الرئيسية / النقد السياسي والتاريخي / التفكير بعيدا عن زنزانة سوداء !

التفكير بعيدا عن زنزانة سوداء !


(1) تساؤلات
هل لي أن اكتب خطابا حرا من نوع خاص ، أسجل فيه بعض الأفكار على هامش الزمن المنكود ؟ هل لي أن اهرب من هذا الغثاء الذي يجتاح عالمنا المترّدي إلى حيث النقاء ؟ هل لي أن أحطم قيود زنازين العصور المظلمة ، واخرج إلى عالم حر ؟ هل لي أن أتخّيل أجيالا تتربى على مجموعة من التفاهات ، والاضطرابات المرعبة ، والنفسيّات المعقدّة .. ولا افني المستقبل بيدي ؟ هل سيبقى عالمنا هذا الذي نتباهى بأمجاده دوما .. في غيبوبة بعد كل النكد والتوحش والجهالة والغثاء ؟ هل لي أن اتصّور أين تصل حدود البلادة والبلاهة والسفاهة ، وهي تتوسّع بشكل مفرط لتتخّذ شكل ثقافة موبوءة تجتر نفسها منذ أزمان ، وتتجسد فيها كل الكراهية ، وكل الأحقاد ، وكل الأوصاف الشنيعة ، وكل الاهانات ؟ هل سيبقى هذا الاندفاع القاتل نحو كل أنواع التخلف والانحطاط في كل من دول ومجتمعات لا تتغير أبدا ؟ متى يبقى عالمنا يسكن القبور المنتشرة في الدرك الأسفل من الأرض ، وليس لهم إلا الأكل والنوم وقضاء الحاجات ؟ متى سيخرج الناس من سلطة الأوهام والأورام والزنازين ويفكروا تفكيرا سويا كأحرار ؟

(2) الأهواء
متى يبقى عالمنا يتآكل وهو في طور الاختناق ، والكل على حافات الهاوية ؟ متى تتنظف أفكار الملايين من كل العفونات وترسبات الأزمان العتيقة ؟ متى يتخلصون من أكل الفطائس الكريهة وهي تتكاثر بشكل مذهل وهم يتصارعون لما تراكم عندهم من أهواء ؟ متى يتخّلص عالمنا من كل الأمراض الدفينة والعقد الكريهة من دون أي شعور بالتضاؤل ؟ متى يزرع الحب عنوانا يدهش من خلاله كل الوجود ، خصوصا في مجتمعات عاشت على الإحسان والتقوى والعشق الإلهي والحب العذري وقيم المدينة وتقاليد الحضارة ؟ متى يتخلّص عالمنا من الجمود ويطلق نفسه مع النسيم يعبر به كل الدنيا نحو الشواطئ الأخرى بعقله لا بأهوائه ؟ إلى متى ستبقى مجتمعاتنا تختلط فيه الأشياء ، وتعبث به التناقضات ، وتتصادم في دواخلها الأهواء وبعد قرنين من الزمن المتحرك ؟ إلى متى ينخر فينا تاريخنا البائس ، ويأكل فيه كل حاضرنا التعيس ويبقى هو المتسلط على أنفسنا وواقعنا ومستقبلنا من دون أن نرى تاريخنا الرائع ؟ متى يتخلص واقعنا المرير من الأعاصير المميتة القاتلة ؟ متى يتوّقف أي مجتمع بليد عن تعصباته وانقساماته وثاراته وثرثراته ومكرراته الساذجة ؟ متى يتبدّل بغيره لنرى عالما طبيعيا خاليا من تناقضات الفكر وازدواجيات الحياة ؟

