الرئيسية / افكار / أزمة اخلاقيات كونية جديدة !

أزمة اخلاقيات كونية جديدة !


المغزى .. والمفهوم
سيدخل العالم قريبا جدا مرحلة تاريخية جديدة من مراحل القرن الواحد والعشرين ، وسيترك وراءه مراحل القرن العشرين باجيالها الثلاثة .. وستختلف المجتمعات في العالم كله ، عمّا كانت عليه سابقا ، بالرغم من ان المتغيرات دوما ما تكون بطيئة ، الا ان الانسان الذي شهد الماضي القريب ، وعاش على الاقل النصف الثاني من القرن الماضي ، سيمكنه تفكيره وتأمله ومقارنته من رؤية مستوى التحولات في عالم الانسان الذي يمثّل كل من الدولة والمجتمع معا في كل ممارساته واخلاقياته ، تصرفاته وعلاقاته ، افكاره وتجاربه وتطبيقاته . ان الانسان ـ على العموم ـ ، وكما يكتب اغلب الباحثين ، انه يدخل ازمة اخلاقيات كونية جديدة لم يعرفها في السابق ابدا ! انه يدخل عالما معقدا جدا من العلاقات الانتاجية والاستهلاكية معا .. انه يقف على حدود صراع بشري عولمي بين شمال وجنوب .. انه سيعيش ظواهر خطيرة ، وكبيرة ، ويواجه كل قساوتها وتداعياتها .. انه سيغترب كثيرا عن فلسفاته واشعاره ، بل وحتى احاسيسه ومشاعره .. انه سيناضل من اجل الابقاء على لائحة مبادئ حقوق الانسان في ظل متغيرات كاسحة .

من صراع القوتين الى استقطاب القوة الواحدة
ان الحرب الباردة وبضمنها عهد الوفاق بين العالمين السابقين قد انتجتا عند التخضرم بين قرنين نتائج اساسية ومهمة سأقتصر على ذكر اثنتين فقط ، اولاهما ، ان مكانا تافها في العالم كان يمتلك اهميته بسبب ان صراعا بين القوتين الاعظم كان بالامكان حصوله فيه ، وكان ذلك الصراع قد حصل على حساب ثروات الشعوب وتقدّمها . وثانيهما ، ان الغرب كان يسعى لتأمين رفاهية مجتمعاته ، ويطّور آليات منتجاته ، ويسعى لمد نفوذه وقوته وشركاته ورؤوس امواله كي يقهر منظومة المجتمعات الاشتراكية التي لم يعد باستطاعتها تأمين الغذاء ومستلزمات الحياة العادية على الطرق الغربية نتيجة لعوامل داخلية وخارجية ، ذاتية وموضوعية . وهكذا ، فان الصراع كان قد غدا مكشوفا : سياسيا واعلاميا وتسلحيا واقتصاديا .. ليغدو اخلاقيا بين الجانبين وليصيب الانسان في الصميم على وجه الارض .. فجأة يبدأ الانهيار حسب قاعدة ضربة الشطرنج بسقوط جدار برلين ، ويتكلل بانتصار الغرب. وعندئذ غدت الولايات المتحدة الامريكية ( سوبر باور ) العالم كله مستقطبة كل المجالات الحيوية ، وهنا تغدو الدول الصغرى مجرد كائنات تافهة بالنسبة لها ، ويخفت التعاون الا وفق الخطط التي ترسمها مصالح القطب الواحد .

