الرئيسية / النقد السياسي والتاريخي / بنية المجتمع العراقي.. الأسر العراقية: خصوصيات المدن

بنية المجتمع العراقي.. الأسر العراقية: خصوصيات المدن


المعنى والتفسير
من خلال دراستي لتاريخ المجتمع العراقي على امتداد خمسة قرون ، ومعالجة جملة كبيرة من المعلومات ، استطعت أن احدد خصوصيات هذا ” الموضوع ” في التاريخ الاجتماعي ، وهو ” الموضوع ” الذي قد نجد شبيها له في مجتمع بلاد الشام إلى حد ما ، إذ أن ثمة مقاربات اجتماعية بين المجتمعين العراقي والشامي ، ولكن يبقى المجتمع العراقي قد اعتمد في ثقله على مواريث مهمة للعائلات المتنوعة ، ومتعددة المصالح والنفوذ ، وسواء كان لها نفوذها السياسي ، أو التجاري ، أو الأدبي ، أو الديني بشكل خاص ، فهي التي كانت تقود المجتمع العراقي عبر التاريخ ، بسيطرتها على حياة المراكز الحيوية في المدن الكبيرة . نعم ، لقد وجدت من خلال المعلومات الاسرية والوثائقية ، كم تمتعت العوائل والأسر العراقية في المدن والبلدات بخصوصياتها التي تعتمدها سلسلة المواريث أبا عن جد ، وبالأخص الأسر المعروفة التي اهتمت بتواريخها الخاصة .. وهي خصوصيات انحدرت أعرافها وتقاليدها منذ العهود العباسية في العراق .. وكلنا يدرك تاريخيا ، ذلك التقسيم الاجتماعي في العراق بين ما اسمي بـ ” الخاصة ” و ” العامة ” ، فالخاصة ( او : الخواص ) هم الاسر والعوائل المعروفة التي تميزها عن العامة ، رموزها ومواريثها فضلا عن مصالحها ونفوذها ..
إننا نجد أوسع المعلومات عن هذا ” الموضوع ” إبان العهود العثمانية ، إذ أن اغلبها يجد جذره ضمن هذه ” التواريخ الحديثة ” . ولقد أفادتني جدا جملة من المخطوطات والكتب والفرامين والأوراق الخاصة وأشجار العوائل والأسر القديمة التي لم تزل بقاياها حية ترزق حتى يومنا هذا .. فثمة استمرارية لبعضها ، وهناك انقطاع ونهاية لبعضها الآخر . ثمة عوائل عراقية عريقة تعود تواريخ نشأتها في العراق الى بدايات القرن السادس عشر ، وأخرى إلى تضاعيف القرن السابع عشر .. وتزداد قوة بعض الاسر التي يعود توطنها الى القرن الثامن عشر .. وبطبيعة الحال ، فان اغلب الاسر والعوائل العراقية تحاول ان تجد لها جذورا قديمة عربية وغير عربية ، ولكن تبقى هناك ثمة عقدة سايكلوجية لدى جميع العراقيين ، تتمثّل بالتأصيل ، بمعنى أن النسب والأصل هو الأساس الذي يمكنها أن تعّول عليها في أن تغرس لها مكانة متميزة في المجتمع العراقي .