(3) التناقضات
لا استطيع أن اتخّيل أننا نعيش في القرن الواحد والعشرين وعالمنا الجامد لم يتحرك تفكيره أبدا بلا تناقضات ! لم اتخّيل بشرا يعيش معاصرته وهو يعبر عنها بما أكله الزمن ؟ لم استطع إقناع نفسي أن تصبح القلنسوات الملونة هي الآمر الناهي في هذي الحياة .. وغدا التواكليون والمتكلسون ينفثون كل أدرانهم وأمراضهم وفحيح سمومهم في كل أجزاء المجتمع .. وجاء السفهاء منهم وهم يوزعون الأحكام بكل الممنوعات وكل المحرمات ! لقد غدا عالمنا متحجرا متكلسا مثلهم بشكل لا يمكن تخيّله .. لم يعد هناك مكان نستعيد فيه حريتنا ونشمّ هواء نقيا ، فكل الامداء سجون ، وقلاع اسر ، ومراكز نفي .. ها أنا ذا أجد الملايين يحتشدون في زنزانة قاتلة .. ها أنا ذا لا أرى الضوء يمسّهم .. فهل أصبح جميع من في هذا العالم صم بكم عمي وهم لا يفقهون ؟؟ وهل هو جامد حقا أم انه يتراجع دوما إلى الوراء ؟ ولم يزل يعيش في زنزانات سوداء كساها الدخان العتيق .. فالمداخن لم تتبدل أبدا ، والماء لم يغسل الجدران أبدا من كل سخام الزمن .. فسد كل شيء فيه بفساد الأحياء والأموات ! الأزقة بدت مزدحمة ولا تجري في مجاريها إلا المياه الآسنة أو تنضح من مساماتها الدماء القانية .. ولا تنعق فيها إلا الغربان السود ..

(4) متى تشرق الشمس ؟
لقد غابت الشمس من زمن بعيد ، وعم الظلام كل الحياة ! سوف لن تشرق الشمس هكذا كالعادة إلا بعد زمن طويل ! لن تشرق الشمس حتى تغيب البشاعة ! وأقسى البشاعات بشاعة التفكير البليد ! وبشاعة قتل الحريات ، وبشاعة قتل النساء ، وبشاعة قتل الأبرياء ، وبشاعة حكام يكذبون ويكذبون .. لن تشرق الشمس إلا بعد الجفاف الرهيب ، وسقوط الأمطار ، وغسل كل الحياة .. لن تشرق الشمس إلا بعد غياب التوحش وزوال الدخان واثر نظافة الأجساد .. لن تشرق الشمس إلا بعد عودة الطيور إلى أعشاشها ! لن تشرق الشمس إلا بعد عودة الاخضرار إلى كل الأغصان اليابسة الجرداء ! لم تخلص حتى المدن النائية من كل الأوبئة ! تلاحقها كل النفايات .. لن تشرق الشمس حتى تتطهر القلوب من كل البلايا والرزايا .. لن تشرق الشمس إذا بقى عالمنا يعيش الفتن الطائفية ودكاكين تبيع الأوجاع وزوايا يتخّمر فيها العهر وذوي العاهات !

(5) الأوهام
إن الذين مضوا إلى مزبلة التاريخ تجدهم في القاع دوما وهم مصدر كل القتل والتدمير والشناعات .. إنهم عبيد الموت الأسود الذين لا يعرفون إلا الموت لغة يستخدمونها وينابيع الحياة يستأصلونها ! إنهم كالأفاعي وقد قطعت أذيالها ، وباتت تؤجج بفحيحها كل جزيئات الحياة .. إنهم لا يعرفون إلا الحرق والدمار وقتل الأزهار اليانعة .. هل وجدتم بشرا سويا يقتل امرأة ؟ هل وجدتم بشرا سويا يقطع رقبة ؟ هل وجدتم بشرا سويا يّعذب الآخرين ؟ هل وجدتم بشرا سويا لا يعرف الا الغضب ؟ ولا يفتح الا قاموس الحقد والكراهية ؟ عالمنا لا يعرف لغة العقل .. الناس حيارى يعيشون الأوهام القاتلة .. عالمنا متوحش لا يعرف الرحمة ولا يدرك معنى الحياة ولا يقدّر للإنسان قيمته ولا وجوده !! عالمنا لا يقرأ أي مستقبل .. عالمنا يعالج الواقع المتهرئ بالأوهام والأخيلة .. عالمنا تأكله التناقضات وبؤس الأفكار .. عالمنا لا يعرف إلا الأكل والنوم والتناسل .. عالمنا لا يعرف إلا الأشياء الكريهة والروائح النتنة ولغة الأحذية .. عالمنا لا يعرف إلا الشقاء وهو ينتظر من دون أي ثمن للانتظار ! ما أجمل الحياة وثمة نسائم عذبة من الحريات ، وحد أدنى من العدالة وتكافؤ الفرص ومساواة ومنتجات ..

