الرئيسية / حوارات / جادة حوار عراقي.. مقاربات ومباعدات بيني وبين الاستاذ الدكتور كاظم حبيب (الحلقة السابعة)

جادة حوار عراقي.. مقاربات ومباعدات بيني وبين الاستاذ الدكتور كاظم حبيب (الحلقة السابعة)

العراق : مشكلات مجتمع واخفاقات دولة !!
مقدمة
اعود اليكم والى الصديق الدكتور كاظم حبيب لاكمل حواري معه ، متمنيا ان اكمله بالسرعة الممكنة ، اذ لم يتبق الا ثلاث او اربع حلقات اخرى ساعالج فيها ما ورد من نقاط اساسية يستوجب التوقف عندها لتوضيح رأيي فيها وسواء اتفقنا ام اختلفنا ، فانني اكن كل المودة والاحترام لمن اخالفه ويخالفني بالرأي ، اذ انني اؤمن ايمانا عميقا بأن واحدا او اثنين او حتى نخبة او مجموعة من النخب لا يمكنه ويمكنها ان يغّير كلامهم التاريخ والواقع .. كما اؤمن ايمانا عميقا بأن الحقيقة لا يمكن ابدا ان يمتلكها واحد فقط حتى ولو كان صاحبها ، فكيف له ان يحتكرها لنفسه من دون ان يفسح المجال للاخرين ان يقولوا كلمتهم فيها ، والفرق كبير بين المعلومة والرأي ، تلك قابلة للخطأ والصواب وهذا قابل للاخذ والرد ..ان الحياة نسبية ولا يمكن ان تكون الامور فيها مطلقة ابدا ، وسواء اصبت ام اخطأت فذلك لا يغير شيئا من ثقافتي ومكانتي ، بل يزيد من تجاربي ومعلوماتي ..
انني احّي سجايا الاخ الدكتور كاظم حبيب والتزامه الاخلاقي وصدره الرحب في تقّبل ما اكتبه ، وسواء اتفق معي او اختلف فانني اعلن للناس جميعا ان حوارنا هذا بالرغم من تشعباته وخلجانه وتباين مضامينه ومقارباته ومباعداته بيني وبين الرجل ، الا اننا لم نزل نتبادل الرسائل الشخصية ويتفقد احدنا الاخر .. ان اسلوبنا هو نهج جديد من صيغ الحوار النزيه البعيد كل البعد عن المهاترة والتعابير الشائنة التي تزدحم بها مع كل الاسف ساحتنا العراقية وثقافتنا العربية المعاصرتين.. واتمنى من صميم القلب ان يبقى الاختلاف بين اثنين يحتكما للعقل دوما فيجدا ان الاجماع العام هو سيد الموقف .

الرد على الاحكام الرائجة حول الدولة العثمانية
يختتم الدكتور حبيب الحلقة الاولى من حواره بالفقرة التالية : ” ففي الدولة العثمانية سيطر في فترات معينة الإقطاع العسكري وإقطاع النخب الحاكمة والميسورين من جهة, والتعصب الديني والمذهبي من جهة أخرى, والتمييز القومي من جهة ثالثة, إضافة إلى العشائرية ودور شيوخ الدين الرجعي, على حياة البلاد العربية في ظل هذه الدولة الثيوقراطية المتخلفة. ورغم مرور ما يقرب من تسعة عقود على انتهاء تلك الفترة المظلمة التي دامت قرابة أربعة عقود, ورغم محاولات التحديث والتجديد, فأن آثارها وبصماتها الفكرية والسياسية لا تزال فاعلة في العقلية العربية وفي السلوك السياسي العربي ” .
انني اتفق مع الدكتور حبيب حول الذي ذكره بصدد الاقطاع العسكري العثماني ، ولكن اسجل في ادناه بعض ملاحظاتي على بعض ما جاء في النص :
1/ صحيح كانت هناك اقطاعات لنخب حاكمة ، ولكن ليست مشروطة الا قبل اصدار قوانين الاصلاحات العثمانية في القرن التاسع عشر .
2/ لقد انتهى الاقطاع العسكري اثر اصدار قانون الاراضي الجديد في العام 1856 ، واخذت التقسيمات صيغا اخرى من العلاقة بين الملاكين والفلاحين ببروز الاراضي الميرية ( او : الاميرية ) ..
