه مسألة حيوية ينبغي ان يدركها الجيل الجديد الذي يتحفز لبدء تاريخ جديد بعيدا عن كل ترسبات القرن الماضي .
ان التفكير حتى لدى النخب السياسية في دولنا ، وحتى المثقفة والعليا في مجتمعاتنا ، لم يزل يراوح في مكانه باسم الانتماء والقيم الموروثة والتراث مرات ، وباسم الاصولية والثورة الدينية التي استحوذت على السلطة في إيران عام 1979 ، فأشعلت كل المنطقة والعالم الإسلامي بالحركات والجماعات الدينية ضمن ظاهرة الإسلام السياسي بعد قرابة خمسين سنة من ظهوره على يد الإمام حسن البنا بمصر عام 1928 ، وهو يعد الخروج عن المألوف وعن شرانقه خطا احمرا قانيا كما يرسمه الخطاب الشعبوي الذي يمجده الجميع ..

التعصّبات المتورمة
عندما اقرأ بإمعان عن قطيعة شعوب متنوعة تفكّر مليا في تاريخها ، وتعتز جدا بذاكرتها .. وكيف تتعامل مع حاضرها ، وارادتها ازاء مستقبلها .. اجد نفسي امام مجتمعاتنا ، وهي لا تتزحزح قيد انملة عن بنية صلدة من التفكير وهي ترتع في تناقضات فوضوية ، وتردد شعارات ساخنة ، وتتعامل مع افكار متيبسة ، وتتشبع بعواطف ساخنة ، وترتطم حياتها بتعصبات لمطلقات لا اول لها ولا آخر .. ان اسوأ ما نجده عندنا ، يتمثّل بالتواصل للتعصبات والتقليد ازاء الانشقاقات والجهل المطبق للحقائق والمعلومات .. ان الماضي لم يصبح تاريخا حتى يومنا هذا ، فاحداث وشخوص وحالات ومصارع ومآثر وهلوسات وخرافات وكرامات وحكايات وبطولات وامجاد وقبليات وكرنفالات بكاء ولطم وعزاء .. الخ لم تزل تعيش حتى يومنا هذا في المشاعر والوجدان والضمائر وكأنها من صلب العقائد ! ولقد كانت كلها ستختفي لو عاشت مجتمعاتنا تربويات مدنية وقطيعة تاريخية حقيقية واحترام للدين ومكانته .. ولكن الثورة الدينية في ايران عام 1979 ، كانت وراء احياء كل التناقضات ، بل ووجدنا العالم المسلمين ينقسمون انقساما طائفيا فظيعا لأول مرة بعد خمسة قرون من الغلو والتعصب .

الذاكرة التاريخية : سلسلة ثلاثة اجيال
ان ثلاثين سنة ومنذ العام 1979 وحتى اليوم 2009 ، نقلتنا نقلة ظالمة الى الوراء ، بحيث لم يعد التفكير العلمي يعمل بشكل سوي ، ولم تعد الحياة الاجتماعية تعيش بانسجام وتعايش وحريات كما كانت ، وحتى المرأة بدت منسحقة ومتهمة وكأن لا يشغلها شيئ الا كيف تخفي نفسها عن العالم ! إن ثلاثين سنة قد افقدتنا القدرة على التحكم في صناعة مستقبلنا بازدياد التناقضات الهائلة بحيث لم اجد أي مرحلة كسيحة في تاريخنا قد عاش الناس فيها كما عاشها جيل ما بعد 1979 .. إن ثلاثين سنة قد مرت باحلك حالاتها وازف رحيلها عند 2009 .. ولكننا سنعيش تبعاتها طويلا . اتمنى ان يدرك الجيل الجديد اهمية القطيعة ضد المؤدلجات التي حكمتنا على امتداد جيلين سابقين : جيل القومية العربية الذي انتهى بنا الى خواء الاهداف والشعارات السياسية التي رفعها بين 1949 – 1979 على مدى ثلاثين سنة سبقت جيل الاسلام السياسي الذي انتهى بنا اليوم الى تمزقات النسيج الاجتماعي من خلال الحركات الارهابية والغلو والتعصب والكراهية التي راجت بين 1979 – 2009 . فاذا كانت القومية العربية قد اكلت النزعة الوطنية ، فان الاسلام السياسي قد سحق الاثنتين معا .
لقد كانت بلداننا ومجتمعاتنا قد خرجت اثر الحرب العالمية الاولى من مخاضات صعبة ، ونجحت النخب السياسية والثقافية في الاستحواذ على الاستقلالات الوطنية بعد التكوينات الصعبة على عهد الاستعمار ، وبدايات تشكيل مجتمعاتنا المدنية على اسس مدنية وقانونية للمرحلة 1919 – 1949 والتي اختتمت بولادة دولة اسرائيل . انها مراحل اجيال ثلاثة تريد الاجيال الثلاثة القادمة في القرن الجديد ان تنفض ايديها من كل رواسبها للانطلاق في رحاب زمن جديد .. وهذا لا يحدث البتة الا من خلال القطيعة لتأسيس جديد . جاء جيل الاسلام السياسي عام 1979 ليأكله ويركض وراء سراب الامة الاسلامية والصحوة الدينية والامام المنتظر وتصدير الثورة والتكفير والهجرة .. الخ