(6) المزيفون
أي منظومة هذه التي جعلت الناس أسرى الذبح والأحجار والنار والقار وقد قفلوا على أنفسهم حتى الموت .. ؟؟ أي بيوت هذه التي لا تعرف شيئا وهي باقية من دهور لا تعرف الصرف الصحي ! أي استحالة هذه تحيل الحياة إلى مجموعة من المتضادات التي تأكل أحداها الأخرى ؟؟ متى يستقيم المنطق ليكشف الإنسان في عالمنا حجم التناقضات ، وهي تتصادم في كل مكان منه ؟ متى يكشف الإنسان في عالمنا زيف كل ما تربى عليه ويقف على الاكذوبات الفاضحة وهي مخفية ؟ متى يشعر الإنسان ولو لمرة واحدة انه يفكّر بطريقة سوية ؟ متى يعلن عالمنا البراءة من كل مهالك التاريخ ؟ ومن يكشف عن صفحات التاريخ السود ؟ متى يعتذر عن أخطاء ارتكبها ؟ متى يتوقف عالمنا عن اللغو والثرثرة البائسة ؟ متى يستلهم عالمنا مباهج الروح كي تتكافئ عنده مع ضرورات حياته ؟ متى يتخّلص عالمنا من احتقار الآخرين ووصفهم بأشنع الصفات ؟ متى يتخلص الانسان من زيفه ؟ يعيشون في الغرب وهم يكرهونه ويمقتونه .. يعيشون من اجل أن يكونوا مزيفين !

(7) الأشباه
متى يصمت عالمنا عن أفكار سخيفة تثير الاستهزاء وتدينه وجملة من تقاليده وممارساته المشوّهة ؟ لا احد مثلكم يتلف زمنه في أشياء تافهة ! لا احد مثلكم قد تمّيز في السب والشتم والوقاحة والصلافة حيث يسكت النبلاء والعقلاء والرحماء والشعراء والعلماء ! متى تشتغل عقولكم أيها البلهاء ؟ متى تتحرك ضمائركم أيها السفهاء ؟ لم تندمل جراحاتكم ما دمتم تعيشون دوامات هائلة من الفجور والطغيان ! هل هناك من لم يزل يسّمي نفسه بـ ” مناضل ” كان قد سجل تاريخا معينا في القرن العشرين ؟ لماذا تسكتون على صفحات القتل المجنون ؟ هل أبقيتم شيئا يذكر من المدن العريقة الفاضلة ؟ هل تعتقدون إنكم كنتم بمناضلين حقيقيين ؟ هل عرفتم يوما كيف تخطون شيئا رائعا من نوع ما في التاريخ ؟ وهل حلمتم بمستقبل نظيف تقل فيه المعضلات وتنعدم فيه الشظايا المدمرات .. ؟؟ تذكروا كم مات على أيديكم من المبدعين ، ومن الملهمين ، ومن الشعراء ، ومن الأدباء ، ومن العلماء ، ومن المثقفين ! تذكروا فقط نهايات رجال ونسوة لم يكونوا إلا رموزا حية سيذكرها التاريخ وقد حطمتموها ظلما وعدوانا !

(8) الأشقياء
يا له من عالم نكد يزرعه الأشقياء ولا يتحرر منه كل الملايين .. عالم يمكن أن يتجرّع أوجاعه كل الزمن ! والأوفياء بالعهد ، وبكل الخيارات ، وسمو الثقافة وأصحابها من الخيرين في عالمنا نحن لا عند غيرنا .. يتلاشون أمام طغيان جماعات لا تعرف إلا الإقصاء ولا تريد إلا الصمت .. إن الجميع بات لا يعرف إلا الصمت ، أو اجترار الطقوس .. أو الهروب .. بات كل عالمنا وقد زرع بالأشواك والأحجار القاتلة .. ولا ينتظر إلا الرسائل المميتة ، أو المهرجانات القاتلة ، أو شظايا الوقاحة ، أو كل الصلافات ، أو إلقاء الجثث على الطرقات .. لم تعد حياتنا تسمعنا حسن الكلام ، ولم تعد آذاننا تصغي لسحر الأشعار ولم نعد تطربنا لغة الطيور ، أو موسيقى المحبين .. لم نعد نسمع الأغنيات الجميلة .. ولم تعد هواجسنا تتقبّل ما يجود به الفكر .. لم يعد الأطفال يعرفون كيف يلعبون .. ولم يعد الشباب كيف يبدعون .. ولم يجد عالمنا إلا التيه وسط تيه الأضداد !! رحل الأوفياء حقا وكثر الأشقياء !

