الرئيسية / ابحاث ودراسات / بدر شاكر السّياب.. حفريات تاريخية في بواكير التكوين

بدر شاكر السّياب.. حفريات تاريخية في بواكير التكوين

هات الردى ، أريد أن أنام
بين قبور أهلي المبعثرة
وراء ليل المقبرة

السيّاب


زورق يندفع ..
حدثتني اوراق قديمة ، أن صبيا ، كان يصنع له زورقا من ورق ، ليدفعه في مجرى نهر يتراءى للناظر انه راكد المياه ، ولكن الصبي يجد ، أن زورقه قد اندفع من خلال تيار يجري في العمق .. كان نهيرا اشبه بجدول ماء يسمونه بنهر ابو فلوس من شط العرب .. كان الصبي النحيل بثوبه المقّلم يزيغ بصره بعيدا حتى يختفي زورقه بين كتل اشجار النخيل الباسقة .. كان الصبي يدرك ، أن زورقه لا يختفي الا عند ساعة الغسق .. كان الصبي يعشق رؤية الشفق .. كان يتأمل في منظر النخيل وهو يحجب عنه قرص الشمس البرتغالي من مكان لآخر .. ولكنه يتنبأ بالظلام الذي سيجثو على كل المقبرة (= العراق ) .

ثورة العصافير عند كل مساء
كان يرسم في ذهنه صورا خيالية تفيض روعة وجمالا عن واقع حقيقي يراه كل يوم ، بل ويذهب خصيصا لاكتشافه ، وهو يلهو بزوارق من ورق .. كان يعود ليحكي كل مساء ” لوحة ” غاية في الجمال .. كان يهوى الصمت في برّ بساتين النخيل ، ولا يعجبه الا اصوات الطيور عند المغيب .. ثم ثورة العصافير الجياشة ، كل يوم ، وهي تبحث لها عن المأوى فوق الاشجار .. كانت موسيقاه لا تبدأ الا عند مغيب الشمس .. كان شط العرب في الافق البعيد تتلاطم امواجه الصاخبة عند الجنوب الشرقي من البصرة ..


جيكور : صورة جديدة
كانت بلدة ابو الخصيب تهجع مع لواحقها وقراها .. ولم يكن احدا يتذكر جيكور حيث يقفز ذلك ” الصبي ” من مكان لآخر .. قريته التي عشقها والتي لا يتجاوز عدد سكانها عن الالف ومائتي نسمة ، والطريق الى جيكور قريب ، ولكنه ملئ بالملتويات .. واذا كانت جيكور عند رأس مثلث متساوي الاضلاع ، فان قريتي بكيع وكوت بازل تقعان عند قاعدة جغرافية ، وطالما تنّقل الصبي في ذلك المحيط لوحده من اجل اكتشاف صورة جديدة لم يألفها وجدانه ليرسمها خاطره .. وهو في مسارب ترابية بين الاشجار ، ولا يلمح من قريب او بعيد الا بيوت طين وسعف نخيل .. ولم يكن يحب الماء راكدا ، ابدا ، بل يعشقه يجري من هنا او هناك .. يركض ومجراه وهو يرقب شيئا ما ، ويصغي بكل جوارحه لخريره !

غابة من نسوة فارعات بشعرهن المتدلي
كان يصف اي شجرة نخل ، بامرأة فارعة ، وقد فرشت شعرها على كتفيها .. يتخيلها واقفة لا تجلس ابدا ، وهي حزينة منذ آلاف السنين .. وكلما انحنت ذات يمين او ذات شمال ، فقد قض الحزن مضجعها .. يكتشفها دائمة البكاء ، وهي تكره الغربان السوداء التي لا تجد امكنتها على رؤوسها أبدا .. فتنكث شعرها ، وتبقى مضطربة لا تعرف ماذا تقول ، ولا تعرف ماذا تقول .. كان يكتشف ان الغربان تكثر يوما بعد آخر وهي تنعق لتمزق الصور الجميلة الهادئة التي كان الصبي يرسمها لوحده في تلك البراري التي كان لوحده يتصورها بعيدة ، ولكنها قريبة جدا من بيته ! كان لا يستأنس من ناس قريته ، أو ناس قرى اخرى ، فيبقى منعزلا عن الاخرين وان وجدوه مع بقية رعيل الصغار ، فانه يبقى لوحده يلفه صمت قاتل بين اشجار النخيل السامقة ..