التاريخ العراقي يتغير بعد 1958
إن للعائلة أو الأسرة العراقية ، قيمتها المعلنة في المجتمع إن كان لها أي نوع من النفوذ الاجتماعي والمصالح السياسية والاقتصادية حتى العام 1958 ، وبعدها تراخت تلك الأهمية ، بفعل التغيرات الجذرية السياسية والاجتماعية التي طرأت على كل العراق ، وخصوصا في المدن الكبيرة التي تبدلت فيها الحياة ، بتغيير عناصر النفوذ وسيطرة أصحاب مصالح جدد .. ناهيكم عن زحف القوى الشعبية التي خلطت بين أبناء المدن وأبناء الريف ، وخصوصا ، دور الحزب الشيوعي العراقي ونضالاته ضد الطبقية والملاكين والإقطاع ، ومن ابرز خصومه ، تلك العائلات القديمة المتنفذة التي تسيطر على المصالح العراقية سياسيا واقتصاديا واجتماعيا .. وهكذا ، فان الهدف قد تحقق بعد ثورة 1958 بإنهاء علاقة تلك الأسر والعائلات بمصالح العراق الحيوية .. نعم ، كانت الأسر والعوائل المتنفذة واحدة من الأهداف التي حققتها تلك ” الثورة ” ، فسحقتها ، وبقيت أسماء مجردة من مكانتها في الأعم الأغلب .
إن التناقضات التي عاشها المجتمع العراقي بعد تشكيل الدولة العراقية عام 1921 ، قد زادت بتفاقم الوعي ليس بالحقائق المزيفة ، بل بترجمة الصراع الاجتماعي إلى تخندقات حزبية ، ثم إلى صراعات سياسية ، وخصوصا بعد أن افتتحت العاصمة والمدن أبوابها لكل العراقيين لأغراض الدراسة ، أو التوظف ، أو الجيش .. الخ إنني اعتقد أن 14 تموز / يوليو 1958 هي ترجمة حقيقية لصراع خفي بين القوى الاجتماعية العراقية الثلاث ، وقد اشتغلت التناقضات على نار هادئة ليتفجّر الوضع بكل نتائجه المريرة .. ويبدأ تاريخ جديد لا علاقة له بما مضى إلا باستخدام المعاني والرموز المتبقية تاريخيا . لقد انتهى زمن العوائل والأسر في المدن المؤتلف مع العشائر في الريف سياسيا ، ليبدأ زمن العشائر والريف الذي احتقر زمن العوائل والأسر .. وأصبحت المدن في قبضة الزاحفين من كل حدب وصوب .. ولم يقف الأمر على ما جرى سياسيا ، بل تأثر المجتمع المديني نفسه بالصميم سواء في اللهجات المدينية المستخدمة ، وفي الفولكلور ، وفي الفنون والأغاني والموسيقى .

الاتساع والضمور
وكانت تتفاوت قيمة الأسر العراقية المعروفة تاريخيا من عهد إلى آخر ، بحكم علاقاتها بأي نوع من السلطة ، سياسية كانت أم اجتماعية ، وبفعل ما تمتلكه كل أسرة من مكانة ، سواء كانت دينية ، أو تجارية ، أو سياسية ، أو إدارية ، أو علمية وأدبية .. هكذا ، سنجد تلك الأسر والعوائل مرتبطة أساسا بالمدن ، أو البلدات والقصبات القريبة من المدن . ويجد الباحث من خلال أي بحث مقارن ، أن هناك عشائر استقرت في المدن ، وغدت عوائل وأسرا كبيرة لها بيوتاتها المتعددة ، أو أقسامها المتنوعة وتجتمع كلها لآباء متعددين تحت اسم جد أعلى واحد كالبياتلية ، أو الشاوية ، أو السعدون وغيرهم .. أو تجدها عوائل واسر صغرى تتوارث الاسم أبا عن جد . ولابد أن اذكر ، بان عوائل وأسرا عراقية كان لها نفوذها وغناها ومصالحها الكبيرة .. اضمحلت يوما بعد آخر ، ولم يبق من ورثتها أحدا في يومنا هذا ..
من جانب آخر ، فان الفرز ظاهر للعيان للأسر والعوائل العراقية بين مسلمين ومسيحيين ويهود ، وثمة فرز للملل المسلمة والملل المسيحية عن الملة اليهودية .. وثمة تباين واضح ـ كما وجدنا ـ في الأزياء المستخدمة بين عوائل هذه المدينة عن تلك ! وهكذا ، بالنسبة لمختلف الفولكلوريات والعادات والتقاليد والأعراف والطقوس والأمثال .. ناهيكم عن تباين الانتماءات الأسرية نسبة إلى المكان (= المدينة ) أولا ، والعرق ثانيا ، مقارنة بالعشائر العراقية التي كانت ترتبط أساسا بالريف لا المدن ، أو مقارنة بالقبائل الكبرى التي كانت ترتبط سابقا بالبادية والرعي .. ولقد خفّ ارتباطها بالأرض اثر النزوح والاستقرار حول أطراف العاصمة أولا والمدن ثانيا .. فكان أن ولدت تناقضات هائلة في المجتمع العراقي بدت تلقي بكل نتائجها الصعبة منذ خمسين سنة وحتى اليوم ، وستبقى هكذا لزمن طويل قادم !

