الرئيسية / الشأن العراقي / ابراهيم الداقوقي.. رحيل مثقف عراقي قبل الاوان

ابراهيم الداقوقي.. رحيل مثقف عراقي قبل الاوان

رحل فجأة عّنا قبل ايام الصديق الدكتور ابراهيم الداقوقي الذي يقيم في النمسا منذ سبع سنوات .. والاستاذ الداقوقي ابن بلدة داقوق قرب مدينة كركوك ، عرف باحثا واستاذا واعلاميا وكاتبا ومترجما عراقيا بارزا .. لقد عرفت الفقيد منذ زمن بعيد وعرفت فيه خصال المعلم ، وهمة المثقف ، ودقة الباحث ، واخلاص المربي ، وحرفة الاعلامي .. كان قد اسس مركز دراسات الاعلام في النمسا بعد ان كان قد هاجر من العراق الى تركيا ومنها الى فيينا عام 2000 .. وكنت اسمع عنه انه من النشطاء العراقيين القلائل في الجالية العراقية في النمسا .. وكانت مراسلاتي معه لم تنقطع مذ بدأت قبل اكثر من عشرين سنة حول التاريخ والادب وما اسداه لي من معلومات عن الشاعر العراقي الكبير فضولي البغدادي ( 1481 – 1556 ) الذي عاش في العاصمة استانبول قبل قرون وغدا اشهر مثقف في العصر العثماني ابان حكم السلطان سليمان القانوني الذي حكم للفترة 1520-1566 .. وفي فيينا ، حرص الداقوقي على نشر مقالاتي منذ العام 2002 .. كنت قد التقيته بالعراق لأكثر من مرة ، ثم في تونس ، وفي آخر لقاء معه كان ببيروت ونحن نشارك في واحد من المؤتمرات الفكرية ، وقد اخذنا الحديث في امور شتى سياسية وتاريخية وكان يبحث عن ناشر لواحد من كتبه .
هذا الرجل الذي افتقدته الثقافة العراقية كان شعلة من حيوية ونشاط ، ولم يكن يهدأ ولا يهجع اذ كانت الثقافة شاغله والاعلام من همومه .. وكان العراق يعيش في ضميره ووجدانه ، ولم يكن بلا خصوم كالعادة التي عرفناها عن اي مثقف بارز من العراقيين .. علما بأنه لم تهمه التهم التي كانت توجّه اليه من اقرب العراقيين في العراق وخارجه .. وقد حكى لي انه قد سجن قرابة ثلاثة اشهر في سجن ابي غريب بتهمة المس بالنظام السابق ، اذ كان قد وشى به احد زملائه ، وكان قد احسن اليه كثيرا !! لقد كتب الكثير ، وكنت احد الذين قرأوا كتابه عن صورة العرب لدى الاتراك قبل نشره .
كان الداقوقي من مواليد داقوق في العراق عام 1934 من اب تركماني وام كردية ، لكنه عشق ثقافته العربية واحبها حبّأ جمّا ، درس في مدرسة داقوق ايام صباه ، وتخرج في ثانوية كركوك 1948 – 1952، ثم نال دبلوم اللغة العربية بتفوق 1953 – 1954 من الدورة التربوية للمعلمين بكركوك – العراق ، وعمل بداية في التعليم ثم مترجما في وزارة الارشاد عام 1960 والاعلام ، والثقافة ، والدبلوماسية والحياة الاكاديمية .. كتب قصصا قصيرة عند مطلع الستينيات ، ثم اصدر مجلة ( التراث الشعبي ) ببغداد عام 1962 كأول دورية فولكلورية عربية وكان هو منشئها الاول ، ثم غدت المجلة بعد ذلك بيد الاستاذ علي الخاقاني ، ثم انتقلت الى يد الاستاذ لطفي الخوري حتى غدت من اصدارات وزارة الثقافة والاعلام ببغداد ..
أصبح الداقوقي بعد ذلك رئيسا لهيئة رقابة المطبوعات خلال 1964. ثم تم تعيينه في العام 1966 ، ملحقا صحفيا في السفارة العراقية بأنقرة ، وعمل هناك إلى العام 1972 ، وخلال وجوده هناك درس الحقوق بالقسم المسائي في جامعة انقرة .. ثم سجّل في قسم الدكتوراه بكليتي الاداب والقانون وعاد الى العراق عام 1972 بحكم انتهاء عمله قبل ان يكمل دراسته فعين مديرا للصحافة في وزارة الاعلام عام 1972 .. وقد نقلت خدماته الى قسم الدراسات الشرقية بكلية الاداب جامعة بغداد عام 1974 ليدرس اللغة والادب التركيين بعد فترة اعتقاله ..