غربان ونوارس وعصافير
كان ينتظر لوحده وبيده خيزرانة من القصب ، يرسم بها على الارض ، خطوطا بانتظار لحظات الشفق وصورته التي يعشقها عشقا لا متناهيا .. انه يعشق وقت الغسق حتى اوان الغروب .. كان يكره اصوات الغربان ، وهي تشق الصمت بنعيبها ، ولكنها تتبدد بأصوات آلاف العصافير التي تريد ان تأوي الى اعشاشها وقت الغروب ، وهي تجيش بأصواتها حتى تهدأ عند خيوط الليل الاولى .. كان يكره نعيب الغربان في اوقات الشتاء ، ويشمئز من زعيق النوارس اوقات الصيف ، ولكنه يستأنس للعصافير عند الامسيات ، وأغنيات البلابل عندما يشق الفجر نفسه من اقاصي الشرق بكل سحره وجماله .. فالفجر ، أو عندما يطلع الصبح عنده ، هو غير لحظات الغسق . كان يستوقف الصبيان معه ، وهم يلعبون كي يعلمهم بتغيير الالوان عند المغيب ولا يجد له من مستجيب !

سيدة البحر العميق
كان يعشق البصرة بكل فلكورياتها وجمالياتها .. كان يستعين بسوقها كي يلتقي بالناس من كل الاجناس .. كانت البصرة بالنسبة اليه ، سيدة للبحر ، وعمق النهر ومفتاح البر ، ومفصل الأمم ، وسوق الدنيا .. كان يرى في البصرة ، امّا حقيقية لقريته التي لا يمكن لها ان تعيش يوما واحدا من دون البصرة .. البصرة عنده ، ضرورة حياة لا بجمالياتها حسب ، بل لأنها مستودع العيش ، ومحطة للانتقال ، وضفة النهر بكل مياهه المتدفقة .. ورأس البحر العميق .. كانت البصرة بالنسبة اليه هي المجتمع المتلون من كل الأجناس ، وهي الديوان الفخم الذي يستقبل اهله ، وكل الزائرين بكرم غير معهود .. كان يعدها صاحبة السيف والقلم ، ومنها انبثقت تصاريف لغة الضاد العريقة ، وشكّلت مدرستها النحوية ، ركنا أساسيا في حياة الحضارة العربية وحيويتها على امتداد الزمن ..

بيت العميان
بقي الشاعر وهو في طور التكوين الأول ، يعيش هواجس الزمن ، وذاكرة المكان ، فاذا كان الزمن قد اتعبه كثيرا بكل تناقضات الحياة الصعبة ، فان المكان ، ليس جيكور فحسب ، بل منطقة ( بكيع ) كلها ( : بكيع : كلمة فارسية تعني بيت العميان ) والتي تبعد عن ابي الخصيب بما يقارب الكيلوين من الامتار ، مثار الأسئلة الصعبة ، ومنها : لماذا أسموها ببيت العميان ؟ وما حقيقة ذلك ؟ هل ثمة أسطورة عتيقة تختفي في ذاك البيت ؟ .. أما جيكور ، المطلة على شط العرب ، فهي عنده بمثابة أمرأة ساحرة الجمال ، وهي مترعة بالحيوية والتوثّب، وأمامها جزيرة بارعة الجمال اسمها ( الطويلة ) تلك التي كان السياب يقضي فيها الساعات الطوال متأملا شاردا في كل الاتجاهات .. وهو يلتفت ، وقد جلس قبالة الغرب ذات اليمين فيرى المسافات البرية والنهرية الطويلة نحو بغداد ، أو ذات الشمال ، فيرى المسافات البحرية الخليجية نحو العالم .