المدن العراقية وحركة التوطن بين الجذب والطرد
خلال خمسة قرون من تاريخ العراق الحديث 1514- 1914 م ، شهد المجتمع متغيرات واسعة في حركة الانتقال سواء على مستوى الجذب أو الطرد ، وبدا لي من خلال متابعتي لأخبار التوطن السكاني في العراق العثماني ، أن مستوى الجذب للعراق أقوى بكثير من مستوى الطرد .. وكثيرا ما يتم الفصل والعزل من قبل المستقرين الجدد في المدن خصوصا ، على حساب المواطنين القدماء وكانت الأسباب متنوعة في مسألة الجذب السكاني في المدن لا الأرياف ، منها : مركزية العراق الحضارية والدينية والاقتصادية ، فهو مهوى زيارة الملايين من المسلمين للعتبات والديار والأماكن المقدسة ، وهو محطة للقوافل التجارية في العالم ، وهو ملتقى الأسواق كلها في عموم الشرق الأوسط ، وهو موطن العلم والأدب ومحج الناس للدراسة والمعرفة ، وهو محط من يتبقى من الحروب والغزوات .. وهو فوق كل هذا وذاك الأرض الخصبة وثروة المياه العذبة .. انه يستقطب الناس من كل حدب وصوب من خلال أهم مدنه الحيوية : بغداد والبصرة والموصل وكربلاء والنجف وسامراء وكركوك واربيل والحلة والرمادي والناصرية والكوت والديوانية والعمارة والسليمانية .
وفي المدن العراقية ، ثمة استقطابات واسعة النطاق لأسر عراقية مرموقة قدمت من الحجاز ، أو نجد أو إيران ، أو الشام ، أو لبنان ، أو تركيا وأذربيجان .. الخ وثمة نازحين نحو المدن من كيلان ، وأرمينيا ، وكردستان ، ولورستان ، وعربستان ، والبحرين ، وهمدان ، وكرمان ، ونجد ، وحائل ، وجبل شمر ، والفرات الأعلى ، والدير ، وجزيرة ابن عمر ، وديار بكر .. وغيرها وبالرغم من أنني اعتبر هذا الانجذاب نحو المدن هو تحرك على الأرض العراقية نفسها ، كون العراق التاريخي هو كل ما بين النهرين وملحقاته ، ولكن اعتبر هذا النزوح ، بمثابة هجمات طارئة على المجتمع العراقي نفسه .. خصوصا وان اغلب النازحين لم يحوزوا على أوراق رسمية تثبت انتماءهم ، فكان أن حدثت مشكلات لا حصر لها على امتداد القرن العشرين أساسها موضوع الانتماء بهذا الشكل أو ذاك . ولقد مورست اضطهادات بحق اغلب النازحين ، أو حتى ضد ذريتهم .. ومن الأمور الملفتة للنظر إن العراقيين عاملوا الأرمن مثلا عند وصولهم نازحين إلى العراق بمنتهى الدماثة وإغاثة الملهوف قبل تأسيس الدولة عام 1921 ، ولكنهم لم يعاملوا الكويان النازحين من تركيا إلى الموصل ، والفويلية النازحين من لورستان إلى بغداد إلا معاملة سيئة !! كما عوملت جماعات التيارية ( من جيش الليفي ) بمنتهى اللياقة عندما أسكنهم الانكليز بمنطقة الدواسة في الموصل ، ولكن التيارية سرعان ما بدأوا يطالبون بانفصال سياسي وكيان قومي عن العراق ! اما ما حدث ببغداد ايام الفرهود ضد اليهود العراقيين ، فهو أمر يثير الحزن .. وبعد اكثر من نصف قرن ، يقول نعيم جلعادي ، اليهودي العراقي العجوز الذي رفض مواطنته الاسرائيلية مؤخرا : ” إن ما من شخص ولد في العراق السابق سيتمكّن يوماً من نسيان العراق. أبداً. هو روحي، وحياتي، وأعمق ما في قلبي. العراق أقرب إليّ من أمي وأبي ” ( انتهى قوله ) . أما كربلاء ، فكانت ولم تزل ، تعج بالنازحين من إيران ، ويتوطن منهم فيها .. لقد وجدنا ، كم كانت هناك في العراق من اسر نازحة بقيت على تسميات مواطنها الأصلية أو غير الأصلية ، ويكفي أن نسمع بـ : السنوي ، والاورفلي ، والزهاوي ، والكيلاني ، والخوئي ، والشيرازي ، والبحراني ، والحويزي ، والنجدي ، والجزراوي ، والديري .. الخ

