الرئيسية / النقد السياسي والتاريخي / وثيقة الإسكندرية الإصلاحيةاختفت مع سبق الإصرار والترصد

وثيقة الإسكندرية الإصلاحيةاختفت مع سبق الإصرار والترصد

قبل خمس سنوات بالضبط ، نشرتُ مقالة مطولة لي 14-16 ابريل 2004 عقب إصدار وثيقة الإسكندرية الإصلاحية ، وكانت بعنوان : ( وثيقة الإسكندرية من اجل الإصلاح : هل تكون بداية تاريخ جديد للعرب ، أم سيطويها النسيان ؟ ) واليوم ، بعد مرور خمس سنوات لم نتقدم خطوة واحدة إلى الإمام أبدا ، بل يمكن القول بحالات تراجع مخيفة ! إن خمس سنوات في حياة أمم أخرى لها شأنها وخططها وحساباتها ، وليس كمن يضع العصي دوما في العجلة . والحق يقال ، إن وثيقة الإسكندرية ، وهي نص البيان الختامي لمؤتمر تأسيسي موّسع ، انعقد في بهو مكتبة الإسكندرية 12- 14 مارس 2004 ، تعد واحدة من أهم المشروعات التي أنجزها الفكر العربي المعاصر عند مطلع القرن الواحد والعشرين ، بل تكاد تكون المأثرة النخبوية الوحيدة بين الأفكار المطروحة منذ خمس سنوات .
لقد جمعت عناصرها في أربع من الركائز المهمة : السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية . لقد كانت ” الأفكار ” قد تبلورت اثر اجتماعات جادة لنخبة عربية مفكّرة ، وجدت أن من الحكمة الشروع بتقديم ” مشروع ” عربي داخلي بديلا عن أي مشروع أجنبي خارجي . لقد قلت عنه وقت ذاك ما نصّه : ” واعتقد انه المؤتمر الأول الذي بدا العرب عقلاء فيه بعيدا عن الشعارات والمخاطبات الإنشائية ، إذ تميز بنوعيته عالية المستوى ، بمشاركة 170 مفكرا ومثقفا عربيا ظهروا وهم يمثلون ألوان الطيف السياسي والفكري والإيديولوجي ، وينحو معظمهم نحو الاستقلالية عن السياسات الحكومية … وسكت في أروقته أولئك الذين يزايدون ولا يتفكرون ، ويتوهمون ولا يتحققون .. وأجد أن العرب ينجحون إذا ما توفّرت عندهم عللا وتحديات أساسية فضلا عن مناخ ملائم وأرضية مشتركة ، خصوصا ، وان هذه النخبة التي تمثل صفوة المجتمعات العربية المعاصرة ‚ إن جاز التعبير‚ وكانت قادرة على البحث عن إجابة واضحة للأسئلة الصعبة التي طرحتها عليهم المشاريع الغربية ” .
سوف لن أعيد ما تضمنته الوثيقة ، وما اقترحته من مشروع طريق نحو المستقبل ، ولكنني سأعيد إنتاج تساؤلاتي : هل سيطويها النسيان ؟ وهل فات قطار الإصلاح والتغيير ؟ وأيضا : ما الأسباب الحقيقية وراء قتل أي مشروع لاستعادة النهضة من جديد ؟