الجدول الاعمى والسر العجيب
عشق جيكور بكل احاسيسه ومشاعره ، ويقال انه بقي يتردد اليها طوال سنوات عمره القصير على عكس زميله الشاعر سعدي يوسف الذي انجبته ابي الخصيب قرب البصرة ، ولكنه لم تشغل ذاكرته وتعيش معه ابدا .. وجيكور تلك القرية الصغيرة المأخوذة من عبارة فارسية هي ( جوي كور ) ( اي : الجدول الاعمى ) والمقصود به : نهير بويب الذي تغنى به السياب كثيرا .. وهي يتهادى ماؤه في اراض تعود ملكيتها لآل السياب وهو يتفرع من نهر كبير .. آل السياب يملكون بساتين نخيل ، لكنهم ليسوا من كبار الملاكين في جنوب العراق . ويختفي وراء ثلاثة أماكن سر عجيب ببروز ثلاثة من أعظم الشعراء ، فان كانت جيكور قد أنجبت السيّاب ، وإذا كان أبي الخصيب قد أنجب سعدي يوسف .. فان التنومة قد أنجبت احمد مطر !


البلح الاخضر اقوى من قصر الامير
نعود إليه .. إلى أهله الذين عاشوا حياة محترمة في اعراف الحياة العراقية المحلية وقت ذاك ، وكان العائلة كبيرة وكثيرة الابناء ولكن تقّلص عددهم مع توالي السنين ، وتداول الأيام ، وخصوصا ، اثر انتشار وباء الطاعون في العراق عام 1831. وكان الجد الأكبر سّياب بن محمد بن بدران المير ( المير هو الامير مختصرا بالتركية ) قد فقد جميع افراد عائلته ، وابتلي بالحزن الذي دخل حتى عظامه ، وان اسمه من ” سيب وحيدا ” .. وهناك من يقول ، إن معنى السيّاب نوع من البلح او البسر الاخضر.

الاشباح في منزل الاقنان
ان الأب شاكر بن عبد الجبار السّياب ، قد تزوج بابنة عمه ، فرزق منها بكل من بدر وعبد الله ومصطفى ، وكان فخورا بهم متمنيا ان يكبروا ليساعدوه في حياته ، ولكنهم ذهبوا في مسارب اخرى لحياة العراق الجديدة التي تبلورت لما بين الحربين العظميين ، ولم يساعده احدهم .. وقد استلهم بدر صورا رائعة من طفولته وبدايات تكوينه ليضمنها ” منزل الاقنان ” متخيلا ذلك البيت الكبير الذي يزدحم بالعبيد ، وهو يعود للمير الكبير منذ العهد التركي ولم يسمع عنه الا قصص الاشباح التي رسمها في شعره ، وكأنها لوحة تشكيلية خارقة ابدعها بريشة فنان !

ملامح المومس العمياء
او يجد في قريته ( جيكور ) او منطقتها ( بكيع ) ملامح مومس عمياء .. ! أو وهو يمشي في ازقة البصرة وابي الخصيب التي تخيلها ابنة الجلبي ، وهي تتميز بشناشيلها الرائعة ومزججاتها الملونة التي تعكس شمس المغيب ، فتتراءى ألوانها العجيبة .. أو مترجما ما كان يسمعه من اغنيات محلية فولكلورية الى مقاطع شعرية ! ومنذ بواكيره يريد ان يعّرف العالم كله بكل جيكور ، فكان ان نشر صحيفة باسمها تدور على اصدقائه ، وكأنه يترجم رحلة رأي وخبر من الذي كان يسمعه في عقد الثلاثينيات الذي ازدحم بالصحافة والصحافيين .. وعند نهاية النهار ترجع اليه جريدته ( جيكور ) ليعلقها على احد الجدران .