الرؤية العراقية : تفاقم التناقضات الاجتماعية
تربى العراقيون منذ القدم ، وخصوصا في مدنهم القديمة والجديدة على احترام العوائل والأسر المتنفذة ، وإعلاء مكانتها في المجتمع .. وكانوا وما زالت بقاياهم تنظر إلى أن احد ابرز أعمدة المجتمع العراقي تتمثلها العائلة أو الأسرة ، وكثيرا ما يقرن المعروف بـ ” ابن عائلة ” ، وربما يكون المفهوم خاطئا ، لأن ليس كل أبناء العوائل يعّول عليهم .. وثمة رؤية محددة في اللاوعي الجمعي بكل مدينة إلى طبيعة كل أسرة أو عائلة وانتمائها وتصنيفها في المجتمع ، ربما ليس على أساس ديني ، ولكن على ركيزة اجتماعية يستوجب على الجميع استيعابها .. وكان أهل الخارج ـ كما كانوا يسمون ـ ( ويقصد بهم أبناء الريف والبادية ) ينظرون بعين الريبة إلى أبناء المدن ، أي بمعنى آخر إلى أبناء الأسر والعوائل ، فهم لا علاقة لهم البتة بالمدن اجتماعيا كونهم أبناء عشائر أو بدو مستقرين .. وكان الصراع الاجتماعي واضحا إلى حد كبير ، وخصوصا ، في المناطق الزراعية بين الأسر المدينية والعشائر الريفية ، وتزداد العلاقة تباعدا بين المدينة والمناطق الرعوية وما يسكنها من بدو ورعيان. إن طبيعة العلاقات المتنافرة لم تكن إنتاج صراع طبقي بين أبناء المثلث الاجتماعي العراقي : المدينة ـ الريف ـ البادية ، بل كان نتاج تباين اجتماعي وجغرافي واضح ، ذلك انه حتى العامة من أبناء مدن العراق لا يمكنها أن تلتقي مع أبناء ريف العراق ، إلا بعد أن أزيلت العوائق والحواجز التي كانت تقف حائلا بين الاثنين . والمسألة هنا ، ليست عراقية بحتة حتى ندينها ، إذ وجدتها في اغلب المجتمعات الأخرى ، وحتى الأوربية ، ولكنها في العراق ، تأخذ أبعادا جدا صعبة .. وتتفاقم التباينات إلى أنواع من الصراع الاجتماعي المستتر .