3/ لم يكن هناك تعصّب ديني من هذه الناحية ولا من النواحي الاخرى ، اذ تمّتع المسيحيون واليهود بدرجة متميزة وبمكانة لائقة في مجتمعاتهم ، وحوفظ على كنائسهم ، بل وكانت الدولة العثمانية حامية لليهود السيفاردم الذين اضطهدهم الكاثوليك في اوروبا شر اضطهاد .. وفي العراق كانت لبعض المسيحيين املاكهم من دون اي مسائلة ويكفي مثلا ان منطقة زيونة ببغداد كانت من املاك عائلة زيونة المسيحية ، وعائلة عبو اليّسي تمتلك غربي مدينة الموصل.
4/ لم تحجر الدولة العثمانية على رؤساء العشائر الشيعية التملك للارض ، اذ قام بتسجيل جملة هائلة من الاملاك والاراضي العشرات من الملاكين الشيعة الكبار .. ويكفي ان الاف الدونمات الاميرية امتلكها شيوخ العمارة والكوت والمشخاب والديوانية والناصرية وهم من الشيعة منذ القرن التاسع عشر .. ويكفي ان السيد عبد الهادي الجلبي كان يمتلك اقطاعات واسعة تمتد من الكاظمية الى اللطيفية ، وكان ان قطّعها وباعها وانشأ مدينة الهادي عام 1954 التي اسميت بمدينة الحرية بعدئذ . وكان الرجل قد ورث تلك ” الاراضي” عن ابيه عبد الحسين الجلبي رئيس بلدية الكاظمية سابقا .
5/ اما التمييز القومي ، فانا مخالف لهذا ايضا ، اذ ارجو ان يرجع من يعارضني الى دفاتر الطابو العثمانية ويدقق فيها ، لنصفق له ان اكتشف ان تمييزا قوميا قد حصل في تاريخ العراق الاقتصادي ، ان من يستوطن العراق يصبح عراقيا ، فمن حقه ان يتملك فيه .. وان كل الارض والعقار والاموال غير المنقولة كانت لعراقيين عرب واكراد وتركمان .. مسلمين ومسيحيين ويهود وصبة مندائيين.. ان التمييز القومي جرى في اداة الحكم والادارة فقط ، فلم نجد في حكم العراق ولا في تسيير ادارته من ولاة ووزراء اي عرب او كرد او تركمان او غيرهم . لقد كان الحكام اتراكا او جراكسة ياتون من المركز او من ادارة ولايات اخرى مباشرة . لقد جاء التمييز القومي مع سياسة التتريك التي اتبعها الاتحاديون اثر انقلابهم الشهير عام 1908 .
6/ واختلف ايضا بمسألة العشائرية وتأثير رجال الدين الرجعي .. ذلك اننا عندما نحاكم تاريخيا انظمة القرن التاسع عشر ، علينا بادراك ما الذي كان عليه العالم عصر ذاك .. فاذا كانت العشائرية وتأثير رجال الدين لم يزل قويا حتى اليوم في القرن الواحد والعشرين ، فمن غير العدالة ان نعتب على الدولة العثمانية او القاجارية او محمد علي باشا بمصر او الحسينية في تونس او العلوية في المغرب او الزيدية في اليمن وغيرها ان تلغي ذلك من قاموسها !
7/ وصف الدكتور حبيب الدولة العثمانية بالدولة الثيوقراطية المتخلفة ، وهو وصف اقبله منه لأن معظم من قرأ تاريخ هذه الدولة على عجل وصفها بذلك .. والحقيقة ، انها دولة امبراطورية امتلكت نظما سياسية وادارية واقتصادية متنوعة آسيوية واوربية ومتوسطية على امتداد ستة قرون ونصف القرن ، وكانت توازن بين السلطة الزمنية والدينية فهي ليست ثيوقراطية دينية ابدا ، اذ لم تكن دولة خلافة او امامة اسلامية ثيوقراطية ، بل كانت دولة سلطنة دنيوية اتوقراطية ترسخت بقوانين جددتها على امتداد ستة قرون ، فالسلطة العليا بيد السلطان والصدور العظام وليست بيد شيخ الاسلام ( = مفتي الدولة ) ، وما محاولة السلطان عبد الحميد الثاني لاحياء الخلافة الاسلامية باسم الخلافة العثمانية الا مشروع متأخر لم يلق اي نجاح ولا تطور .
