الرئيسية / مقالات / الخروج من عار التخلّف !

الخروج من عار التخلّف !


أسئلة حائرة عن ماهية الثقافة العربية
لما كنت قد نشرت مقالتي الأسبوعية ” محاكمة الثقافة العربية: لماذا ؟ ” الأسبوع الماضي، فلقد وردتني رسالة من الأخ عبد القادر بنعثمان ( من تونس ) ، وهو يسجل بعض ملاحظاته وأسئلته التي تبدو بسيطة جدا ، ولكن لها خطورتها ، إن كانت معبّرة عن لا وعي جمعي في تفكيرنا الراهن . يقول الرجل في رسالته :
” سلامي الحار دكتور .. لقد دافعتَ بقوة عن الثقافة العربية ، وهو أمر محمود حين تكون الغاية منه البحث عن صيغ تطوير وجودنا في الحياة والكون … ويكون الغرض منها الدعوة إلى الوجود الفاعل والحضور الإنساني المشرف والرغبة في توديع الحالة الإسلامية الغثائية ( نسبة إلى غثاء السيل) . أما إذا كان بغاية تعظيم هذه الثقافة ، وإعلاء كلمتها وسلطانها ، ودعم هيمنتها على الخصوصيات الوطنية المكونة للثقافة الإسلامية ، فهذا فعلا يجب أن يحاكم ؟ لذلك لنرجو من سيادتكم فقط توضيح ما المقصود بالثقافة العربية ؟ وما منجزاتها ومفاخرها غير النص الشعري وأيام العرب المحمومة وتناحر القبائل وغاراتهم على بعضهم البعض ؟ وما التاريخ الواقعي المعلوم لنشأة هذه الثقافة لا المفترض ؟ وما هو وزنها مقارنة بالثقافات الأخرى التي عاصرتها قبل الإسلام ؟ وهل يمكن أن نتكلم عن ثقافة عربية بعد الرسول الكوني العظيم محمد (ص ) أم نتكلم فقط عن مكون عربي صغير من مكونات الثقافة الإسلامية ؟…مثلا أنا تونسي ، فهل أعتبر تاريخ جدودي في انجاز “الحنايا ” قبل الإسلام داخلا في الثقافة العربية ؟ وهل اعتبر بطولات حنبعل و ذكاء عليسة جزء من الثقافة العربية .. ؟ وهل يتنازل المصري عن منجزات حضارته الفرعونية وتاريخه كي يتبنى منجزات ثقافة الصحراء والخيمة والإبل؟ وهل يتنازل الفرنسي المسلم أو الانقليزي والأمريكي عن المنجزات الحضارية العملاقة لقوميته لصالح تبني ثقافة عربية لم تتمكن إلى اليوم من الخروج عقلية داحس والغبراء ؟ هنا أنا أتكلم بدافع الغيرة على وجودنا وليس بدافع التهجم أو التنقيص من قيمة هذه الثقافة وإنما محاولة لإعطائها حجمها الحقيقي كي لا يعمق تعظيمها مزيد المغالطات التاريخية و منع الشعوب والقوميات والثقافات الأخرى من المشاركة معنا في الاستفادة من قيم الإسلام الإنسانية الرائعة التي تنهض على أنه لا فرق لعربي على أعجمي إلا بالتقوى وهو ما يعني إلغاء هذه الثقافة العربية السائدة واستبدالها بالتقوى والقيم الأخلاقية السامية المشتركة بين جميع الديانات السماوية السابقة.
إذن أليس من الأفضل والأحسن اليوم التأسيس لوجود إسلامي جديد من خلال وحدة التنوع والاختلاف لا وحدة القهر القومي وإلغاء الخصوصية الوطنية كي يستمر تفاعل الآخر معنا وخلق الآلية العملية لحوارنا معه واستيعابه وإدماجه في وحدة التنوع والاختلاف في حال مشاركته المحتملة لنا في العقيدة ؟ مع محبتي ودعوتي للنظر في هذه الأسئلة بعين المصلحة المشتركة ، وتحمّل نقدي وأسئلتي للثقافة العربية من منطلق الدفاع على وجودنا المشترك ومحبتي لقيم الإسلام لا الكره والاستنقاص ( انتهى نص الرسالة ) .