التصانيف في اطار الوحدة الاجتماعية
لا يمكن أبدا لأي مؤرخ جاد للمجتمع العراقي أن ينكر ظاهرة التنوع التي حظيت بها الأسر المحلية في العراق بأكمله . إن عوائل ( السادة ) و ( النقباء الأشراف ) لها صدارتها في المجتمعات المحلية ، بحكم النزعة التي تقول بـ ” بمرجعية انتماء هؤلاء إلى الإمامين الحسن والحسين ، ويمنح الفرد من خلاله عمله / صفة ( السيد ، وجمعه : السادة ) وهو وريث آل البيت ، وهو نسق على اعلى درجات الاحترام في المجتمع العراقي .. وهناك عوائل ( التجار الكبار ) الذين يمنح لهم دوما لقب أو صفة ( جلبي ، وجمعه : جلبية ) ، وهو الذي يعتبر صاحب مصالح تجارية كبرى ، ويتوارث هذا ” اللقب ” . أما ورثة الحكام والوزراء والولاة ، فكانوا يتداولون مصطلح ( البيك ، وجمعه : بيكات ) و ( الباشا ، وجمعه : باشوات ) ويعّدون اغلبهم من الملاكين للأرض متوارثين هذين اللقبين ، إلى جانب ( الأغوات : جمع آغا ) أي أبناء وأحفاد من كانت بيده أية تشكيلة عسكرية قديمة ( ويقف الأغا عند الاكراد على رأس تشكيلة عشائرية ) . أما طبقة العلما والادبا ، ففي العراق بقي مصطلح ( أفندي ، وجمعها : أفندية ) عنوانا للمثقفين ، ويندمج معهم كل من الموظفين الإداريين والمعلمين والقضاة والكّتاب ، وان بعض الموظفين الأجانب كثيرا ما يهوى العراق ، فيستقر في هذه المدينة أو تلك ، وبعضهم يتزوج من عراقيات ، فيضطر للمكوث معها على ترابها ، ذلك ان المرأة العراقية كانت من النادر ما تبرح أرضها نحو مجتمعات أخرى . لقد استطعت من خلال دراستي لتاريخ الوحدات الاجتماعية العراقية ، أن أميز بين خمس طبقات اجتماعية في اكبر المدن ، هي : 1) الملاكون للأرض والضياع ، وهم الأغنياء من بقايا زعماء عسكريين . 2) التجار الكبار الجلبية ويتبعهم تجار صغار ومغازجية . 3) العلما والادبا الأفندية ومعهم الفقهاء وعلماء الدين الكبار . 4) طبقة الأصناف من المهنيين والحرفيين . 5) الفقراء والمسحوقون من صنّاع وعتالين وملالي وكسبة وخدم وعبيد ..
إن ترجمة هذا ” التصنيف ” على الأرض ، سيجعلنا أمام طبقية واضحة باشتراك كل التصانيف في مدينة واحدة . أما العوائل الدينية ، فالشيخ والسيد والملا .. ثلاثة تعابير كان لها فاعليتها في المجتمع بكل من ملتّي السنة والشيعة ، وتكاد تكون هي الألقاب الثلاثة التي لم نزل نسمعها حتى يومنا هذا .. في حين مات استخدام بقية الألقاب الأخرى التي تمتعت بها اسر عراقية . أما عموم أصحاب المهن ، فهي ثمة تشكيلات اجتماعية غاية في التنظيم ، وهي مجموعة أعراف متوارثة منذ القدم ، وان (الاسطا) ، فهو يقف على رأس جماعته في تلك المهنة ويعاونه خلفته ويلاحقه الصناع ، وتجتمع كل الاسطوات ، لتجد من بينها كبيرا يمثلها في المدينة أمام المجتمع .. وقد اكتشفت بأن هذه ” الأعراف ” قد وصلت إلى أوج تطورها إبان القرن الثامن عشر ، كأصناف وتشكيلات أشبه بمؤسسات نقابية ، فكان هناك البناؤون والكوارون والسراجون والسقاؤون والخبازون والخياطون .. الخ وقد كانت مدينة الموصل أقوى مدينة عرفت اجتماعيا واقتصاديا بالمهن وأصحابها . وعليه ، فمن يراجع تاريخ تسميات الأسر المرتبطة بالمهن سيجد أكثرها في الموصل مقارنة بغيرها . إنها الطبقة العاملة التي لم أجد أي صراع بينها وبين الطبقات الأخرى في المجتمع .. فالصراع كان بين أهل دواخل وأهل خارج !