روايات الاعاجيب
كان يهوى الاقاصيص التي يستسلم لسماعها من عجائز بيته ، والتي يختلط فيها المبهم بالصحيح ، ومعظمها حكايات غرست في ذاكرته ، وبقيت تعيش معه كل حياته . ولقد شكّلت تلك ” الاقاصيص ” لديه عالما زاخرا بالاعاجيب ، وانها فتحت لديه المجال لقراءة أساطير وملاحم ، جعلت منه صاحب خيال خصب لا يمكن الاحاطة بكل ابعاده أو مسافاته .. ونكاد نلمس من معظم اشعاره تأثير اغلب الحكايات والخرافات والاساطير التي كان يعالجها تفكيره من خلال تدفق ذكرياته ومؤثراته سواء عن البحر ، أو النهر ، أو الوحش ، أو السندباد ، أو عروس البحر ، أو أشباح الليل ، أو حدائق غنّاء .. الخ

الابتدائية.. الاولوية
لقد كانت ابتدائيته في مدرسة باب سليمان بأبي الخصيب ، ومنها الى المحمودية التي أسسها محمود جلبي العبد الواحد أحد اعيان ابي الخصيب سنة 1910 ابان العهد العثماني ( منح لقب الباشوية بعد ذلك ، وكانت له اسهامات وطنية وخدمية للعراق )، وتخرج السيّاب في اروقتها بتاريخ 1 اكتوبر 1938. ومن سجلاتها ، نسخ محمود العبطة المعلومات التالية ( عن سجل رقم 6 ، صفحة 757) : إن السيّاب دخل المدرسة في 1 أكتوبر/ تشرين الأول 1936 مقبولا في الصف الخامس ، ومنقولا إليها من مدرسة باب سليما ، وهو من قرية جيكور وولادته عام 1925 ، وانه أكمل ابتدائيته فيها وكان قد رسب في الصف السادس عام 1937 . ومن صفاته ابيض اللون ، واسود العينين . صحته جيدة وسيرته جيدة .

يبكي وحيدا عند قبر امه
لقد عاش بدر طفولة غير متجانسة برغم سعادته فيها ، إلا أنها لم تخل من المنغصات ، فقد توفيت امه وعمره لا يتجاوز السبع سنوات .. لقد رحلت عام 1932 اثناء المخاض ، وهي في الثالثة والعشرين من العمر لتترك ابنائها الثلاثة وهم صغارا .. وتلك اول صدمة حطمت قلب بدر حينما اخذ وهو بعد يافعا يركض في كل الاتجاهات ولم يجد امه ، وكان يفقه ما تأويلات والده وعمته ليذهب وحيدا الى قبر امه كي يمتلأ حزنا وكمدا .. يبكي لوحده وهو يناجيها ، ولكنها لم تعد اليه ابدا .. انه يدرك انها ترقد في قبرها عند السفح الذي يراه من قلب القرية .. انه ادرك غيبتها .. فراح يختزن طيفها في ذاكرته الغضة حتى وهو يلعب في البساتين .. او قرب نهر بويب . لقد شكّل غياب أمه في تكوينه شيئا مهما جدا ، إذ بقي طوال حياته يبحث عن حنان مفقود لدى امرأة يعشقها كالطفل .

الحرمان منتج الصدمات
كان يلجأ الى جدته لأبيه ( امينة ) دوما كي تكون مستودع همومه وآلامه ، وابتعد بدر عن ابيه اثر زواج الاب بأمرأة أخرى ، ورحل وإياها إلى دار أخرى بعيدا عن اولاده ، ولكنها دار في بقيع ، وبقي السياب وكل من أخويه في دار الجد بجيكور .. لقد نما شعور سايكلوجي مرير لدى السياب بالحرمان من الامومة والابوة معا منذ طفولته ، وليعشق قربه من جدته ويحتمي بها من قسوة الحياة ، ومن الشعور بالحرمان .. ولم تتوقف الصدمات ، بل تفاقمت ازمات العائلة بوقوعها تحت طائلة الديون ، فبيعت الأرض ، وتبددت الأملاك القديمة لعائلة المير ، ولم يبق منها الا فتات الاشياء مذكرا اياهم بعز الاسلاف !

