الرئيسية / فن وموسيقى / على ورق الورد.. محمّد القَصبْجي : ما مَعنى صَمته العَجيب ؟

على ورق الورد.. محمّد القَصبْجي : ما مَعنى صَمته العَجيب ؟



صورة نادرة تجمع السيدة ام كلثوم وعلى شمالها الشيخ زكريا احمد والموسيقار فريد الاطرش وعلى يمينها الموسيقار رياض السنباطي وينفرد من ورائهم الموسيقار محمد القصبجي


كنت قد وعدت قرائي الأعزاء في مقالي الأسبوع الماضي ، أن أتوقف قليلا عند الموسيقار العظيم محمد القصبجي .. ذلك المبدع المصري الأصيل الذي كان لغزا محيرا ، ولمّا يزل صندوقا مقفلا من الأسرار ، وخصوصا بعد أن أوقف إبداعه ، وصمت عن قصد وسبق إصرار ! وكنت قد تّعرضت لقضيته الإبداعية في مقال لي كنت أرد فيه على الأخ الدكتور جلال أمين بعنوان ” سايكلوجية الخوف من نقد الكبار ” ( الهلال ، يوليو 2000 ) . هنا ، أريد أن أتوغّل في فلسفة هذا الرجل العبقري الذي أعتقد انه كان فلتة زمان رائع ، وسيندر أن يتكرر مثله ، وسيسأل التاريخ عن أسراره التي كان يخفيها ؟ عن سر صمته الرهيب الذي جعل الدنيا كلها تتساءل عنه ، وهو يشخص بهيئته الساكنة وهو يعزف العود وراء الست.

تساؤلات الزمن الهزيل عن الزمن الجميل
كان محمد القصبجي قد طواه النسيان منذ رحيله ، ولما بثّ مسلسل أم كلثوم ، تلفزيونيا قبل قرابة عشر سنوات ، فقد تذّكره الناس القدماء ، في حين لم يعره الجيل الجديد أي أهمية ..بدأت استعيد أسئلتي عن أسرار هذا العملاق .. ولماذا غاب أسمه طويلا على مدى خمسين سنة أو أكثر سواء في حياته أو من بعد مماته .. ببساطة متناهية : كان القصبجي قد غُمِطَ حقه ، وتاريخه ، وإبداعه طويلا على امتداد خمسين سنة .. وان فرصته التي وجد موهبته وصناعته فيها قد اختفت عن المسرح الثقافي ، مذ اختفى ذلك العصر الحرّ الخصب الجميل الذي ازدحمت فيه الطاقات والممارسات والحركات والمنتجات الرائعة ، ليس عند اسم معين ، أو أسماء محددة ، بل عند نخب عدة كانت لها خصالها المتميزة في كل مجالات حياة النهضة والإبداع .
إن قريحة القصبجي لم تنضب أبدا ، كما ادّعى بعض المحللين ، ولكن الحياة الحرة التي كان القصبجي يعايشها قد نضبت ! لقد وجد الرجل نفسه فجأة على أرضية يابسة ، هي غير تلك التي كان يتحرك فوقها في الخمسين سنة الأولى من القرن العشرين ! وإذا قال قائل : أن غيره بقي مستمرا في عطائه وإبداعه أمثال : رياض السنباطي ، ومحمد عبد الوهاب ، وفريد الأطرش وغيرهم ، فإنني أقول : إن من يتوغل في أعماق القصبجي ، سيجده مختلف جدا عن أقرانه في الحس الاجتماعي والتفكير الموسيقى ، إذ لا يمكن للرجل البقاء ضمن حيز واحد فقط من مقامات السلم الموسيقي الشرقي على غرار ما فعله السنباطي الذي كان يّنوع ألحانه ضمن حيز مقام واحد من ذلك السلم .. فضلا عن أن القصبجي لم يقتبس أي لوازم موسيقية عن غيره من المؤلفين الموسيقيين العالميين كالذي فعله كل من عبد الوهاب وفريد وغيرهما .. لم يفعل القصبجي ذلك ليسخّرها عربيا ، فتذيع وتنتشر إعلاميا وإبداعيا .