8/ كنت اول من اشار الى التركة التاريخية العثمانية وتأثير مواريثها في المجتمعات التي كانت في اطارها .. ولقد استمرت تلك المواريث على امتداد القرن العشرين وخصوصا في المجتمعات العربية التي استمر الحكم العثماني فيها اربعة قرون ، واتمنى على القراء والمتابعين الكرام الاطلاع على كتابين نشرتهما قبل سنوات حللت هذا ” الجانب ” من مواريث العثمانيين لدى كل شعوب المنطقة ، اولاهما : العثمانيون وتكوين العرب الحديث : من اجل بحث رؤيوي معاصر ، بيروت 1989 ، وثانيهما : بقايا وجذور : التكوين العربي الحديث ، بيروت ، 1997 . ولعل من اسوأ تلك المواريث جملة من الظواهر الاجتماعية المأساوية التي عاشتها مجتمعاتنا في القرن العشرين ، ولم يكن حّلها سهلا ابدا حتى يمكنني ادانة اي مسؤول من المسؤولين الذين حكموا العراق .. مع حدوث اخطاء واسعة من قبل كل من الدولة والمجتمع معا .

ملاحظات نقدية حول المعرفة العراقية
انني اعتز جدا بـ ” المعرفة العراقية ” كوني أحد ابنائها الذين تلقوها عن شغف وحب وعشق لا متناه ابدا ، وانني اعترف بأنها كانت من افضل ما قدّمه اي مجتمع في المنطقة من دراسات وابحاث ونتائج ، ولكن ليسمح لي الاخ الدكتور كاظم حبيب وكل الاخوة الزملاء العراقيين ( متمنيا ان يتفقوا معي ) بالقول ان المعرفة العراقية كانت قد انتكست منذ زمن طويل ، وخصوصا ما يتعلق بشؤون العراق الخاصة ومعرفة ظواهره كاملة لأكثر من سبعين سنة .. ان العلوم الاجتماعية العراقية ، خصوصا ، لم تلق رعاية كافية في جزئياتها ، اذ وقفنا على موضوعات كلية من دون فحص دقيق للجزئيات ، وزاد الضرب على العموميات دون الخصائص والشموليات على الدقائق .. لقد حاربت السلطات الحاكمة في العراق منذ اربعين سنة المعرفة العراقية حربا لا هوادة فيها ، انني اعترف بأن اول تأسيس لعلم الاجتماع في الشرق الاوسط كان في العراق ، ولكنه العلم الوحيد الذي حورب بشتى الوسائل وخصوصا في العهد السابق بحيث هرب العلماء ليكتبوا في موضوعات عامة .. وانكمش علم الانثربولوجيا كثيرا .. ولم يقّدم الاهم على المهم ، انني اعترف بأن دراسة الدكتور شاكر مصطفى سليم عن ( الجبايش ) مهمة جدا ، ولكن لم تعالج تقاليد وعادات اهل الصرائف مثلا .. بل واهملت معالجة موضوعات الاقليات الدينية كاملة وبشكل تفصيلي واكاديمي واضح المعالم ! ونال علم التاريخ اهمية فائقة في العراق عند رجالاته السابقين ، ولكن ناله التزوير والتشويه كثيرا وبشكل لا يتصوره اي محايد واسع النظرة ، بل واستخدم وسيلة للهيمنة والتمجيد والتقديس لفئة على حساب فئة اخرى ولسلطة الحاكمين .. صحيح ان موضوعات مهمة جدا قد عولجت في اروقة الجامعات العراقية والاجنبية ، ولكنها بقيت بعيدة عن النشر وباشكال متعمدة .. لقد حوصرت المعرفة العراقية كثيرا على امتداد الخمسين سنة الاخيرة وبشكل لا يصدق .. وطغت النزعات الايديولوجية والشخصية والفئوية والحزبية والسياسية عليها ، بل وحوربت المناهج المختلفة باساليب لا هوادة فيها باسم المبادئ والقيم والتقاليد والنزعات القومية .. ان رجالا من الافذاذ العراقيين ما كانوا ليكتبوا اعمالهم الممتازة لو عاشوا في النصف الثاني من القرن العشرين ، ومنهم ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ الدكاترة : متى عقراوي ومجيد خدوري ومصطفى جواد وجواد علي ومحمد مهدي البصير وعلي الوردي وعبد الرحمن الجليلي وشاكر مصطفى سليم وعبد الجليل الطاهر وحسن احمد السلمان ومحمود الجليلي ومهدي المخزومي وصبيح جميل وحمدي يونس وعبد الوهاب الوكيل وجعفر خياط ( ماجستير ) وحسن علي الذنون وغيرهم . وكلنا يعرف ما الذي ناله ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ كل من الدكاترة : عبد الجبار عبد الله ويوسف عز الدين وحسين قاسم العزيز وفائز عزيز اسعد وعباس الدباغ وفريد الله ويردي ومحمد رشيد الفيل وغسان العطية وعبد الواحد لؤلؤة وحكمت جميل وكاظم حبيب وعماد الدين خليل وعوني كرومي وجبار قادر غفور وغيرهم من سلسلة العلماء الاكاديميين العراقيين المعروفين بمختلف اتجاهاتهم ومشاربهم الفكرية والسياسية من اقصى اليمين الى اقصى اليسار .