المزججات الملونة وشناشيل بيت الجلبي
كان يقف ، وهو في طريقه الى مدرستة المحمودية ليستمتع بمناظر البيت الفخم الذي كانت تزينه الشرفات الخشبية التي تعلوها المزججات الملونة ، وقد انعكست عليها اضواء الشمس ، فتكّون الشناشيل اروع صورة في مخيلة ذلك الصبي الذي لا يقف عن التأمل في المعاني والاشياء .. لقد ولدت شناشيل ابنة الجلبي منذ زمن الطفولة .. كان يلمح ابنة الجلبي في تلك الشناشيل او يتخيلها جالسة هناك في الاعالي وهي تقاسم الشمس الاضواء ، وخصوصا بعد زخات مطر مفاجئة .. لم يكن أحد يعرف من تكون ابنة الجلبي ، ولكنني تأكدت بعد بحث عميق من هي تلك ” الابنة ” التي كانت تقف عند تلك الشناشيل الجميلة التي تميزت بها واجهات بيت آل العبد الواحد .

رحيل جدته أمينة
نعم ، بدأ منذ مرحلة مبكرة ينظم الشعر بالعراقية الدارجة ، وهو يصف الطبيعة بأبهى صورها ، او يسخر من بعض زملائه مثيرا الانتباه .. وقع شعره عند مسامع معلميه ، فانتبهوا إليه .. اخذوا يشجعونه على كتابة الشعر بالفصحى .. كان يغيب ، ثم يعود .. مرحلة مراهقة صعبة من حياته ، يهاجر فيها بخياله إلى أماكن يتخيلها وهو يتأمل اسرار المكان الجميل .. كان قوي الارادة بحيث يختزن احزانه ولواعجه في الأعماق ، ولكنه يبدو هاشا باشا ومسرورا بحياته المفعمة بكل جديد ، فهو يعد نفسه ابن عراق جديد أسسه فيصل الأول .. ويبدو انه اكتوى بنار الحب عندما عشق راعية اسمها هاله ، وأحبها ليس إلا تعويضا للحب الذي افتقده .. ولكنه اكتوى بحزن جديد من جديد للانسان التي احبها ، ولمن كانت مستودعه .. لقد ماتت جدته أمينة التي منحته الاهتمام والعطف والمحبة .. ولكنه كان قد صلب عوده عندما رحلت في ايلول/سبتمبر 1942 وهو في السابعة عشرة من العمر . رثاها وهو يذرف الدمع عليها ويئن من شدة الاسى ..

تجربة الانسحاق: مرجل للبركان العراقي
لقد مرت به تجربة الشعور بالظلم ، اذ ترسخت لديه المشاعر ان عائلته قد ظلمتها قوى الملاكين الكبار التي استغلت اهله واملاكهم .. لم يكن واقعيا في فهم الحياة ، بل عالجها برؤى رومانسية ، كشاعر خصب العاطفة وبخيال جامح .. كان يؤمن بالمثاليات فتراه دوما يصطدم بواقعية الاشياء الصعبة وممارساتها بحيث يفتري القوي على الضعيف ، فيكبحه ويسيطر عليه .. كان يشعر انه واسرته قد تعرضوا لظلم كبير .. وان الإحساس بالظلم من أصعب الأشياء التي تسحق الإنسان ، وان الإحساس بالانسحاق يولّد الانفجار .. كان مسحوقا بابويه ومسحوقا باسرته ومسحوقا بشكله الذي كان يؤذيه كلما وجد نفسه امام المرآة .. كان لا يتخلص من تعليقات هذا او ذاك .. لقد تكّون في اعماق السيّاب سيابا بركانيا هائلا .. لا يقوى السيّاب العادي من ايقاف امواجه الصاخبة التي ستتدفق طوال حياته القصيرة . انني اعتقد ان احاسيسه بالانسحاق بعد رحيل جدته ، ومشكلات الجد المالية ، قد جعلته يهرب بشكل عادي نحو بغداد ليتشّكل السيّاب الجديد ويترك السيّاب القديم في جيكور !!

