الرئيسية / تراث آل الجميل / – المداهنة –

– المداهنة –

ما أجمل الصراحة وما أتعسنا حظاً؟ فقد أصبحنا في زمن وفي محيط لا يمكننا أن نظهر ما كمن في قلوبنا من الآلام كما إننا أقدمنا على بيان الحقيقة ، أو أردنا أن نصارح أحداً بحقيقة لا نأمن من أن تصيب تلك الصراحة وتلك الحقيقة موقعاً سيئاً في قلوب السامعين. وما نريد أن نصارح به الجمهور اليوم – ولعلهم لا يغضبون ولعلهم لا يستاؤن – هو حديث المداهنة التي تفشت بيننا وأخذت تفتك فتكاً ذريعاً في هذا المجتمع فأصبحت بدرجة لا يمكن أن يتخلص منها لسان أو أن يسلم من عصمه الله وقليل ما هم، على أن هذه الشائبة، شائبة المداهنة هي من أكبر الأمراض الاجتماعية، ومن أخبث العلل التي قد إنتابت أبناء البلاد بينما البلاد لا تبلغ الغاية التي تتطلبها من الرقي في العالم الاجتماعي إلا بالصراحة وباتباع الحقائق.
ساء ما يفعلون؟ وبئس ما يعملون؟ يريدون التقرب إلى أولي المقامات السامية بالمداهنة ونيل المآرب بها فكأنها شبكة يصطادون بها أهوائهم جاهلين أن المداهنة تشين كل أحد وتحط من مركزه الاجتماعي عند أرباب الصدق والإخلاص ، إذ لم تكن المداهنة لا تنبت الغش والكذب والخداع على أن من قضى ليلة يضرب أخماساً بأسداس طامعاً بنيل المعالي طامحاً إلى المجد والشرف يقبح به أن يتوصل إلى ما بغيته بأساليب يأب بها النفوس الكبيرة، ومن أبواب يمجها عقل كل من فيه معنى من معاني الرجولة ولا شيء أقرب للنجاح إلا التمسك بأهداب الحقائق وطرق باب الصراحة ، فالنفس مهما سمت علماً وتدفقت غيرة ، قلما تشعر بنقائصها وقلما تحس ما يلزمها من الإصلاح إذ الإنسان خلق ميالاً للمديح شغفاً بحب نفسه ، فإذا لم يكن له ناصح يصارحه الكلام ويوقفه عند حده، فلا شك أنه يعيش في كل ما ترضاه نفسه فقط ويتلبس بكل ما يروق في نظره لا غير. وهكذا ، إذا ما داهن الصديق صديقه ، والقريب قريبه ، والأب ابنه ، والسيد خادمه ، فحينئذٍ تتسع ثلمة عيوبهم ويتمادون في الشرور والمنكرات على أنا لا نظن أن للمداهنة سوق نافق إلا لدى الأشخاص الذين ابتلاهم الله بداء الطيش والغرور، أما أصحاب العقول السليمة والأرواح النزيهة والأفكار الراقية فلا تجد المداهنة لديهم رواجاً، إذ لا تخفى عليهم سرائر المداهنين المصطادين فإذا ما مدحوا من جانب مداهن مدحاً يخرج عن حده وإذا ما وصفوا بأوصاف لم تكن فيهم ألقوا المادح أو الواصف حجراً إذ لا يجد العاقل عاراً أعظم من أن .. كملعبة بين أيدي المداهنين يسيرونه كيفما تشاء أهوائهم. والعجب من بعض أولي العقول القصيرة والأنظار التي لا تصل إلى وراء أنوفهم أن يرضوا بما يعزى إليهم ما ليس لهم به إطلاع أو أدنى إلمام أو أن يرضوا بأن يلقبوا بألقاب لا تتساوى مع شخصيتهم كأن يقال لفلان – زعيماً – ويقال للآخر – بطلاً – ويقال للثالث – عميداً – في حين أنهم لو انصفوا أنفسهم وراجعوا ضمائرهم بكل رزنةٍ وتؤدة ، لعلموا أنهم ليسوا جديرين بأن يقفوا موقف الأبطال، أو أن يكونوا في مصاف الزعماء، ولكن هيا الإنسان بالثناء يحمله على قبول كل ما يستعاد له وربما اهتز طرباً، هذه عادة قديمة ورثناها من آبائنا وأجدادنا الأقدمين رحمهم الله وهي عادة ذميمة لا تلتأم مع عقول أبناء عصر النور وأهل القرن العشرين فهل يا قوم من دواء ناجع ، فنقوم لمعالجة هذا الداء الذي قد تحكم في أنفسنا وقلوبنا وأنا لندعو الله تعالى أن يصون عنه الصحافة ، فالصحافة إذا تلوثت بالمداهنة لا تغتفر ذنوبها لأن الصحافة مدرسة العامة وأستاذ الشعب ومصباح هداه فإذا كتمت الحقائق ومالت إلى المداهنة بالتمويهات والباطلة والأكاذيب المزيفة فقل على الإصلاح المنشود السلام.

صدى الجمهور ، العدد 56 ، الاثنين 19 أيلول 1927 الموافق 22 ربيع الأول 1346 هـ

شاهد أيضاً

يا نجوماً

(نظمها بالفرنسية ) ثم ترجمها الى العربية   صورة  للقصيدة بخط يد الشاعر يا نجوماً قد …