ماذا حدث في الثلاثين سنة المنصرمة ؟
ان تاريخنا المضيئ بالادوار الحضارية قد اختفى ذكره ، كي نجد الاسلام السياسي لا يحمل سوى شقاقات سياسية حية ، وهو يتعّثر بركام تقاليد اجتماعية مستلبة حية ترزق وكأنها ولدت هذه الايام .. ان كل انقسامات تاريخنا قد وجدت نفسها حية ترزق بيننا ، وغدت تتغذى في ذاكرتنا ، بشكل مختلف جدا عن حقائق الاشياء نفسها .. التاريخ الحضاري هو التعايش بين الاديان والملل وروح المسؤولية والتعاون والانسجام والقوى الاجتماعية الاهلية والتناغم وقبول الاخر .. هذه كلها احرقت لما بدأنا نعيش التفرقة ونجد روح الكراهية والتهميش للاخر والرفض والنقمة وتأجيج الاحقاد .. كلها حدثت عندما انزلوا الاسلام من عليائه وسموه وتجلياته ليكون مادة سياسية يعيش في مستنقعات سياسية ، ويغدو رجال الدين هم الحكم والفصل في شؤوننا وحياتنا ومصيرنا .. لقد انتج التاريخ جملة هائلة من المعطيات .. منها ما هو ايجابي وحضاري يخدم الانسان والمجتمع ، ومنها ما هو سلبي ومتردي يؤذي كل الحياة .. ومع ولادة الاعلام المعاصر المتقدم ، صدمت مجتمعاتنا لأول مرة بجدارات صلبة ، وجهالات فضة ، وشتائم مقذعة ، ومقالات فارغة ، وخواطر مضحكة ، وحوارات رادحة ، بل تفاقم الامر الى قذف سياسي وديني وطائفي جماعي ومن خلال اسلوب ردح تلفزيوني وعلى شبكة الانترنيت فاضح على الملأ ! واعتقد ان الاسلام لا يقبل ابدا بما هو حاصل اليوم على ايدي رجال الدين والملالي الجدد .

الوعي المدني .. طريقنا الى الخلاص !
انه يأتي مع الزمن ولا يمكن خلقه الا بانتقال الجيل الجديد لما بعد 2009 من الايديولوجيا الى المعرفة ، ومن سلطة التابو الى القانون المدني ، وان تترسخ القطيعة بخدش التفكير السائد وخضّه كي يعود الوعي بالحياة المدنية وان يبقى الدين ساميا متجليا في الصدور ، وان يعود دين محبة والفة وتعاون .. وان يغتسل الجيل الجديد من كل الاوساخ ويتخلص من تناقضاته الصعبة ومن بقايا تاريخية وامراض اجتماعية وفواجع سياسية . ليس من حقنا ابدا احتكار الحياة .. وليس من حق أي مؤسسة دينية او حزبية احتكار الزمن ، فهو ملك لكل الاجيال القادمة .. ان تجربة ايران اليوم احد ابرز الامثلة الحية ، اذ اثبت الزمن ان رجال الدين ليس بمقدورهم ان يحكموا دولة حسب ، بل ليس باستطاعتهم الحفاظ على نسيج مجتمع ! ان جيل ما بعد الثلاثين مطالب بالقطيعة مع روح ما سبق ، ومع كل ترسباته من الاحقاد والتعصبات والانقسامات والفوضى والجهالة .. ومطالب برسم طريق جديد لمستقبلنا .. فما الذي نحتاج اليه حقا ؟ خلق القطيعة ، وفهم الحياة المدنية بعيدا عن أي تقديس او تدنيس . ان ” القطيعة ” لم تجد نفسها مؤسسة في مجتمعاتنا بعد ، ومن النادر ان نجد من يؤمن بها ، ذلك لأن لا رؤية لأي مستقبل ان كان التفكير قد غرق في مشاكل الدين والدنيا والتفكير ليل نهار بالممنوعات والمكروهات .. لا مستقبل لأي مشروع او رؤية اذا كان التفكير مسطحا وخاليا من اي فهم للحياة الدنيا وظواهرها المعاصرة وتشيؤاتها الحديثة التي لا قدرة لنا ابدا في الابتعاد عنها .. ان غير المعقول لم يزل يعيش بيننا ! فكيف سيكون حال هكذا مجتمع مستقبلا ليس له الا التنازع مع عالم من التناقضات ؟

نشرت في مجلة روز اليوسف المصرية 4 يوليو 2009 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com

شاهد أيضاً

مطلوب لائحة اخلاق عربية

تعيش مجتمعاتنا العربية في حالة يرثى لها، لما أصابها من تفكك سياسي جعلها تتمزق اجتماعيا، …