التحّول الى انسان جديد في القطار نحو بغداد
لقد رحل السّياب عن موطنه الذي عشقه عشقا لا متناهيا ، وهو في القطار الصاعد نحو بغداد تاركا السّياب الاول كي تبدأ حياة السّياب الثاني مذ ولد سيابا جديدا ببغداد التي اكمل فيها ثانويته ، وبعد تخرّجه من الثانوية صيف 1943 ، وقـبل طالبا ، وهو في مقتبل العمر في دار المعلمين العالية ببغداد .. وكانت تلك ” الدار ” من اشهر اكاديميات الشرق الاوسط قاطبة نظرا لامكاناتها المعرفية ، ونظام التعليم فيها وازدحامها بالمبدعين القادمين والزاحفين عليها بجدارة متناهية من كل أنحاء العراق وبقيت منارة حضارية وثقافية عراقية تشع بنخبة رائعة من أقوى المبدعين العراقيين الذين اثروا الثقافة العربية بأروع الأعمال .. ولكنها ، ويا للأسف الشديد ، انهارت بعد العام 1958 ، لتغدو كلية بائسة لا يتخرج فيها الا البعض من الخريجين العاديين وزاد انسحاقها عندما غدت مصنعا مؤدلجا وأداة نظام حكم جائر .. كان بدر في السابعة عشرة من عمره ليقضى فيها أربعة أعوام ..

الحنين الى البصرة .. من خصب شوق بغداد
لقد شعر السّياب الجديد انه انسان حر يمتلك ارادته هنا ، ويقول ما يؤمن به ها هنا .. ويلوذ بالاشعار التي وجد فيها مخلصا من كل مخزونه ، ومعبرأ اساسيا عن كل ما طواه اللا وعي عنده منذ سنين .. لقد كتب السياب خلال تلك الفترة عدة قصائد مترعة بالحنين والشوق إلى القرية التي كانت حاضنته الاولى ، وكتب الى الراعية هالة التي احبها .. ويكتب قصائده العمودية أغنية السلوان و تحية القرية.. الخ
في بغداد الواسعة الكبيرة يمضي في شوارعها ، وهو شاب هزيل لا يعرفه أحد ، يرتاد مقاهيها ويجالس بعض ادبائها ، فينتصر لنفسه عندما ينشر له ناجي العبيدي اول قصيدة شعرية في جريدة الاتحاد .. وهي اول قصيدة تنشر لبدر ، فيفرح فرحا شديدا يجعله لا ينام الليل من هذا الانتصار الذي حققه ببغداد .. فما وجده في بغداد يعاكس كل ما لاقاه وصادفه في موطنه الاول .. ولكن السياب الجديد لا ينفصل ابدا عن ذاك القديم بكل انسحاقاته ، فالسياب الجديد يعّبر الآن سايكلوجيا عن سياب قديم بكل مرارة ولوعة .