مشروع تغيير : لا ورقة إصلاح ولا مبادرة زعيم !
من يقرأ الوثيقة ، سيجد نفسه أمام مشروع للتغيير لا ورقة للإصلاح ، والفرق بين المعنيين كبير ، فالأول لا يريده من له مصالح في إبقاء القديم على قدمه ، فيتشدق بالإصلاح ، أما التغيير ، فمرفوض بحجة مبادرات زعمائنا الوهمية من اجل الإصلاح ! إن الوثيقة ـ كما أراها ـ لم ترض أصحاب الشعارات والعواطف والتهريج الذين لا يريدون التغيير الحقيقي كي لا تنكشف عوراتهم وأكاذيبهم وشعاراتهم الواهية ! والوثيقة : حصيلة آراء لنخبة من أكفأ المفكرين العرب ، فهي إذن ليست مبادرة سياسية لزعيم حاكم ، أو حزب سياسي ، أو جماعة دينية ، أو أجندة دولة إقليمية ! وكم كنت أتمنى أن تسمّى بمشروع تغيير لا بخطة مؤتمر .
إن مجرد تأكيدها على الإصلاحات الديمقراطية الشاملة ، وحتمية إجرائها الآن ، قبل الغد ، وبأيدي العرب أنفسهم لا بأيدي الآخرين ، يعد انتصارا للنخبة المفكرة بعيدا عن قمم زعماء ، أو تهريج دهماء . وعليه ، ومن خلال متابعتي لردود الفعل السياسية والإعلامية ، لم يحظ مشروع الإسكندرية ، بأي اهتمام ، مقارنة لما تلقاه أحداث ومواقف ومبادرات تافهة على الساحة ويا للأسف الشديد .. ويبدو أن مجتمعاتنا قد غرقت حتى أذنيها بالتخلف وبلادة التفكير عندما يقال بأنه مؤتمر يجمع الليبراليين العرب ولا صوت فيه للقوميين والراديكاليين .. علما بأن معظم ما تضمنته وثيقة الإسكندرية قد مثلته الحكمة الحسنة في معالجة الاوضاع العربية السيئة التي طالما تنادى بها العقلاء ، وبالإصلاحات من دون أي استجابة .. ولكن عندما طالبت أمريكا بالإصلاحات ولم يستجب العرب ، بادرت إلى تقديم مشروع الشرق الأوسط الكبير ، فوجد العرب أنهم أمام مأزق حقيقي لا يمكن اختراقه إلا من خلال تقديم معالجات داخلية ..
وعليه ، فان مؤتمر الإسكندرية يأتي تلبية لحاجات ماسة تتطلبها هذه المرحلة الصعبة . المشكلة ـ كما قلت ـ تكمن في عدم تفعيل ما صدر في ردهات مكتبة الإسكندرية بعد أن أهملها العرب لأنها لا تدغدغ عواطفهم ، ولا تطلق خيالهم ، ولا ترضي إيديولوجياتهم ، ولا تفرح رجالات السلطة عندهم .. بل تدعو إلى تغيير أوضاع عدة نحو الأفضل . لقد كانت جامعة الدول العربية قد قدّمت هي الأخرى وثيقة لإصلاح البيت العربي ولكن شتّان بين الوثيقتين فوثيقة الإسكندرية تمثّلها الحكمة والمنطق ، وترى في تغيير الواقع أمرا ملزما، في حين تضمنت وثيقة الجامعة مقترحات غير عملية أبدا ولا يمكن تطبيقها أبدا ، كونها تستمدها من واقع متهرئ لا تقف ضده .


