الرئيسية / تراث آل الجميل / وطننا هو العراق ـ إلى ابناء القطر العراقي ـ*

وطننا هو العراق ـ إلى ابناء القطر العراقي ـ*

الدنيا سعادة وشقاء ، والدهر يومان يوم لك ويوم عليك ، ولكل شيء زوال ، سّنة الله في هذا الكون ولن نجد لسنته تبديلاً. أيها القطر المقدس ! ايها العراق العريق : مرت عليك عصور وقرون ، وتداولته دول بعد دول ، وأجيال بعد أجيال وتقاذفتك المقادير من حال إلى حال ، فمن سعادة إلى شقاء ، ومن شقاء إلى سعادة ومن عدل إلى ظلم ، ومن ظلم إلى عدل ، ومن نور إلى ظلمات ، ومن ظلمات إلى نور ومن مدنية إلى وحشة ومن وحشة إلى مدنية.
والدهر في فلك التقلب دائر
كالبدر بين نقيصة وكمال
فأنت أيها القطر مهد العجائب ، ومهبط الغرائب ، ومدفن التاريخ حفظت لقوم أعمالاً تجل فيها الإنسانية ويهتز لها العالم ، وخلدت الآخرين آثاراً تبّيض وجه التاريخ ويبتسم لها ثغر المدنية والانتظام. لقد درست أخلاق الشعوب والأمم شعباُ بعد شعب وأمة بعد أخرى على اختلاف طبقاتهم ، وتنوع عناصرهم وعاداتهم ، فأصبحت تعد من أكبر علماء الدنيا ثم عدت إلى نفسك ودققت التاريخ وصحفه ، وحكمت وجدانك النزيه فلم تر أجمل وأجمل من العدل والإحسان والعلم والمدنية والعمران ، فطبعت نفسك على تلك الخصائل الحميدة ، ثم أردعت بالصبر إذ تقاذفتك المقادير في بحار الجهل وبين أمواج الوحشة والهمجية حيث تيقنت إن لكل حالٍ زوال.
هلم أيها الشيخ الكبير حول منصة الصدق والإخلاص فأناشدك بعض كلمات. هلم أناشدك عن سوانحك القديمة ومجرياتك السانعة ، علك تزيح أوهاماً وتحلبوا ظنوناً ثم تبعث نوراً وتولد حقيقة. هلم فقل لي مالك تتغنى وتترنم بأحاديث مجرياتك الحقة التي مرت عليها عصور وقرون فأصبحت لتقاومها كأن لم تكن شيئاً مذكوراً.
مالي أراك قد لاحت على ناصيتك تجعدات رسمتها الآلف من الأعوام والدهور وأنت تشير لنا إلى حياتك الماضية محنياً رأسك تبجيلاً لها وتعظيماً ، قد أشغلت موقع المتفلسف ووقفت وقفة خيال متفرس تبحث عن الليالي المنصرمة خلال الأحداث القديمة الضاحكة طوراً من تبادل الأضداد وأخرى من تزاحم الأجساد وقد أخذت تعدد شئون الأدوار المتوالية السالفة والعهود الغابرة سفراً بعد سفر وصحيفة بعد أخرى ثم تندب عهد الرشيد والمأمون والأمين وتبكي والإبكاء للثكالى بين القبور.
رويداً رويداً ، فقد أقشعر جسدي ، وطار لبي ، وخفق قلبي وخلت إن البسيطة قد اهتزت وربت خشيةً من نفثات فمك إلتى تذكر أنين الأموات تحت صفائح اللحود.
نعم لقد كانت رياضك زاهية ، وحياضك جارية ، وبلابل روحك مغردة تمطر سمائك ذهباً وتسيل أوديتك فضة وقد أشرقت عليك شموس العلم والمدنية وأنت تائه على الأقطار الباقية فخراً وعجباً ولكنك لم تلبث في تلك الحياة السعيدة زمناً طويلاً إلا وغاضت الحياض ، ونزحت العيون ، وذوت الرياض ، وتقصفت الغصون وأصبحت أرضك تسقى بالدماء وتزرع بجثث البشر وأنت رغم انطباعك على تلك الخصال الحميدة تتنفس الصفراء ، ولا تستطيع أن تتفوه ببنت شفه ، وهب استطعت الشكوى فما في الديار مجاوب ولا ناهد ولا معاضد .. إذاً كفاك إيها القطر المقدس كفاك تلك مواعظ وعبر لمن تفكر فأعتبر. رويدك لا تيأس من رسم ذلك المجد الشامخ والعز الباذج فكأني أرى الآمال الذهبية قد مدت لك خيوط الرجاء العالي من أفلاكها لتأخذ بك من الحضيض إلى أوج العلا والارتقاء وتفكر قول شاعرك الكبير:
إِن دهراً يذل كل عزيز
هو دهرٌ يعز كل ذليل
مضى زمن التنويم وقد باتت الأحداق تسهر عليك أيها الشيخ الكبير وقد أشعرت أبناءك بحاجتهم إلى الحياة الجديدة وهيهات يعذرون أن ونت أو قصرت عزائمهم عن نيل ما يؤملون من السعادة وتؤمله. نعم ، شعروا بأن لبلادهم حقوقاً عليهم تطالبهم بها كل حين وزمان .. شعروا بحاجتهم إلى عالم يدعو إلى العلم وحكيم يصدع بالحكمة وتلك أصواتهم قد ملئت فضائك ينادونك لبيك لبيك ها نحن أبناؤك العائشون بين أطلالك لقد نفضنا غبار الذل والكسل وتحركت عروقنا وهاجت دماؤنا وقمن لمعاضدتك فأبشر بسعادة دائمة وعزٍ لا يعتريه زوال.
فعزاء لك أيها القطر العراقي المقدس فيما مضى لك من الحياة بين الجهل والظلمة والشقاء وهناء لك بمستقبلك الذهبي الوضاء البازغ فجره.

* نشرت في مجلة النادي العلمي ، العدد 3 ، المجلد الأول ، في 16 جمادى الأولى 1337 هـ الموافق 15 شباط 1919 م.

شاهد أيضاً

يا نجوماً

(نظمها بالفرنسية ) ثم ترجمها الى العربية   صورة  للقصيدة بخط يد الشاعر يا نجوماً قد …