صانع العباقرة العراقيين
لقد حظي السياب باروع عميد اكاديمي في حياة العراق إبان القرن العشرين ، كان يسمى بالدكتور متي عقراوي عميد تلك ” الدار ” الرائعة .. وغدا اول رئيس لجامعة بغداد .. وكان الرجل قد فسح المجال امام الشباب المبدعين لينطلقوا بمواهبهم وملكاتهم وثقافتهم في تلك الدار العالية .. ووافق في العام 1944-1945 على تأسيس الشباب جماعة اسموها ” اخوان عبقر” وكانت تقيم الحفلات والمواسم الشعرية ، فكان بدر من المؤسسين الى جانب زميلته الشاعرة نازك الملائكة وغيرهما .. في حين لم ينضم اليها غيرهم من الشعراء الطلبة الشباب . وفي كل من الدار صباحا ، والمقاهي الأدبية مساء يلمع نجم السيّاب في كل من البرازيلية والبلدية والزهاوي .. وهناك يتشكّل لأول مرة نظام رواد حركة الشعر الحر التي ضمت السياب وبلند والبياتي وعبد الرزاق عبد الواحد ورشيد ياسين وسليمان العيسى وشاذل طاقة .. وثمة تجمعا أشبه بتشكيل من نوع آخر جمع حازم سعيد واحمد الفخري وعاتكة وهبي الخزرجي وغيرهم . لقد حظيت الثقافة العراقية الحديثة في كل من عقدي الأربعينيات والخمسينيات من القرن العشرين بأهم مرحلة حرة من الإبداع والمنجزات الهائلة .. وتعد مرحلة الستينيات امتداد لها حتى حلول الفجيعة التاريخية !

غرابة الشاعر واعجوبة الشكل والمضمون
بدر في حجم جسمه ، صغير نحيل ضئيل، له عنق مشرأب ، وعلى جنبي رأسه أذنان كبيرتان .. ويمتد تحت جبهته العريضة خشم كبير مع ملمح لعينين صغيرتين تتحركان بلولبية سريعة على الجانبين ..وفم واسع تبرز الشفة العليا عالية ويصعب عليه اطباقها على الشفة السفلى .. وتبرز أسنانه كل مرة نظرا لاضطراب الوجه الذي اخذ لون القمح العراقي ، وبوجنتين ناتئتين تمثلان علامتي استفهام لكل حياتنا العراقية التي لا منتهى لاسئلتها الصعبة أبدا .. هذا الشاعر الشاب النحيل القادم من اعماق الجنوب الدافئ .. يعترف به وبسرعة البرق كل الجمع المثقف في دار المعلمين العالية ، ويشتهر فجأة على مهوى البنات قبل البنين .. بدأن يتناقلن شعره من دفتره الذي ضمه عيون شعره ، وهو نفسه الذي اصدره عام 1947 بعنوان ” ازهار ذابلة ” .

نحو عالم جديد برفقة عالمية
يقتحم السياب عالم الشعر الحديث بالانكليزية بعد أن يصرف الساعات الطوال ليخوض في عوالم ومرئيات وابداعات وود زورت وكيتس وشيلي .. واليوت واديث سيتويل .. وغيرهم ، ويقرأ ترجمة ” أزهار الشر ” لبودلير فيهواها من اعماقه .. كما يعشق احدى زميلاته الشاعرات الذكيات ، إلا أنها تطارحه الهوى حينا وتحجم احيانا .. يتعذب ويتلظى ، ولكنها تسهم أيضا في تكوينه الأخير .. ولا اعتقد أن دينهما قد ابعدهما عن بعضهما الآخر ، بقدر ما كان لكل من الاثنين طبيعته وافكاره وتربيته .. فيزيد ذلك من احباطه ، خصوصا ، إذا علمنا بأنه قد تعّلق بها أكثر مما هي تعلّقت به .. وربما كانت تتلاعب بعواطفه ، وربما أحبته هي الأخرى ، ولكن ثمة أشياء جعلتها لا تواصل حياتها معه ، فيهرب إلى أن يكون صاحب تجربة سياسية ماركسية في مخاض لا يستقيم وانفاسه وحريته كشاعر وفنان ..