ذروة في الاعماق
كان القصبجي وأعماله شاهدة على مقدرته العليا على صياغة لوازم موسيقية أصيلة ، وقوية ، وصعبة .. فضلا عن إبداعه في بناء جملة الحان جديدة ومتماسكة مطّورا في الألحان العربية ومجددا في الموسيقى الشرقية . واعتقد أنه الوحيد الذي طّور الموسيقى العربية بأصالة واقتدار .. وكان من قبله الموسيقار سيد درويش الذي سبقه بجيل ! فالقصبجي في موسيقاه من الصعوبة بمكان أن يجد الأصوات التي يمكنها أن تصدح بها ، وإذا كان الرجل قد وصل ذروته مع الست أم كلثوم في رائعة ” رق الحبيب ” ، فقد كان ذروته أيضا مع ليلى مراد في ” أنا قلبي دليلي .. ” تلك الأغنية الراقصة الرائعة الخالدة .. ووصل إلى قمة الإبداع في ما لحنه للفنانة أسمهان في رائعة ” يا طيور ” الساحرة .. ولقد أبدعت كّل منهّن في ترجمة التفكير الموسيقي الخصب للقصبجي .. ولما رحلت أسمهان ذات الصوت الاوبرالي الواسع إلى السماء قبل أن يبدأ النصف الثاني من القرن العشرين صفحاته ، فان القصبجي ـ كما اعتقد ـ اعتبر ذلك الرحيل علامة شؤم كبيرة لما سيحدث من متغيرات تاريخية في الحياة .. فرحل بموهبته الخصبة في أعماقه ، والتي لم تستطع أم كلثوم أن تنتشلها ، كي تترجمها بفعل تأقلمها مع الصفحات الجديدة التي خلقتها عوامل وظروف عقد الخمسينيات ، فسببّت محنة نفسية وإبداعية حقيقية للقصبجي .. علما بأنه لم يبخل على فنانات أخريات بأرق الألحان الرائعة ، ومنهن : سعاد محمد ، ونور الهدى وغيرهن .. ولم يكسر صمته إلا في تلحين ثلاث قصائد وطنية غنتها كل من شهرزاد ، ونازك ، وفايدة كامل ، ولكن بالحان عادية .. فماذا حدث ؟
لقد بقي جسمه شاخصا أمامنا مع كل معاناته ، ولكنه أبقى نفسه عن عمد وسبق إصرار عظيما ، ولم يهمّه أبدا أن يجلس عازفا على عوده في فرقة الست على امتداد السنوات المتبقية من حياته ! ولا ندري كيف كان يفكر موسيقيا في تلك المرحلة الأخيرة من حياته ، وهو يعزف بهدوء على أوتار عوده تلك الألحان الشجية المؤطرة التي كان يضعها زملائه وطلبته الفنانين الكبار ، ومنهم ، السنباطي وعبد الوهاب وبليغ ؟؟ نعم ، كان يتقّبلها ليس على مضض بل على استحياء كونه احتفظ لنفسه بموهبته وقريحته في أعماقه ، وربما كان الرجل يبكي في أعماقه ليس على ما يسمع من شدو الست الكبيرة أمامه ، بل على ما حدث من انقلاب فاضح في مفاصل الحياة كاملة ! ولكن هل كان من السهل عليه أن يتقّبل الجمل اللحنية والموسيقية التي كان ينسجها غير السنباطي ؟ وإذا كان يتقّبل كلمات شوقي وبيرم ورامي واخيرهم ناجي في القصائد الرائعة التي شدت الست بها ، فهل كان يتقبّل منها كلمات بقية أغانيها بكل تجّرد ؟

