الرئيسية / الشأن العراقي / مِحنة المُجتَمَع العِراقي

مِحنة المُجتَمَع العِراقي

يمّر المجتمع العراقي اليوم بمحنة قاسية كبرى ، خصوصا وان المتغيرات الصعبة والحروب والكوارث والاضطهادات التي مّر بها سابقا ، والتي يعرفها الجميع ، قد انتجت اوضاعا متردية على مستوى كل الوحدات الاجتماعية والتنوعات السكانية في المدن ولواحقها .. وزاد من حدّة المأساة على عهد الاحتلال اليوم ، تفاقم الانقسامات ليس السياسية فقط ، بل الاجتماعية بشكل يصعب تخيله اثر تطبيق سياسات بثّت روح الانقسام على اسس دينية وطائفية وعرقية وديمغرافية وجهوية اقليمية ومحلية .. لقد انتجت كل السياسات التي مورست جملة هائلة من الصراعات التي لم يحسب حسابها ابدا من قبل العراقيين جميعا . وتلك ” السياسات ” التي صنعتها المبادئ الانقسامية وسوّقها المحتلون في العراق اعلاميا وسياسيا باسم المكونات الاساسية الثلاثة ( شيعة وسنّة واكراد ) ، ومن اكبر الجنايات التي ارتكبها مؤسسو العراق الجديد انهم شرعنوا ذلك دستوريا ، من دون اي ادراك او وعي من قبل العراقيين بما حدث وبسرعة خارقة .. وتحت واجهة ” الديمقراطية ” !
اغلبنا يؤمن بالديمقراطية والتشريعات الدستورية ، ولكن على اسس مدنية حديثة تنبثق من مشروع مدني وطني يوّحد العراقيين ولا يفرقهّم ، ويشدّ أزرهم ولا يضعفهم .. وان يتعاملوا معه سياسيا بعيدا عن أية اجندة مغايرة ، خصوصا وان المجتمع العراقي قد خرج من زمن كان يمتلئ بالفراغات السياسية ، وبالمشكلات الاقتصادية ، وتجتاحه الانسحاقات النفسية ، ومؤثراتها الخطيرة جمعاء. لقد ساهمت العملية السياسية في العراق بشرذمة الوحدات الاجتماعية قاطبة ، وخلقت حالات سيئة جدا يصعب معالجتها ، ومنها ما دمّر البنية الاجتماعية تدميرا كاسحا في ظل فقدان كامل للامن ، وانتشار للارهاب ، والصراع الطائفي ، والهجرة الجماعية ، وبعثرة الاقليات ، وانقسامات المجتمع ، وكراهية الحياة ، وانتفاء الخدمات ، وانسحاق المرأة ، وتشرد الاطفال .. وهنا اتحدث عن محنة المجتمع العراقي من دون التطرق لمأساة الدولة وفساد هياكلها كلها . صحيح ان التركة صعبة ، ولكن حجم الانهيار كان مريعا جدا .
لقد ساهمت كل الاحزاب العراقية الحالية في تسويق بضاعة الاكثريات والاقليات ، كما ان الاقليات نفسها محتارة اليوم نتيجة الظروف القاسية لمن تعطي ولاءها ، فانقسمت هي الاخرى ، مما جعلها ضعيفة جدا امام سطوة الشراسة في الشارع والتي لا تعرف مصادرها اولا ، وامام هيمنة الاكثريات من المكونات الكبرى في المؤسسات ثانيا .. وكان من المنتظر ان يكون مجلس النواب سلطة تشريعية اساسية لخدمة المجتمع العراقي وضروراته ، لكنه غدا ساحة للصراعات الفردية والحزبية والطائفية والعرقية بين مختلف القوى واثارة مشكلات لا يمكن لها ابدا ان تخلق ضمن عملية بناء وطني .. وهو حصاد واضح لما جرى عمله في الانتخابات السابقة .
صحيح ان العراقيين هم في ظل هيمنة المحتل ، ولكن كان عليهم الاستفادة من تجارب وطنية اخرى في العالم مّرت بنفس المخاض ، اذ ان التوّحد ضرورة تاريخية بدلا عن اي انقسام يفّسخ نسيج المجتمع ، ومن دون اي اعلاميات فّجة ، او تصريحات غّبية ، أو اتباع سياسات تثير صراعات اجتماعية داخلية .. ومن دون اية قوى منفصلة عن ارادة الدولة وسلطة القضاء وهي تعتمد مليشياتها ومرتزقتها .. كلها عوامل خلقت فوضى عارمة يذكيها كل من بيده مقاليد القوة والمال .. ان الديمقراطية تمنح الحريات ، ولكنها تحاسب على الحقوق والواجبات .. انها لا تعمل في مجتمع تأكله التمزقات والكراهية والاحقاد والقتول .. انها لا تعمل للاكثريات لتسحق الاقليات .. انها لا تمنح الحق للمتسلطين في تهميش الاخرين .. انها لا تعدم تكافؤ الفرص لجميع المواطنين .
لقد دفع المجتمع العراقي اثمانا باهضة من حياته وتعايشه واستقراره وأمنه وموارده .. وسيبقى يدفع اثمانا اخرى ان لم يجد له طريقا جديدا نحو المستقبل ، يعالج فيه كل الخطايا والجنايات . ان بقيت الحالة هكذا ، فان مجتمعات اخرى مجاورة مرشّحة للمرور بمحنة العراق المأساوية التي اصبحت ثقيلة على الصدور ، وليس بالاستطاعة فعل اي شيئ حيالها ! ان اغلب مجتمعاتنا العربية ، تمر بمشكلات خطيرة ، ولكن ليس بحالات التعاسة التي يعاني منها العراقيون ، خصوصا ونحن نعلم ، بأن الاخطاء تولد اخطاء اكبر ، فتتفاقم مستويات منحطة من الممارسات .. ومنها ما يحكى عن انحرافات خطيرة لدى العراقيين نسوة ورجالا .. فمن ينقذ العراقيين من محنتهم اللامتخيلة أبدا ؟ ومن ينقد مدنا كاملة مما تتّعرض له من مخاطر ؟ ومن يخّلص مجتمعنا العراقي من الاوزار التي حلت به ؟ من يحمي الاطياف القديمة من الفناء ؟ من باستطاعته اخراج كل القتلة والدخلاء والغرباء ورجال مخابرات دول وجماعات ومرتزقة اجانب وارهابيين عتاة من ارض العراق ؟ .
انني اعتقد ان العلاج الحقيقي يكمن اصلا بتأسيس مجتمع مدني ، وقانون مدني ، وحياة مدنية واساليب مدنية . ان الديمقراطية لا يمكنها ان تعيش في بيئة تضادات، او في غابة من التناقضات …. مع تأسيس نظام أمني غير مسّيس ، وان يبتعد المحتل عن كل المدن اولا ، وان يباشر باصلاح الدستور لتأسيس مواطنة حقيقية صرفة .. تحترم فيها كل الاقليات ، وكل المشاعر ، وكل العقائد ، وكل الطقوس ، وكل التقاليد .. ان المجتمع لا يمكنه معرفة طريقه نحو المستقبل الا بوسائل قانونية وامنية ، ليغدو التعبير سياسيا من خلال مشروع وطني مدني وحضاري . نتمنى ان يتحقق ذلك سريعا باذن الله .

www.sayyaraljamil.com
البيان الاماراتية ، 8 اكتوبر 2008.


شاهد أيضاً

نقطة نظام ضد الفساد والمفسدين والفاسدين

ملاحظة : طلب مني عدد من الاصدقاء العراقيين ان اعيد نشر هذا ” المقال ” …