أجوبة للتخلص من عار التخلف
1/ حقا ، سعدت بهذه الأسئلة ، أو غيرها التي سمعتها من بعض الأصدقاء .. وكم كنت أتمنى من صميم القلب ، أن يلّم كل السائلين بالموضوع من خلال قراءاتهم سواء بالعربية ، أو الاستشراقية الممتازة التي صرف بعض أصحابها أعمارهم بالتحقيقات والتدقيقات كي يمدّوا الثقافة الإنسانية بما قد احتوت عليه الثقافة العربية من علوم وآداب وفنون .. أي ما اكتنزت به من المعرفة النادرة .. كنت أود أن يتسّع الوعي بأهمية الثقافة العربية معرفيا ، لا أن يؤخذ المصطلح مؤدلجا ، كما هو رائج ومبتذل من قبل الإعلاميين والساسة الذين أفرغوه من محتواه ، والصقوه بالقومية تارة ، أو بالإيديولوجية تارة أخرى .. أو حتى بالسلطات ، أو الدين عندما غدت الثقافة العربية بكل عناصرها ومكتنزاتها ، مجرد عناوين لمنظمات ومراكز وجمعيات واتحادات تنفق عليها السلطات ، كي تصبح الثقافة العربية في رعاية أنظمة شمولية ، أو أمزجة دوغمائية ، أو أحزاب شوفينية ، أو سلطات ثيوقراطية ، أو قوى طفيلية !
2/ الثقافة العربية ، ببساطة هي كل ما أنتجه العقل العربي منذ آلاف السنين حتى اليوم من إبداعات ، ونصوص ، وعلوم ، وخطط ، ورسوم ، وفنون ، ونظريات ، وتراجم ، وسير ، وأخبار ، وأشعار ، وموسيقى ، وكتابات ، وخطابات ، ومقامات ، ومقول قول ، وأنظمة تعليم ، ومدارس ، ومناهج ، وفولكلوريات ، وأزياء ، وأساليب حياة .. منها المنقطع ومنها المتوارث .. في مخزون اجتماعي يتعامل مع عناصره بمشتركات عدة أهمها ( اللغة ) .. ولم يكن ذلك ” المخزون ” حكرا على دين معين ، فلقد اشترك في صناعة كل هذا المنتج وتطويره ، يهود ومسيحيون ومسلمون وغيرهم .. بل نجد أن أناسا من قوميات أخرى قد ساهمت في اغناء الثقافة العربية .
3/ وهل تنحصر منجزاتها بالشعر يا ترى كم يتصور البعض ؟ وكأنهم هنا ، يقولون ، أن الثقافة العربية لا يعرف أصحابها الا الشعر ؟ وان المثقف هو من يكتب قصيدة شعر ! وهذه رؤية قاصرة ، فالمتنبي من أركان الثقافة العربية ، ولكن يقابله ابن خلدون مؤسسا لعلم الاجتماع ، وابن رشد وابن طفيل في الفلسفة ، والفارابي في إحصاء العلوم ، والخوارزمي في الرياضيات ، والكندي في جغرافية الأرض ، وابن بطوطة في الرحلة ، والجاحظ في تطور الحيوان ، والغزالي في التربية ، وسيبويه في النحو ، والجرجاني في النقد ، والطبري في التاريخ .. وغيرهم من العمالقة الذين اغنوا الثقافة البشرية ، ناهيكم عن اكتناز الثقافة العربية بترجمة السريان العراقيين لفلسفات الإغريق .. إن كل محترف ومبدع في علمه وأدبه وفنه هو مساهم في بنية الثقافة العربية مهما كان جنسه ، أو دينه ، أو لونه ، أو عرقه .. وهنا ينبغي أن نفّكر قليلا في جملة هائلة من المثقفين العظام الذين خدموا الثقافة العربية ولم يكونوا لا بعرب ، وبعضهم ما كانوا بمسلمين أيضا .. وقد صرفوا أعمارهم واحرقوا سنوات عمرهم في إثراء الثقافة العربية .. نسأل ابن المقفع ، وهو فارسي عن إبداعاته العربية .. نسأل حنين بن اسحق وهو سرياني عن ترجماته الكبرى إلى العربية ؟ نسأل الهلال الصابي وهو مندائي عن خدماته العربية .. نسأل موسى بن ميمون وهو قاضي وفيلسوف يهودي يمني عن فكره بالعربية.. نسأل ابن سينا ، وهو من أبناء الشرق عن تآليفه في الطب والفلسفة بالعربية .. وغيرهم كثير حتى يومنا هذا .
4/ ليدرك كل من يقف خصما للثقافة العربية إنها ليست ـ كما يصفونها ـ ” أيام العرب المحمومة وتناحر القبائل وغاراتهم على بعضهم البعض ” ، إذ لابد من التمييز بين الحضر في المدن ، وبين البدو في الصحراء منذ ألفي سنة .. ينبغي التمييز بين أساليب القبائل ، وأساليب سلالات المدن . إن ثقافات المدن العربية كانت بحورا من الإبداعات التي لم نجد مثلها في لغات أخرى !
