الرئيسية / مقالات / العقل الأميركي إزاء ثورة التغيير والأمل

العقل الأميركي إزاء ثورة التغيير والأمل

من أخطر ما تمارسه السياسة الأميركية أنها تخفي ما تخطط له، بل إنها قادرة على أن تلعب بكل المصائر من اجل أهداف محددة.. لقد كانت وراء خلق الأزمة الاقتصادية التي يعاني منها الأميركيون قبل غيرهم، بل إنها كانت وراء اضطرابات سوق النفط، واضطرابات الأسواق المالية والاستثمارات، وفجأة تتبخر آلاف التريليونات من الدولارات، ولا أحد يعرف مصيرها، ولا إلى أين ذهبت! جاءت أميركا إلى أفغانستان والعراق ضمن أهداف معلنة، ولكن لا احد يعرف ما الذي تريده بالضبط ليس من الشرق الأوسط، بل من الصين واليابان وأوروبا المتحدة والآسيان..
لقد كانت بريطانيا العظمى قبل أكثر من مائة سنة قادرة على حل مشكلات العالم، ومنها المسألة الشرقية.. أما المارد الأميركي اليوم، فهو عاجز تماما عن حل مشكلات الشرق الأوسط التي تفاقمت كثيرا على يديه منذ خمسين سنة!
هل العقل الأميركي يعيش غيبوبة مكشوفة، وهو صامت لا يفصح عما يريد الوصول إليه؟ بل ولا يشرك أبداً غيره في حل بؤر التوتر في كل العالم؟ لقد ساهمت أميركا في خلق أو إعادة خلق مشكلات جديدة عند بدايات القرن الجديد في العراق وأفغانستان ولبنان وإيران والسودان والصومال وغيرها..
وكانت أسرع في إسكات الصراعات في أوروبا الشرقية مقارنة لما في الشرق الأوسط وإفريقيا.. وإذا لم يكن للشعوب القدرة على أن تفعل شيئا إزاء السياسات الأميركية، فان الأميركيين أنفسهم وجدوا لا مناص إلا في التغيير والأمل..
هذا «الشعار» الذي رفعه باراك أوباما بذكاء ليحصد النتائج لصالحه في كل العالم بعد أن كان بديلا ضائعا أمام غطرسة الجمهوريين.. إنني غير معني بما سيحدث من تغيير في الدواخل الأميركية، ولكنني معني تماما بما ستفعله الإدارة الأميركية من اجل حقبة تاريخية جديدة ينشدها الإنسان على وجه الأرض: الأمل، والتفاؤل، والأمن، والاستقرار، وفرص العمل، والحرية.. وتحقيق الأدنى من حقوق الشعوب. لم يكن يعنيني أمر الرئاسة الأميركية شيئا في السابق من السنين، ولكن أمر بتّ اهتم به كثيرا بالرغم من أنني لا أعول على أي رئيس أميركي، إذ لم يستطع أن يفعل شيئا حقيقيا تجاه القضايا التي يسعى العالم لإيجاد حلول لها..
العقل الأميركي مبرمج على ألا يسمع، لا يرى، لا يتكلم.. انه آلة تعمل من تلقاء نفسها ـ كما يسمّيه الأميركيون ـ ويشغل الدنيا من اجل أهداف محددة، وربما من اجل هدف واحد لا غير! إذا كان الرئيس أوباما قد وعد بـ «التغيير والأمل»، فمن العدل ان لا يقتصر التغيير على أميركا وحدها، بل إن العالم كله بحاجة إليه كي يبزغ فجر جديد لكلّ الشعوب وحّقها في الحياة والتقدم.. في العمل والإنتاج.. في التطور والإبداع.. بعيدا عن الحروب وقوة السلاح والسيطرة.. بعيدا عن الإرهاب وقتل الأبرياء.. بعيدا عن زرع الانقسامات العرقية والطائفية والجغرافية.. بعيدا عن خلق الأزمات الاقتصادية والتلاعب بمصائر الناس وأرزاقهم ومشروعاتهم.. بعيدا عن إلحاق الضرر بهذا الطرف او ذاك.. إنني واثق ان الديمقراطيين في أميركا لا يقلون خطورة عن الجمهوريين، وان الهياج العربي مرحبا بقدوم أوباما هو ضرب من التعاسة.. إنني مقتنع تماما بأن أوباما سوف لا يقدم أو يؤخر في قضايانا قاطبة..
ربما كان التغيير الذي ينشده لأميركا وحدها فقط! ربما سيتبع خطوات شبيهة بتلك التي سار عليها الرئيس السابق كلينتون، إذ سيكون الاقتصاد الأميركي أولوية في استراتيجيته، وان ما تتطلبه تلك «الاستراتيجية» خارجيا سيقوم بتنفيذه على أحسن ما يرام.. وبعكسه، فان مشكلات أخرى محتدمة ستتبلور خلال السنوات الأربع المقبلة..
أتمنى على العقل الأميركي أن يقدّر الأمور حق قدرها، وان يشيد بمعجزات الآخرين، وان يثمن ادوار صناع التاريخ.. «لان صناعة التاريخ ما ننجزه في المستقبل لا ما نكتبه عن الماضي» على حد قول الشيخ محمد بن راشد.. إن العقل يفرض على صاحبه ان يكسب كل التجارب الحيوية والحضارية إلى جانبه، لتكون أمثلة حقيقية ناصعة أمام الشعوب الأخرى لا ان يحدث العكس، انه مدعوّ للتغيير أيضا على الانقلابات والمؤامرات والاحتلالات والانقسامات والصراعات والحروب وبيع الأسلحة المدمرة.. وكلها لا تتفق أبدا والدعايات ببث الديمقراطية والتقدم ومراعاة حقوق الإنسان باعتبار أميركا معقلا للعقل والحرية والديمقراطية.
لقد أساء الجمهوريون كثيرا، وخصوصا الرئيس بوش وكل طاقمه في التخّلي عن واقع لصالح اعتقاد ما يريدون أن يصدقوا به.. بل والأخطر من هذا كله، صناعة ظاهرة الإرهاب والقتال من اجل دحرها.. إن التحديات والمخاطر التي تصنعها الولايات المتحدة عن قصد أو بحسن نية للعالم كله أو إزاء بعض الشعوب تتّحول إلى فرص ثمينة للاستجابة وتجاوزها نحو الأمام وبسرعة كبيرة..
دعوني أقول: إن العقل الأميركي بحاجة ماسة فضلا عن الانفتاح والديمقراطية التي بشر بها جورج بوش، وفضلا عن التغيير والأمل التي يبشر بهما أوباما.. بحاجة إلى احترام عقول الآخرين وانجازاتهم، والاستماع إلى ملاحظاتهم وأفكارهم وتحذيراتهم. إن عليه أن يرى ويسمع ويتكلم من اجل تبنّي روح الشراكة والحوار، فهو لم يعد قابعا وحده وراء الأطلنطي، بل هو القائم على إدارة تلك التي اسماها بـ «القرية العالمية»!

البيان الاماراتية ، 12 نوفمبر 2008

www.sayyaraljamil.com

شاهد أيضاً

زعامات ورزايا .. ورئاسات بلا مزايا

 الزعامة غير الرئاسة، والرئاسة غير الإدارة، والإدارة غير القضاء. لقد مضى زمن الزعامات الحقيقية، وماتت …