(9) النصف الآخر
لم يعد لدينا من الأفكار نحاورها ، ولا القصائد نبادلها ، ولا الروائع نقرأها ، ولا الألحان نساجلها .. لم تعد المرأة إلا إنسانا مرتعبا تخشى النظرات وتخشى السلطات والميليشيات ! ولم تعد المرأة تجد نفسها إلا بين القضبان السوداء ! ولم يخرج عالمنا من جلده السميك منذ أيام داحس والغبراء .. منذ أزمان وهو لا يعرف إلا التمييز بين ذكر وأنثى ، وليس من هم وغم إلا المرأة ، وكأنها أتت من عالم آخر ! لم يعترفوا حتى اليوم أنها النصف الآخر ! إنها الأم والأخت والبنت والزوجة .. إنها الحبيبة .. إنها النصف الآخر ، إذ لا يعتبرونها نصفا ولا حتى قلامة ظفر .. وبات الكل لا يدرك من الحياة إلا قطف الزهور حتى وهي يانعة .. كثر المتسلطون عليك سيدتي .. كثر الضباع من حولك .. لا يريدونك إلا قطعة أثاث ليس إلا ! قمعوا حريتك ، وسيطروا على حقوقك باسم مجتمع لا يعترف أبدا بخطايا الذكور .. كثر كل الذين لا يعرفون إلا البتر والرجم والتكفير وإطالة اللحى وقتل الحياة ، فهل سترجع عقارب الساعة إلى الوراء ؟.. إنني لم اعد استوعب مشكلة من ينحر نفسه بنفسه وهو في قبضة التناقضات .. لماذا لا يفكرون ؟ لماذا لا يتدبرون ؟ ألا تتساءلون معي : لماذا تتآكل حصوننا من دواخلها المتعفّنة لأننا نمعن في اضطهاد النصف الآخر ؟

(10) فسحة الأمل بلا نهايات
لن تنتهي كلماتي بعد ! لن تنتهي أنفاسي بعد ! ومعي ثلة من الناس الذين يتمتعون بنعمة التفكير يشاركونني فرص الأمل.. لي أصدقاء قدماء وجدد في هذا العالم لا اقدر اعتزازهم بأية أثمان وهم يحسّون عظم المأساة التي حطّت علينا .. فمن يخلّص عالمنا من الدمار والانسحاق ؟ من يخلصّه من قبضة الجهلاء والبلهاء والسفهاء ؟ من يمنحه حق الحياة الجميلة ؟ من لا يميز البشر بين الاكثريات والأقليات ؟ من لا يميز بين الأعراق والقرابات ؟ من يفاضل على أساس ثقافي أو حضاري ؟ إنني مؤمن بفسحة عريضة من الأمل .. من يبدأ التفكير من جديد .. ؟ من يعلمنا بأن عالمنا لم تعد تثقله إلا السراديب القديمة ؟ إن مدنا عريقة في عالمنا لا تجد نفسها إلا وهي تعيش قبل قرون وهي محشوة بالبشر الذين تفتك بهم كل الجهالات ! فهل ثمة مشروع حياة جديد يأخذنا منذ هذه اللحظة نحو الخلاص كي نعيش هذا العصر ولا نكن في زنازين عصور أخرى ؟ إنني مؤمن بان الشمس ستشرق في يوم قريب .. ولكن أسألكم: من يقف معي في مثل هذه الأفكار ومن يقف ضدي إزاءها ؟ فإلى ذاك الذي يقف ضدي ادعوه إلى التأمل قليلا وهو يتمثّل نفسه وقد ابتعد تماما عن حياة هذا العصر ، فهل باستطاعته البقاء ساعة من الزمن خارج هذا العصر ؟


www.sayyaraljamil.com

شاهد أيضاً

على المشرحة.. لا مواربة سياسيّة في الحوار العلمي (الحلقتان الثالثة والرابعة)

ثالثا : الاحرار العرب : مستنيرون لا خونة ! 1/ اخطاء تاريخية وتحريف للتاريخ ويستكمل …