الرئيسية / الشأن العراقي / بنية المجتمع العراقي : المسألة العشائرية: ظاهرة خطيرة

بنية المجتمع العراقي : المسألة العشائرية: ظاهرة خطيرة



اضغط لمشاهدة خارطة العشائر العراقية بقياس كبير

العشائرية : المعنى .. الظاهرة
تعد الظاهرة العشائرية في العراق ، مسألة من أخطر المسائل الاجتماعية التي لابد أن تقرأ بمعزل عن أية عاطفة أو أية انحيازات .. وان تقرأ علميا بلا أي مداخلات سياسية ، أو أيديولوجية ، أو سلطوية .. إنها ليست مسألة جديدة طفت على السطح حتى يندهش الغلاة ممن يناصرها ويعلي من شأنها .. وإنني عندما أعالجها كواحدة من اخطر الأنساق في بنية المجتمع العراقي ، لا أريد الانتقاص من أصحابها شيوخا وأتباعا ، ولا مخاصمة عاداتها وقيمها ، ولكن لابد من تفكيك ” الظاهرة ” ونقدها من الداخل .. كونها إن حملت بعض الآثار الايجابية ، كما يدعي أصحابها ، وخصوصا في العراق والأردن وسوريا ، فان آثارها السلبية كانت ولم تزل تهتك بنية مجتمعاتنا ، وتؤثر سلبا على الأنساق الحضرية ، بل وعلى مركزية السلطات الإدارية والسياسية في البلاد كلها ، وقصدي هنا العراق الذي تزدحم فيه تلك الآثار التي خذلت القيم الحضرية والمدينية ، سواء المتوارثة أبا عن جد في مدننا وبلداتنا ، أو المستحدثة التي تعب في إرسائها المحدثون من المستنيرين والمصلحين على امتداد قرن كامل ..
إن الظاهرة ليست موروثة عن الزمن العثماني الطويل لمجتمعنا ، فهي من إفرازات تواريخنا الاجتماعية القديمة التي وفرت هي نفسها الملاذ الآمن لنفسها من خلال الإبقاء على تجمعاتها إزاء كل سلطة حاكمة سيطرت على حكم العراق .. بل وأنها كانت ، تاريخيا ، ذيلا لأية سلطة قوية وصعبة جدا .. إذ سرعان ما تتحالف مع أية سلطة قوية تنذرها بالويل والثبور وعظائم الأمور ، فتغدو مطواعة لها إذ تخشى من سطوتها ، ولكن سرعان ما تتمرد عليها ، عندما تشعر بأن السلطة قد أصابها الوهن ، أو فتّ في عضدها أي ضعف يسودها في المركز والأطراف ..
وإذا كانت مخاطرها السابقة في الأطراف ، وخصوصا ، ما ينتج عنها من نتائج وخيمة نتيجة غزوات وثارات ونزاعات وأحقاد .. فيزداد الطرداء في البوادي ، ويزداد قطاع الطرق على المسالك البرية والنهرية ، وتتعرض بعض المدن والبلدات للهجمات والسرقات .. الخ ، كما تخبرنا الأحداث التاريخية على امتداد قرون مضت ، فلقد زحفت الظاهرة العشائرية بكل قيمها البدائية نحو المراكز الحضرية لتغزوها غزو الجراد على امتداد خمسين سنة من حياة المجتمع العراقي المعاصر . إن العشائري العراقي يشعر بنشوة سايكلوجية غريبة ، عندما يخبرك انه من العشيرة الفلانية ، ويتبختر آخر كونه سليل عشيرة علانية أخرى .. ويتفاخر الأول بأمجاد عشيرته في غزو عشيرة أخرى .. فيقوم الثاني بالتنطع بمفاخر الأخرى وبطولات رجالها .. ويردد الآخرون بمجاملات كاذبة لا تنطلي على الأذكياء ! ولن تجد مثل هذه ” المفذلكات ” العشائرية العراقية إلا في مجالسهم وجلساتهم ودواوينهم ومسامراتهم سابقا ، ولكنها وصلت اليوم كل المؤسسات والأجهزة الرسمية وحتى الجامعات والوزارات التي لا نجد فيها الا الثرثرة واللغو والكلام المعسول والمجاملات الكاذبة ، وهي عادات موروثة نجدها في اغلب المجتمعات العربية القبلية والعشائرية التي تزدحم بها أوطاننا ..