ولادة التوحش الانساني
لو سألنا أنفسنا : ما السر الذي يكمن وراء اختفاء اخلاقيات ما تضمنه الاعلان العالمي لحقوق الانسان في القرن العشرين ؟ والذي كان يعنى ببلورة اخلاق كونية تنطبق على جميع شعوب الارض ، وان مضامينه تؤكد على احترام كرامة كل انسان على وجه الارض بغض النظر عن جنسه وارضه ، اصله وفصله، او عرقه ولون وجهه ، او دينه وطائفته الخ .. ولكن بدأنا نتلمس تأسيسا من نوع جديد يقوم على اساس تقسيم العالم شمال جنوب .. وبدأنا نتلمس التوحش في التعامل وبدايات تكوين اخلاقيات كونية من نوع جديد ، لا تستقيم ابدا ومبادئ حقوق الانسان .. بل وبدأنا نرقب استخدام العامل الانساني غطاء مجردا من الاخلاق ، وغدا يستخدم مادة مستلبة في القذارات السياسية ! ان الانسان اليوم قد تغّير كثيرا عمّا كان عليه في السابق ، اذ تبدلت اخلاقياته كثيرا في كل مكان من هذا الوجود .. بدأت الثقة تفتقد كثيرا عما كانت عليه سابقا بين الناس ، وازدادت المافيات والجماعات المارقة في مجتمعات اليوم ، وهي تتصرف ضد القانون بشكل متفاقم الاخطار لما كانت عليه سابقا في القرن العشرين .. وازداد التوحّش في التعامل بين القارات .. ربما لم تنته مفاصل الشرق والغرب بعد ان ودعنا عصر الاستعمار الكولينيالي والامبريالي ، ولكن التوحش يتبلور اليوم بين شمال وجنوب وعلى اسس اقتصادية اكثر منها سياسية ، وربما تختفي عوامل استراتيجية غير منظورة اليوم .. لم تعد المجتمعات هادئة كما كانت من قبل ، بل تبدو متحركة ومختلطة وتهددها الفوضى . ولم يعد العمال طبقة بروليتارية في مجتمع صناعي تصارع من اجل نيل فائض القيمة ، بل غدت الايدي العاملة من اثمن ما يكون في السوق العالمية .. لم تعد الطبقة الاستقراطية منحسرة بعدد معين من اصحاب رؤوس الاموال في اي مجتمع ، فلقد تنامى عدد هؤلاء ليس في العالم كله ، بل في كل مجتمع باستحواذ البعض على مصادر النفوذ والمال والقوة .. ويبدو هؤلاء في عرف المحللين والدارسين مجرد طفيليين في المجتمع !

العدالة تتناقض مع عالمين اثنين
يقول الفيلسوف الامريكي الراحل جون رولس صاحب «نظرية العدالة» الشهيرة، وهو وريث شرعي لكانط وجان جاك روسو. انه مفكّر واقعي لا يطالب بالمستحيل ، وهو لا يدعو الى الغاء الفوارق الطبقية الاجتماعية او بين البشر، وانما يدعو الى تقليصها فقط، فالعدالة في نظره لا تعني ان كل الناس يمكن جعلهم اغنياء بنفس الدرجة، وانما تعني ان الفقراء ليس لهم ما يأكلونه . ان الانسان اينما كان له الحق في هذا الوجود ان يحيا حياة كريمة ، وعنده الحد الادنى من الطعام والشراب والملبس والسكن والدواء والعلاج .. الخ، وبالتالي فان المفهوم الجديد للعدالة يتناقض تماما مع النظرية الشيوعية او الحياة الاشتراكية التي لا يتفق ابدا مع قوانينها ومناهجها ، واعتقد ان اراءه ضدها تحمل اجحافا كبيرا . المهم هنا ، ان الرجل يتناقض ايضا مع العولمة الجديدة التي يسميها حالة جائرة جدا من الرأسمالية المتوحشة التي شاعت بعد انهيار الاتحاد السوفييتي ، ولم يقتصر الضرر منها على الدول والكيانات السياسية فقط ، بل ضربت كل مجتمعات الدنيا من جرائها ، والمصيبة كما يقول ان الليبراليين الجدد لا يتطرقون اليها ، فهم يصفقون باتجاه واحد ! من يتصفح برنامج الامم المتحدة للتنمية لكل عام ، وهو الذي يتحدث عن وضع مختلف دول العالم في كل سنة ، فسيخرج مذهولا نتيجة اتساع الهوة التي تزداد يوما بعد آخر بين الاغنياء والفقراء بدلا من ان تنقص والاحصائيات الرسمية واضحة بهذا الخصوص. فايطاليا مثلا اغنى من جميع الدول العربية بعدة مرات بما فيها الدول البترولية.. لنضرب امثلة اخرى على مدى اختلال التوازن في توزيع الثروة بين الشمال الممثل الحقيقي لعالم الاغنياء ، وبين الجنوب ممثل الفقراء بشكل عام ، فسنجد ان هناك 225 مليارديرا في العالم تبلغ ثروتهم الاجمالية الف مليار دولار.. هذا المبلغ يعادل ما يحصله 5,2 مليار من سكان البشرية ، اي بمعنى ان 225 شخصا ، هم اغنى من ملياري ونصف شخص من ابناء البشرية !

من المسؤول اليوم عن الازمة ؟
ان العالم كله يدرك من هو المسئول الحقيقي عن تبدل الاخلاقيات على مدى مائة سنة ، وعن خراب العالم . وقد بدا الانسان منتجا مستغلا ، او مستهلكا عبثيا ، او شبحا اكلته الحروب والكوارث والمجاعات .. وبالضرورة ، فان عالم الجنوب هو المكتظ سكانيا ، وهو الذي يعاني وستزداد معاناته مع توالي الايام والسنين في ظل اخلاقيات كونية جديدة ، لا تعرف الا الحرب الاقتصادية ، والاستثمارات الوهمية ، والمضاربات في العملة ، وهيمنة الشركات الكبرى ، والتخطيط لخنق اقتصاديات معينة ، وعمليات غسيل الاموال ، واستقطاب ثروات هائلة في البنوك لدول وافراد .. وفرض اجندة على الغذاء والماء والدواء .. والتلاعب باسعار المحروقات ، وتخفيض سعر الدولار .. الخ من السياسات التي ستأخذ العالم كله رهينة نظام اقتصادي جديد لا يعرف الا الاخلاقية الكونية للمصالح الاحادية لطرف واحد على حساب كل العالم الذي يتقهقر شيئا فشيئا !