أما الواقعي لا المفترض في تاريخ هذه ” الثقافة ” ، فهذا ما أوضحته حفريات عدد من كبار المؤرخين العرب والمستشرقين .. في أعماق التاريخ ، كي يجدوا آثارا معبّرة وقديمة سواء في مملكة عربايا ، أو المناذرة في العراق ، أو الغساسنة في بلاد الشام ، أو مأرب ومعين وحمير في اليمن .. وإبداعات العرب العمالقة وما كان لديهم من علوم وهندسة بناء وفنون وأساليب ري وقصائد شعر .. فالحطيئة الأكبر قديم جدا في قول الشعر العربي يسبق الإسلام بمئات السنين .. أما وزن الثقافة العربية مقارنة بالثقافات الأخرى ، فهو ثقيل جدا ، ليس لأنها كانت تضاهي الإغريق ، أو الفرس ، أو الرومان .. بل لأن الثقافات الأخرى انقطعت عن عطائها ، وافتقدت حتى لغاتها القديمة .. في حين كانت الثقافة العربية مستمرة منذ قبل الإسلام ، ومرورا به ، وانتهاء بعصر النهضة التي نعيش زمنه الآن . والثقافة العربية ليست مكّون عربي صغير من مكونات الثقافة الإسلامية بعد الرسول الكوني .. فهي التي أسست للإسلام لغة وخطابا ، وهي التي سحبت إليها كل ثقافات الشعوب لتكون الأخيرة في رعايتها .. وهي التي انضم إليها الناس كي يتعاملوا معها في إنتاج معطياتهم .. وغدت الشعوب غير العربية منضوية طوعا في بنية الثقافة العربية .. فتجد حتى أسماءهم عربية وتجد حتى رسائلهم بالعربية ..
5/ أما المناطق والبلاد التي شملتها الثقافة العربية ، بحكم الوجود العربي ، من خلال انتشار الإسلام بوسائل مختلفة ، فلا يمكن اعتبار مواريثها القديمة عربية بأي حال من الأحوال ، فثمة منتجات ثقافية قديمة غير عربية .. هي اليوم مجرد آثار ورموز تجدها في متاحف أو في مناطق أثرية وما أكثرها في بلداننا العربية .. إنني أسأل : بأي ثقافة يتعامل أبناء كل بلد عربي اليوم ؟ لا استطيع القول بان هناك ثقافة وطنية منفصلة عن ثقافة وطنية أخرى في بلد آخر .. إننا نكون نضحك على أنفسنا ، ونعطي الأمثلة الفاضحة للعالم كي يستهزئ بنا إن أنكرنا وجود ثقافة عربية اليوم مهما كان تهرؤها ، ولكن ما دام التونسي يسمع ويطرب لمغن لبناني ، أو عراقي ، أو مصري ، فثمة ثقافة مشتركة ! وما دام هناك مكتبات تبيع الكتب العربية التي تقرأ معا في كل مجتمعاتنا العربية ، فثمة ثقافة مشتركة ! وما دام هناك لغة شعرية بين أبي القاسم الشابي والسياب ودرويش ونزار .. فثمة ثقافة مشتركة !
6/ هذه حقائق دامغة ، وليست ثقافة الإبل والخيمة والصحراء ! إن آلافا من ابرع المثقفين العرب من مبدعين ومحترفين ومختصين ينتشرون في هذا العالم ، ليس لأن ثمة عيوب في تربيتهم ، أو تكوينهم ، أو محصلة ثقافتهم ، بل بسبب القمع والسياسات الجائرة التي تثوي عليه بلداننا .. فالمشكلة ليست تبسيطية ساذجة كون ما نحمله ثقافة خيمة وابل وصحراء ، بل إنها معقدة بغيبوبة الوعي حول ماهية ثقافتنا العربية .. ولا ادري لماذا ينفر أبناؤها منها ، ويريدون أن يجدوا في ما يسمونه بثقافتهم الوطنية جذورا يجدونها في آثارهم القديمة من دون أي دراية بحجم الانقطاعات الزمنية والموضوعية التي تفصلهم عن تلك المنتجات ! إن مجرد إنكار الثقافة العربية هو تشكيل خصومة لا مبرر لها ، لا لشيء الا لكونها (عربية) ، وقد ترسخ في الوعي الباطن لدى البعض وعلى امتداد الخمسين سنة الأخيرة .. أن كل ما هو (عربي) ينبغي أن يقرن بالخيمة والبادية والسيف ، أو يتم الخلط بين داحس والغبراء في السياسة والثقافة معا .. إن من ينظر للثقافة العربية من منظار سياسي لواقع معاصر ، فسيجدها ثقافة قطع رقاب ، وقص أطراف ، ورمي أحذية.. الخ أما من يتمتع برؤية بعيدة عنها ، فسيجدها ثقافة معرفية وأدبية وفنية عالية المستوى من الناحية الإنسانية .