خصوصية عراقية بامتياز !
تختلف المواقف العراقية من هذه ” المسألة ” الخطيرة اختلافا كبيرا ، من دون معرفة الاطراف المتنازعة حولها عن مدى قوة هذه ” الظاهرة ” في المجتمع العراقي بدءا بمن يحكم العراق وانتهاء بكل المواطنين العراقيين . ويكاد ينفرد المجتمع العراقي بمثل هذه ” الظاهرة ” بين مجتمعات المنطقة ، بالرغم من وجودها في الأردن وسوريا وفلسطين إلى حد ما .. كما أنها ظاهرة عراقية ليست قابلة كي تختفي بسرعة أو تعود بقوة ، فهي لها حالاتها وامتداداتها ليس عند العرب حسب ، بل عند الأكراد والتركمان الى حد كبير ، ولكنها مقترنة بالريف دوما ، اذ لا علاقة حيوية لها مع تاريخ المدن والبلدات القديمة الا في الخمسين سنة الأخيرة ، عندما اختلطت العناصر الاجتماعية اختلاطا غير مدروس ، وزحف الريف على المدينة ، بشكل لا يصدق ، خصوصا إذا علمنا بأن الريف هو النسق الثاني بعد الحضر في المدن ، ومن بعده يأتي نسق البادية وأهله من البدو الذين نجدهم ممثلين بالقبائل ..
والبدو لهم خصائصهم ، فمن تبّقى منهم اليوم ، يكاد يحتفظ بكل مزاياه ، مفتقدا الكثير من الأعراف التي لا نجدها في الريف ، فالريف العراقي هو غير البوادي العراقية ، فالبدوي كان يخجل إذا وصف بـ ” المزارع ” ، اذ عرف بالرعي والتنقل من دون أي استقرار .. اليوم ذابت هذه الأعراف .. ولكن الريف اقترن بالمزارعين الفلاحين ، علما بأن مفهوم ” العشائر ” هو المعنى بتفرعات القبيلة ، فلكل قبيلة تفرعاتها من العشائر ، ولكن مفهوم ” العشيرة ” غلب كثيرا في العراق على مفهوم القبيلة .. إننا اليوم أمام مأزق حقيقي من فوضى القيم العراقية ، بل ومن فوضى التقييم الاجتماعي بحيث هناك من المستنيرين من لم يزل يصر على ان ” العشائرية ” مرض خطير وفتاك في المجتمع ، ولا يمكن قبوله كونه يصطدم مع قيم الحداثة والتقدم .
كان العراقيون قد حاربوا العشائرية وأمراضها منذ عقود طويلة من السنين ، وكان المستنيرون يستهزئون بالأعراف العشائرية التي يعتبرونها ممثلة للبدائية والتخلف ، بل واعتبر قانون دعاوى العشائر الذي كان سائدا في العهد الملكي العراقي ، أحد أهم دعائم التخلف السياسي والاجتماعي .. وثمة أفكار رائجة ومسيطرة اليوم تقول بأن القيم العشائرية واللحمة العشائرية لا تقتصر على كونها مهمة فقط ، بل وان هناك من يعتبرها من أهم دعائم المجتمع ، وان العراق لا يمكن أن يعيش من دون عشائر ومشيخات ! وقد تضخم هذا النفس مؤخرا بعد أن نفخ النظام السابق للروح العشائرية ، ليأتي اليوم من يجعل من نفسه أميرا ، بعد أن منحته السياسات العقيمة مرتبة المشيخة ، وهي مرتبة فارغة من معانيها الحقيقية . وعليه ، فان هذا ” التناقض ” الاجتماعي الذي يزدحم به العراق ، مصدره سياسي بالدرجة الأولى ، اذ لا يمكن للدولة ، كما تبين من تعاقب الأنظمة السياسية الجمهورية ، العسكرية منها والحزبية ، وحتى الدكتاتورية ، وصولا إلى نظام الفوضى الذي يعيشه العراق اليوم ، إنها تستطيع البقاء من دون أن تستند إلى العشائر ، وبنفس الوقت ، فان المجتمع لم يصل إلى درجة متقدمة من التقدم كي يرفض أي ظاهرة تصطدم قيمها مع الحداثة والتطور ..