عوامل الاخفاق
ثمة انقسام حاد بين أبناء النخب الفكرية والسياسية ، ذلك أن الاتجاهات الفكرية غير متفقة على قواسم مشتركة ، كما يجري في أمم وثقافات أخرى . إننا العرب نعيش وكأننا لم نزل نعيش مرحلة الحرب الباردة التي انتهت منذ زمن طويل .. لم يزل الراديكاليون يتحدثون باسم الثورة والاشتراكية .. ولم يزل القوميون يتعصبون لأحلامهم ! ولم يزل الإسلاميون يتعصبون لأصوليتهم ، وهم يجدون في الليبراليين أعدى أعدائهم فهم من العلمانيين الكافرين ( كذا) ! أما التحزبات الأخرى ، فهي أيضا لا تفقه الا الشعارات ! ثمة عامل خطير آخر ، يمثّله موقف الرأي العام الذي يعد اليوم مخالفا لأية إجراءات مدنية مستنيرة ، بل ويعتقد أن القانون المدني والإصلاحات الديمقراطية والفصل بين السلطات .. ما هي إلا وصفات غربية استعمارية !! إذن ثمة عوامل يعيش على تناقضاتها الزعماء العرب الذين يجدون في أي مشروع حقيقي للتغيير ، تهديد مباشر لمصالحهم في السلطة .. وعليه، فان خمس سنوات مرّت على ” مشروع الإسكندرية ” .. وستتلوها عشرات سنين أخرى من دون أن نجد أي طريق يخلصنا من واقع تعيس جدا يساهم في إبقائه الجميع ! ولا ادري إن كانت السلطات العربية قد تشدقت سابقا بالإصلاح خشية من المطرقة الأمريكية، فلماذا لم نجد تطبيق أي خطوة إصلاحية حتى يومنا هذا ؟
ثمة عامل أخر للإخفاق تبلور بشكل خطير في السنوات الخمس الاخيرة ، ممثلا بالمد الإيراني الإيديولوجي اقليميا ، واعتباره بديلا للتغيير ، ويجد فيه البعض ، خلاصا من المشروع الإسرائيلي صاحب الشرق الأوسط الجديد ، أو المشروع الأمريكي صاحب الشرق الأوسط الكبير! لقد دخلت إيران على الخط في السنوات الخمس الأخيرة كمشروع بديل يقف حائلا والتغيير الحقيقي نحو التقدم. ومن المؤسف ، أن ثمة من يقف مصفقا للمشروع الإيراني الذي لا يدرك مخاطره الكبيرة ، فهو كما يقول اقرب المقربين إليه : مشروع اسلاموي بهوية إيرانية تلغي ولا تعترف بغيرها ! إن من أسوأ ما نجده اليوم ، هزال في الاستجابة العربية للتحديات الإقليمية والدولية كلها ..

الاستحقاقات المستقبلية
لا سبيل إمامنا إلا الإصلاح والتغيير كاستحقاق حياة ومستقبل ، بديلا عن أية مبادرات سلطوية ، أو شعارات حزبية ، أو انقسامات دينية . لقد غدت تلك ” الاستحقاقات ” بمثابة مطالب عربية أساسية واسعة النطاق في مواجهة حالات الاحتقان التي تخنق الجميع ! وانطلاقا من هنا ، فأن السؤال المطروح دوما بصعوبة متناهية : هل تستجيب النظم العربية المأزومة والتي كانت محاصرة بالضغوط الدولية والإقليمية ، للمطالب ليس الشعبية ، بل النخبوية الواردة في وثيقة تاريخية كالتي صدرت بالإسكندرية .. ؟؟ أم أنها ستعاند وتكابر إلى أن تصيبنا الفواجع والهزائم والمصائب .. تدق الرؤوس دقا لا يرحم ولا تُبقي على رأس كبير أو صغير إلا وسحقته ، إنني اسأل أولئك الكتبة العرب الذين وصفوا ” الوثيقة ” بـ ” المعلبة ” .. ألم تكن أولى من حالة التداعي ، لو بدأ العمل بتفعيل بعض بنودها التي تخص إدانة الإرهاب ، وإنهاء التعصب الديني ، وتجسيد قيم التسامح والتفاعل بين الناس ، مع إصلاحات دستورية وتشريعات حديثة تخص الاقتصادات الوطنية ، وتنمية التفكير الاجتماعي ، وتطوير الحالات الثقافية .

نشرت في مجلة روز اليوسف المصرية ، 2 مايو 2009
ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com

شاهد أيضاً

على المشرحة.. لا مواربة سياسيّة في الحوار العلمي (الحلقتان الثالثة والرابعة)

ثالثا : الاحرار العرب : مستنيرون لا خونة ! 1/ اخطاء تاريخية وتحريف للتاريخ ويستكمل …