عاد الى تركيا ثانية ليحصل على شهادة الدكتوراه بالاعلام عام 1975 وكان موضوع اطروحته ( حرية الاعلام في الدساتير العراقية ) ، وقد قال لي ان رسالته عن الشاعر فضولي البغدادي وديوانه العربي المفقود قد تأجلت لاسباب سياسية ! وانتقل الى قسم الاعلام بجامعة بغداد واصدر جريدة الاعلام الاسبوعية عام 1976 عن قسم الاعلام للطلبة ، ثم اصدر مجلة ( حوليات الاعلام ) عام 1981 واصبح رئيسا لقسم الاعلام عام 1982 .. وقد حدثت مشاكل عدة بينه وبين زملائه قادت الى عدم ترقيته الى درجة الاستاذية بسبب قانوني تمسكت به الجامعة والذي يقضي باختلاف تخصص شهادة الدبلوم مع تخصص شهادة الدكتوراه ، وعبثا ذهبت محاولاته ادراج الرياح .. فاحيل الى التقاعد عام 1985 ..
قام بتأسيس مطبعة ودار نشر ( الفنون ) ببغداد عام 1987 ، وكان يلقي محاضراته هنا او هناك ، ثم هاجر الى تركيا في بداية التسعينيات اثر حرب عاصفة الصحراء على العراق واستقر فيها وتردد على جامعة مرمرة باستانبول ، ثم عمل في مؤسسة وقف التركية وشارك في التصحيح اللغوي لموسوعتها ونشر بعض ما كان قد كتبه عن الشاعر العظيم فضولي البغدادي من مواد تعب عليها .. وفي العام 2000 ، طلب حق اللجوء السياسي الى فيينا واسس عام 2003 ( المركز الاكاديمي لدراسات الاعلام وتواصل الثقافات ) ، وترأس تحرير مجلة اسسها باسم ( عالم الغد ) الفصلية .. كان الداقوقي قد نشر عشرات المقالات وقام بتأليف وترجمة عدد كبير من الكتب المتنوعة ..
لقد نشر الصديق الراحل عدة اعمال منها ما يخص العلاقات العامة في البلدان النامية وعن الانظمة الاذاعية في العالم ، وعن قانون الاعلام .. ودرس حرية الاعلام في الدساتير التركية ، وتفرغ لدراسة صورة العرب لدى الاتراك ، ونشر كتابه المهم عن اكراد تركيا .. ونشر عن القواعد الاساسية للغة التركية ومن اهم اعماله ايضا : دراسته المتميزة عن فضولي البغدادي وديوانه العربي المفقود ، وهو بحث ارسله لي منذ سنوات استفدت منه كثيرا ، فضلا عن المعجم التركي العثماني العربي باربع مجلدات .. فضلا عن ترجماته العديدة لعدد من الكتب التركية المتميزة والمهمة .. قلت له في مرة من المرات : بان جهدك لو انصب على دور المثقفين والمبدعين العراقيين لمن أتى من بعد فضولي في الثقافة العثمانية ، لكان ذلك أجدى بكثير من بعثرة جهد هنا وجهد هناك .. فمن يبحث في شاعر الترك الاعظم فضولي البغدادي ، ينبغي ان يبحث عن غيره من المبدعين العراقيين الذين ساهموا في اثراء الثقافة العثمانية ابان القرنين السادس عشر والسابع عشر الميلاديين .
ان تفحصا دقيقا في اعمال الرجل وترجماته وجهوده ، مع تأمل طويل في الذي نشره الرجل على امتداد قرابة اربعين سنة تدلنا هذه وتشير لنا تلك بأنه كان احد المساهمين في رفد الثقافة العراقية الحديثة باهم الاعمال ، كما اسعف المكتبة العربية بالعديد من المراجع التي لا يستغني عنها العدد الكبير من المهتمين والدارسين .
وأخيرا ، لابد لنا ان نقف دقيقة واحدة حدادا على غياب احد ابرز المثقفين العراقيين المحدثين الذين اسهموا بخدماتهم الثقافية والاعلامية والاكاديمية في داخل العراق وخارجه خدمة للعراق والعراقيين .. لقد قضى الاستاذ ابراهيم الداقوقي في النمسا وهو بعيد عن ارضه وترابه وكان في عز حيويته ونشاطه .. وستبقى ذكرى هذا المثقف الراحل حية بيننا لن تغيب .

www.sayyaraljamil.com

الف ياء ، 21 يناير 2008

شاهد أيضاً

نقطة نظام ضد الفساد والمفسدين والفاسدين

ملاحظة : طلب مني عدد من الاصدقاء العراقيين ان اعيد نشر هذا ” المقال ” …