فوضى القيم الاجتماعية
ومن الأخطاء التي مورست في العراق ، أن العراقيين لم يدركوا حتى اليوم معنى ” العشائرية ” في مجتمعهم ، بل والأخطر غزو القيم والأعراف العشائرية لمجتمعات حضرية عراقية قديمة .. كما أن من الآفات التي ابتلي بها العراقيون ، ان أغلبيتهم اليوم تؤمن بأن كل القيم العشائرية صالحة وايجابية ونبيلة من دون ان يقرأوا الوجه الآخر لمثل هذه ” الظاهرة ” المضادة لحياة المجتمع المدني ، والتي خرقت المجتمع بطوله وعرضه على امتداد القرن العشرين بكل ما طبعت به المجتمع من الغرائب والعجائب .. فضلا عن ممارسات سلبية لها تتنافى مع القيم الحديثة في بناء أي مجتمع حديث .. فالعشائرية تصطدم بالنزعة الوطنية اصطداما كبيرا ، بل وتفت في عضد المجتمع بمغالاة هذا على حساب ذاك ، والعشائرية تقف موقف الأصم الأبكم من عاداتها وتقاليدها سواء في اخذ الثأر وجريان أحكامها القضائية بعيدا عن أجهزة الدولة الرسمية ، والوقوف ضد النظام العام ، وفي التنازع على الأرض .. الخ فضلا عن أن البنى التي تتركب منها الأنساق الاجتماعية في الريف ، تعتمد المفارقات البعيدة بين المشيخة والتابعين لها .. وثمة تجمعات سكانية ، أو مجتمعات عشائرية لها عدة أعراف سارية المفعول تصطدم حتما مع التقاليد الحضرية سواء في الزيجات ، أو التعامل ، أو جزئيات الثقافة العشائرية التي تسودها الأعراف البعيدة عن القانون المدني وحتى قانون الأحوال الشخصية . إن إلغاء قانون دعاوى العشائر لم يأت بعد وعي عميق بتخلفه في الدولة والمجتمع اثر متغيرات 14 تموز / يوليو 1958 ، ولم تكن هناك أية سياسات وأعراف بديلة يمكنها أن تملأ الفراغات التي خلقها .. وعليه ، فان متغيرات تلك ” الثورة ” لم تقض على الظاهرة أبدا ، بل تبلورت في حالات جديدة أضرت بالمجتمع العراقي وتقدمه .. وكانت واحدة من أسباب تراجعه وتأخره حتى يومنا هذا !