تجربة المثقف والسياسي السجين
وكان الثمن ، الفصل من الدراسة لسنة اكاديمية كاملة في الكلية ، ومن ثم إدخاله السجن عام 1946 لفترة وجيزة ، وسجن ثانية في العام 1948 اثر صدور ديوانه ” أزهار ذابلة ” بتقديم من الصحفي العراقي الكبير روفائيل بطي ، اذ قام الاخير بجهده في نشر الديوان بمصر ، وكانت الانطلاقة التاريخية بذكاء منقطع النظير سواء في حرية البناء الشعري ، أو انطلاقة القافية من مهجعها ، أو التناغم مع اوزان الشعر من بيت شعري لآخر ، وكان يحاكي الشعر الغربي .. وهنا تتمثّل جرأة السياب وشجاعته في ابتكار ما لم يكن مألوفا في الحياة الشعرية العربية وبمنتهى الذكاء في الخروج من جمود الطرق التقليدية .. السجن محطة زادت من كرهه للنظام الحاكم ، ولكنه كما يبدو لي ، إن الرجل لم يعرف الاستقرار على كراهية الأشياء ، إذ سرعان ما تتغلب عنده نزعة الرضى والمودة للأشياء .. إذ كان ، وربما لا يشعر بذلك ، انه اكبر من بقية الأشياء التافهة .

واخيرا .. الخلود على مر العصور
هكذا ، كان التكوين وتطور الموهبة الى ان انصقلت بمعرفة واسعة ، وببطولة يصعب الأداء فيها من قبل الاخرين .. فلقد كان تكوينا غير عادي ابدا لشاعر لم يطل به الشوط ، اذ رحل مبكرا وهو في قمة العطاء ، ولكن ليسجل أروع النصوص التي ستبقى رمزا لما انجبه العراق . إن السيّاب هو علامة فارقة لما نتج عن مرحلة صعبة مزدحمة بالتناقضات ، ولكنه يعد ابنها الحقيقي لجيل ولد على عهد تأسيسي للعراق الحديث ، أي على عهد فيصل الأول ، وهو جيل رائع بعطائه الثر في مختلف واجهاته الثقافية .. لقد كان السيّاب ـ أيضا ـ صاحب مشروع شعري متميز في الثقافة العربية الحديثة ، ولأول مرة ، رفقة زملائه الآخرين الذين شاركوه تكوينه الأكاديمي . إن ما يميّز السياب في تكوينه الأول منطلقاته التي رأيناها منذ طفولته : الطبيعة .. البيت .. الأم .. القرية .. الأشجار .. أصوات الطيور .. خرير الماء وصولا إلى الشعور بالظلم والانسحاق .. البصرة وشناشيلها والرحلة بالقطار نحو بغداد . سيبقى السياب رمزا للعراق في القرن العشرين إلى جانب بقية رموز أخرى . وسيبقى بدر شاكر السياب خالدا على مد العصور .
( ملاحظة مهمة : اشكر كل الاصدقاء الذين ارسلوا لي ببعض شهاداتهم التاريخية عن بواكير التكوين لدى الشاعر الراحل الكبير بدر شاكر السيّاب ، وخصوصا المعلومات التي وصلتني من أسرة أل عبد الواحد ، ولقد عرفت من تكون ابنة الجلبي التي كتب السياب عن شناشيلها ، وليعذرني القارئ أنني أحجم عن ذكر اسمها ).

ـ نشر في مجلة ملامح ، العدد المزدوج الثالث والرابع ، السنة الثالثة ، ستوكهولم ، السويد ، 2009 . ويعاد نشره على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com

ولا ينشر الا بترخيص من قبل الدكتور سيار الجميل

شاهد أيضاً

الأرمن العراقيون.. الخصوصيّة والجاذبيّة والأسرار الحيويّة ! -2-

الحلقة الثانية :حذاقة الصنّاع وعظمة المشاهير الشخصيات العامة الأرمنية ينقل لنا الأستاذ آرا اشجيان عن …