العالم يتقهقر شيئا فشيئا !
وهذا ما يراه المفكر الهندي فاندانيا شيفا في رؤيته المستقبلية لعالم الجنوب ، فهو ينتقد النظرية الرأسمالية الجديدة التي تقول بأن التجارة الحرة تؤدي الى ضمان الحرية في المجال السياسي وسواه. ولكنه يقول بأن العكس هو الصحيح ، ذلك ان التجارة الحرة هي التي تحرمنا من الحرية في عالم اليوم لا يجد امامه الا الصراع بين الشمال والجنوب ، وستكون الخيبة والخسران من نصيب عالم الجنوب . ان عالم الجنوب يتقهقر شيئا فشيئا بملايين البشر التي تعيش بلا اي انتاج وعلاقات انتاج .. انها افواه لا تقبل الا الاستهلاك مع ازدياد المجاعات والمشكلات والامراض . ان دولا بترولية ستضمحل مجتمعاتها ان نضب البترول منها ! ان منطقة الشرق الاوسط ، وهي اقرب منطقة الى اوربا جغرافيا كانت ولم تزل تعاني من صدمات تاريخية وحضارية متنوعة ، وهي اليوم ضمن مناطق صراع الجنوب ازاء الشمال .. وتبدو مجتمعاتها تعيش هي الاخرى فوضى من التناقضات وغياب المستويات وتقلّص النخب وغيبوبة الانتاج وتفاقم الصراعات .. انها تعيش في عالم متغيرات غير ايجابية على الاطلاق وبفعل سياسات واجندة واعلاميات وتربويات .. لا تخلق الا الانقسامات وتبدد الارادات وتعدد الولاءات لثقافات متوحشة وظواهر لم يكن لها وجود في حياتنا واخلاقياتنا سابقا !

واخيرا : هل من افكار جديدة ؟
وعليه ، فان ظواهر غريبة قد حدثت ، او في طريقها للتبلور والحدوث مستقبلا ، ومنها ظواهر : الارهاب ، والمافيات ، والمليشيات ، والحراسات ، والطفيليات ، والقطط السمان .. مع وجود وتفاقم الانقسامات والحروب والطوائف والتشظي الى انتماءات لا حصر لها .. فإذا كان عالم الشمال بزعامة امريكية يريد فعلا القضاء على الارهاب ـ مثلا ـ ، فما عليه الا ان يعيد التوازنات ضمن مبادئ حقوق الانسان واخلاقيات الانسان ، ويقضي على التفاوت الهائل بين البشر ، وان يبتدئ باصلاح خلل النظام العالمي لكي تستفيد مجتمعات العالم قاطبة من ثمار العولمة .. وان يتساوى الجميع في فرص التعليم وفرص العمل والتأمين الصحي والخدمات والسكن .. وان يؤخذ بأيدي جميع المبدعين في كل المجتمعات .. وان لا تخلق الحروب خلقا في مجتمعات على حساب نمو وثروة مجتمعات اخرى .. وان يسمح لكل المجتمعات بالعمل والانتاج قبل ان تستلبها الفوضى الخلاقة ! وان ارادت الدول والحكومات ان تبعد مجتمعاتها عن كل الاخطار ، فليس لها الا ان تجدد في قوانينها ، وتغّير في مناهج تربوياتها ، وتصلح اوضاعها السياسية .. وعلى المجتمعات ان تناضل من اجل كسب حقوقها ، والتمتع بحرياتها ، وتأمين واجباتها ، وان تعتمد على ابنائها في بلورة افكار واساليب جديدة ، ومن ثمّ ترسيخ آليات فكر وعمل تتواءم وتنسجم مع ضرورات المستقبل .

www.sayyaraljamil.com

ايلاف ، 3 آب / اغسطس 2008

ملاحظة : في حالة اعادة نشر المقال في اي موقع ، يرجى ذكر المصدر .. مع الشكر

شاهد أيضاً

مطلوب لائحة اخلاق عربية

تعيش مجتمعاتنا العربية في حالة يرثى لها، لما أصابها من تفكك سياسي جعلها تتمزق اجتماعيا، …