التقاطعات : صراع الاضداد
إن العشائرية من اكبر المنافسين للمركزية الإدارية وأحوال المجتمع المدني الحديث ، وهي تتقاطع مع الديمقراطية ودولة القانون .. ذلك ان اعرافها وعلاقاتها البدائية تصطدم بالقيم الحديثة ، ويكفي ما شهدناه من حالات بائسة في القرن العشرين سواء في مجلس النواب العراقي القديم ، أو في الشوارع البائسة ، أو عند بوابات الأسواق المركزية ، ومرأى البسطات على الأرصفة ، أو في الثقافة الطارئة وما أصاب الشعر والأغاني على حساب غياب الإبداعات الحضرية ، أو في مؤسسات الدولة المدنية ، أو في الجيش وصولا إلى الجامعات .. وصولا إلى اقنية الحزب الحاكم ، بل وكانت ” الحالة ” قد وصلت قمة التخلف في مؤسسة رئاسة الدولة على امتداد ثلاثة عقود بليدة من نهايات القرن العشرين . ويكفي ما نشهده اليوم من فوضى القيم السائدة ، وقد علمنا تاريخيا أن اغلب رؤساء الحكومات وقادة العراق في القرن العشرين يريدون دوما إرضاء شيوخ العشائر ، وكسب ودهم لكبح جماح قوتهم في المجتمع ، خصوصا إذا علمنا أن أبناء العشائر مادة خصبة للجيش والمؤسسات الأمنية .. كما أن تاريخ العراق المعاصر يزدحم بالمشكلات العشائرية ، وكانت للعراق تجربته عندما اصطدمت الدولة بهم عند مطلع الثلاثينيات ، وخصوصا بعد إصدار قانون الخدمة الإلزامية في الجيش العراقي .. وكيف ضربت تجمعاتهم بقسوة وبالطائرات منذ عهد فيصل الأول .. إن أقسى ضربة مباشرة وجهت للعشائر العراقية كانت في ثورة 14 تموز / يوليو 1958 عندما ألغى النظام الجمهوري قانون دعاوى العشائر ، وساوى أبناء المجتمع بعضه بالآخر .. وكان ذلك العمل ، برغم سمو أهدافه ، متسرعا وغير مدروس أبدا ، بحيث جاء من دون أي وعي جماعي في المجتمع بقيم الحداثة والتقدم إزاء إزاحة قيم التخلف البدائية ، فكان أن اخفق العراقيون إخفاقا مريرا .. وما زالوا حتى يومنا هذا يعيشون مشكلات اجتماعية لا أول لها ولا آخر نتيجة صدام القيم المدنية والحضرية بالأعراف العشائرية ، وقد وصل الأمر بالنظام الحاكم السابق أن يجعل من بعض القيم العشائرية المتفسخة راسخة من خلال سيادتها على بقية القيم الأخرى . وليكن معلوما أن القيم العشائرية تتباين صورها وأشكالها ومضامينها من مكان إلى آخر .. وأنها لما وجدت نفسها متسلطة سياسيا وحزبيا على المجتمع ولأول مرة في تاريخ العراق ، فقد عبثت بمقدراته ، وانتهكت نسيجه ، وبددت ثرواته .. وغدت كلها من دون استثناء ترقص وتدور حول نفسها بأهازيجها التي كانت معروفة أمام السلطة العاتية التي انبثقت منها أصلا !

العشائرية : أخطر مسألة اجتماعية
إن الظاهرة العشائرية في العراق ، مسألة من أخطر المسائل الاجتماعية التي لابد أن تقرأ بتجرد وبروح علمية ، وبمعزل عن أية عاطفة ، أو اية انحيازات .. وان تقرأ ضمن اطر مناهج علم الاجتماع المعاصرة ، بلا أي مداخلات سياسية أو إيديولوجية أو سلطوية .. إنها ليست مسألة جديدة طفت على السطح حتى يندهش الغلاة ممن يناصرها ويعلي من شأنها .. إن ” العشائرية ” لها جملة كبيرة من الغلاة الذين يعتبرونها حالة أشبه بالمقدسة ، وليس لهم الا التسبيح بحمدها ليل نهار .. وليس هناك من يجرؤ اليوم لنقد مثالبها وسلبياتها على وحدة المجتمع وتقدمه .. لقد سمعت احد شيوخ العشائر العراقيين ، وهو يعدد ايجابياتها ، بحيث جعلها قدوة مجتمعية في عالم ينتمي إلى القرن الواحد والعشرين .. إنها اليوم واحدة من اخطر مظاهر التفكك الاجتماعي في العراق ، وإذا ما أضيفت إليها الطائفية ، فإنها كانت واحدة من اخطر مظاهر التجزؤ والانقسام .

للموضوع صلة .. انتظر الحلقات القادمة

يعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com

شاهد أيضاً

نقطة نظام ضد الفساد والمفسدين والفاسدين

ملاحظة : طلب مني عدد من الاصدقاء العراقيين ان اعيد نشر هذا ” المقال ” …