الافتراق عند طريقين :
إنني اعتقد بأن الرجل كان يكظم آلامه في أعماقه ليخزنّها إلى جانب ما كان يخزنه من الإحن ! وأقول: حسنا جاء رحيله قبل رحيل الست أم كلثوم بسنوات عدة ، لأنه لن يسمع أغنياتها الأخيرة التي غنتها بعد الأطلال !! كما واعتقد ، أن الرجل كان يتمنّى في محنته السايكلوجية ، لو توقفت الست واحتفظت بموهبتها في أعماقها أيضا منذ سنوات على رحيله ؟ أو بالأحرى ، أنها رحلت في أعماقها بعد رحيله هو نفسه في أعماقه .. ولكن ليس في اليد حيلة ، ما دام الأمر يتوقّف على رزقه الذي يقوم بسد متطلبات حياته وأسرته !
إن الفرق المدهش بين هذا الرجل وهذه المرأة إنهما يختلفان في تفكيرهما حقا ! لقد كان يريد لنفسه من خلال موهبته أن تسمو متجلية في الأعالي ، فيسبح من يسمع موسيقاه في عالم ملكوتي صعب غير موجود .. في حين أرادت الست لنفسها أن تنزل من عليائها التي كانت عليها في الأربعينيات ، لتسيطر على عالم سهل موجود ، فعلا كالذي توّفر عندها ببساطة وبين يديها في عقدي الخمسينيات والستينيات ! لقد أراد القصبجي أن يبقي مجده معلّقا في السماء .. في حين أرادت أم كلثوم ، أن تبقي مجدها على الأرض ، فتسيطر على الأخضر واليابس ! ومن خلال عقد مقارنة بين الست وخمسة من أعظم الملحنين لها ، اكتشفت منذ زمن طويل ، إن الشيخ زكريا أحمد جعلها تنطلق مغردة على هواها كما في رائعته ” الاولّى في الغرام .. ” .. في حين جعلها القصبجي تطرب سارحة في حديقة غّناء وهي تقطف زهورها .. أما السنباطي ، فلقد خلق لها مسرحا معينا لا تخرج منه في تلك الحديقة الغناء .. وإذا كان بليغ قد ضّيق حجم المسرح عليها كثيرا ، فان عبد الوهاب قد جعلها ، تغّرد في قفص لم تستطع الخروج منه حتى رحيلها !

وأخيرا : من سبق الاخر ؟
لا اعتقد بأن ” القصبجي الموسيقار قد سبق عصره ” ـ كما ذكر ذلك فكتور سحاب نقلا عن توصيف الست للرجل ـ ، بل اعتقد إنه كان ضحية تاريخ جديد ، فالعصر هو الذي سبقه ، ولم يكن هو الذي سبق عصره .. فلقد كان محمد القصبجي ابنا حقيقيا لعصر العظمة الفنية الراقية والثقافية المصرية خصوصا والعربية عموما .. وكنت أتمنى لو طال المطال به ، وبذلك الزمن الجميل ، لكّنا اليوم في عالم آخر من الخلق والإبداع والأمجاد ، ولأخذتنا الحياة المتخيّلة إلى عالم كبير من جمال العظماء ورقي الحياة .. وليعذرني أصحاب النصف الثاني من القرن العشرين ، إن قلت لهم ، بأنه زمنهم كان متدنيا جدا مقارنة بما كان عليه الإبداع الموسيقي والطرب المصري في النصف الأول منه ! وبعد هذا وذاك ، هل عرفنا حقا سر صمت القصبجي .. الفنان والإنسان ؟ دعوني أحيّي ذكراه الطيبة بحرارة شديدة .

نشرت في مجلة روز اليوسف المصرية ، 25 مايو 2009 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com

شاهد أيضاً

فقرات من كلمة الدكتور سيار الجميل في حفل تكريم صديقه الفنان حمودي الحارثي في كندا الحفل اقامه اتحاد الفنانين التشكيليين العراقيين الكنديين يوم 29 /5 / 2011 على قاعة اسيمبلي هول في مدينة تورنتو

ايها الاصدقاء الاعزاء اسعدتم مساء شكرا جزيلا لاتحاد الفنانين العراقيين الكنديين استضافته لي هذه الامسية …