معلومات تثير الملاحظة والتساؤلات
ثمة معلومات وحقائق تثير التساؤلات التاريخية حول هذا النسق ( = الأسري العائلي ) من بنية المجتمع العراقي :
1. ان العائلات الكبيرة في المدن الكبيرة لها مصاهراتها في ما بينها ، ولا تسمح لأحد من اختراق أنساقها من اجل الحفاظ على مصالحها .. واستمرت هذه ” الحالة ” حتى نهاية العهد الملكي في العراق . أما العائلات القديمة التي كانت حاكمة ومتنفذة منذ القرن الثامن عشر ، فلقد بقيت تتصاهر في ما بينها ، ولا تسمح حتى لغيرها من العائلات الكبيرة الأخرى أن تناسبها .
2. إن عددا من أبناء الأسر القديمة والمعروفة قد تمّرد على أعراف ذلك النسق المتوارث ، فكان أن انتمى إلى أحزاب راديكالية ترفض القيم المتوارثة لتلك الأسر والعوائل ، فأصبح شيوعيا أو بعثيا ، أو حركيا ، أو ناصريا ، أو انقلابيا اشتراكيا على طريقته الخاصة .. أيمانا منه بتخلف هذا النسق من التفكير الذي كان دائما ما يوصف بالرجعية .
3. مع تقادم السنين ، كبرت وتضخمت بعض الأسر والعوائل المتنفذة بحيث أنها قد انقسمت على نفسها لأكثر من مرة ، فأصبحت تتكون من ثلاثة أو أربعة فروع .. احتفظ احدها بالامتيازات والنفوذ ، واحتفظ الآخر بدور أدبي واجتماعي .. وانسحق الآخر فقرا .
4. كثيرا ما نجد أن أشخاصا عراقيين يتسمّون بأسماء وهم يلقبون أنفسهم بألقاب عوائل لا يمتوّن إليها بصلة أبدا .. فقط ، من اجل أن يقال أنهم من صلب تلك الأسر والعوائل . وكثيرا ما نجدها تتبرأ منهم كونهم من المتطفلين عليها !
5. تراوحت نسبة التعامل في المجتمع بين الإيجاب والسلب بين الخواص والعوام ، إذ نشهد أن الايجابيات تغلب دوما على السلبيات بين أبناء العوائل (= يطلق عليهم في العراق أولاد الذوات ) وبين أبناء العامة .. ولكن دوما ما ينظر الأعلى إلى الأدنى من فوق ، فيتسبب ذلك في حدوث احراجات للمجتمع .
6. بالرغم من كل حالات التباين والاختلاف الذي يصل الى درجة الصراع الخفي المستتر ، فإننا نجد أن المجتمع العراقي كان على امتداد التاريخ ، مجتمعا منتجا ، وان منتجاته على امتداد التاريخ أكثر من استهلاكياته .. وكان العراق ، عندما يصاب بالجفاف ، يضربه الغلاء ، وتنهكه المجاعات ، وتنتشر عنده الطواعين .
7. كان المجتمع العراقي بثلاثيته المدينية والريفية والبدوية .. مجتمعا منتجا .. لقد أساءت له الدولة أكثر مما أساء إلى نفسه ! وهي التي لم تدرك طبيعة بنيته ولا متغيراتها ، ولم تفقه مجريات أنساقه ولا مؤثرات جغرافيته فيه .. ولقد وجد نفسه صاحب ثروة نفطية هائلة ، فترك مصالحه القديمة ليركض وراء مصالح جديدة لم تحقق له أي نفع يذكر منذ خمسين سنة ! فغدا مستهلكا لم ينتج شيئا كما كان عليه في الأزمان السابقة .
8. تكاد تقل أو تنعدم النعرات الدينية والطائفية لدى الخواص ( أو : الخاصة ) من أبناء الأسر والعوائل العراقية مقارنة بما لدى العامة من الشعب . إن المسيحيين واليهود كثيرا ما ينخرطون في المهن الحيوية التي يحتاجها الناس ، كي يوازنوا بين حياتهم واحتياجات عامة المجتمع .
9. لقد اعتمد العراق في تأسيس الدولة على أبناء المدن في كافة المؤسسات الإدارية والمالية والعسكرية والتعليمية والاقتصادية .. إن أبناء المدن عند بدايات القرن العشرين هم غير أبناء المدن العراقية عند بدايات القرن الواحد والعشرين .. لقد كان احدهم يعرف الاخر ، وابن من يكون .. اليوم ، تعج المدن العراقية بتناقضات مدمّرة ، اذ لا تجد فيها غير المتطفلين الذين دمروا كل المجتمع .
10. لقد تبددت اليوم كل بقايا العوائل والأسر العراقية القديمة .. ولم نقف بين الحين والآخر ، إلا على أسماء لم تمتلك أي مصالح ولا أي نفوذ ، نتيجة الضربات المتلاحقة التي صادفتها . وأنا هنا لا اقصد الخواص فقط ، بل ذابت كل القوى الاجتماعية الفاعلة من المهنيين وأصحاب الحرف العراقية المتميزة .. لقد ضمرت الحياة الاجتماعية العراقية ، ودمّر المجتمع تماما على امتداد خمسين سنة مضت نتيجة الصراعات والانقلابات والتهجير والحروب والدكتاتورية والحصارات والإرهاب والصراعات الطائفية ..


( انتظر الحلقة القادمة من معالجتنا موضوع : التسميات الاجتماعية ومدلولاتها العراقية ) .
كل التوثيقات سيجدها القارئ الكريم في مضامين كتابي : بنية المجتمع العراقي ، الجزء الاول .

تنشر تباعا على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com

شاهد أيضاً

على المشرحة.. لا مواربة سياسيّة في الحوار العلمي (الحلقتان الثالثة والرابعة)

ثالثا : الاحرار العرب : مستنيرون لا خونة ! 1/ اخطاء تاريخية وتحريف للتاريخ ويستكمل …