وأخيرا : أقوى التحديات
واكرر للمرة الألف، أن الثقافة العربية العريقة هي ليست القومية العربية. إن التعمية تتم عن قصد ، أو بلا قصد عن ابرع ما أفادت الثقافة العربية به الإنسانية بأكملها . لقد وصلت حالة الانفصام لدى البعض، أن يجعل الثقافة العربية ثقافة إرهابية، ويريد تسويقها على العالم كله .
إن من اكبر التحديات التي تعاني منها الثقافة العربية المستنيرة ، غلبة البداوة عليها ، وإغراقها بالمتخلفين والجهلة والطفيليين الذين تكاثروا في العقود الأخيرة من السنين بفعل تدفق الثروات النفطية على بيئات عربية ابتذلت فيها الثقافة ، وضربت فيها الاستنارة الحقيقية ضربات قوية .. وكانت الهجمة الإعلامية على الثقافة والمثقفين الحقيقيين ، فتآكلوا يوما بعد آخر .. ناهيكم عن الحرب التي أعلنتها الأنظمة السياسية العربية المختلفة مع كل القوى الأصولية والمتعصبة ضد اغلب المثقفين المستنيرين الذين تضاءل عددهم ، وانكمش دورهم .. وهاجر العديد منهم إلى ما وراء البحار .. علينا اليوم أن لا ننكر عن قصد ، أو من دون قصد ما قدمته خيرة نخب المثقفين العرب من إبداعات ، وتشكيل ، وموسيقى ، وفن ، وشعر ، ورواية ، وصحافة ، وعمالقة لغة .. الخ من رجال نهضة حقيقية دمرتهم سياسات السلطات والأحزاب الأحادية والقوى المتعصبة والزعماء الرعناء .. وللحديث بقية ..

تنشر على موقع الدكتور سيار الجميل بتاريخ 30 آذار / مارس 2009
www.sayyaraljamil.com

شاهد أيضاً

زعامات ورزايا .. ورئاسات بلا مزايا

 الزعامة غير الرئاسة، والرئاسة غير الإدارة، والإدارة غير القضاء. لقد مضى زمن الزعامات الحقيقية، وماتت …