التوقف عند ظاهرة اجتماعية
اليوم اود ان اكمل ما بدأت به وساخصص حديثي عن ظاهرة عراقية طالما اختلف الناس حولها ، وكانت ولم تزل سببا لشقاء حزمة عريضة من ابناء المجتمع العراقي .. واريد هنا ان اسأل سؤالا واحدا لكل من ادلى بدلوه حولها اذ انني دوما ما أثير السؤال التالي : هل يتحمل عهد سياسي واحد المسؤولية التاريخية لظاهرة النزوح السكاني في المجتمع العراقي ؟ ولما كان هذا ” الموضوع ” ، وخصوصا نزوح الجنوبيين الى اطراف بغداد ، قد ارتبط بـ ” الاقطاع ” ، وان ” الاقطاع ” ارتبط بالعهد الملكي . فمن يتحمّل مسؤولية هذه الظاهرة التاريخية من حياة البؤس في العراق ؟ انني اثير الموضوع واربطه بهذا ” الحوار ” كي نسمع سويا الى رأي الاخ الدكتور حبيب بمن كان وراء هذا البؤس ؟ ولماذا ينقسم الرأي العام الاجتماعي ببغداد خصوصا ازاء تقييم هذه ” الظاهرة ” ؟ ولماذا عولجت هذه ” الظاهرة ” علاجا غير واقعي البتة ؟ ولماذا تحمّلت العاصمة بغداد والمدن الكبيرة ترسبّات تلك الظاهرة القديمة التي انتجت واقعا جديدا يقوم على التباين لا على التعايش ، وعلى الانشطار لا على الوئام ؟؟ ولماذا انفرد السياسيون ومن كان في السلطة بصنع القرارات من دون استشارة العلماء في الاجتماع والبيئة والتخطيط الحضري ؟
ان السائل اليوم ، كما كان سابقا ، يحتار وسط رأيين عراقيين ( وبالذات بغداديين ) حول اهل الصرايف .. رأي متعاطف معهم ويبكي على مآسيهم وبؤسهم وشقائهم ويريد ان يكونوا مثل خلق الله العراقيين الآخرين ورأي يختلف معهم ، بل يخاصمهم وينعتهم بشتى النعوت القاسية ويعتبرهم كائنات من الدرجة الخامسة . ونفس هذا الرأي او ذاك اجده في تقييم النازحين الذي قطنوا حول المدن الكبيرة ، وخصوصا في الموصل وكركوك واربيل والنجف والبصرة مع اختلاف طبيعة السكن وطبيعة المعاملة ، فلا يمكن ان نجد مجتمعا متعبا كما هو حال اهل الصرايف .. هنا ، ربما يسألني سائل : ولماذا كل هذا الاهتمام بهذه الظاهرة ؟ اقول لأننا لا يمكننا ان نحاور ونجادل بعضنا بعضا حول الديمقراطية والاشتراكية والمفاهيم الحديثة من دون معرفة ما قادت اليه ظواهر قديمة بعينها من نتائج مفجعة ؟ ولماذا لم نربط بين الظواهر لاكتشاف المزيد من الحقائق عن العراق ومجتمعه الذي نجده اليوم وقد تشّظى فجأة .. فهل المشكلة تنحصر فقط بحكام العراق الطغاة والوادعين ؟ ام ان المشكلة الاجتماعية في العراق اكبر منهم جميعا ، واكبر حتى من ان تعالج في يومنا هذا . نعم ، لقد كان كل عهد قد ساهم في تفاقم الخلل والعطب من حيث يدري ولا يدري .. انني عندما اعالج هذا ” الموضوع ” في حوارنا اليوم ، فانني متأكد ان ادبيات كل الاحزاب العراقية التقدمية والاصلاحية .. الليبرالية والقومية على امتداد القرن العشرين كانت تكتب الكلائش والشعارات والبيانات والخطابات وتثير العواطف والاتجاهات من دون ان نجد دراسة واحدة لها موضوعيتها وعمقها يعتمدها العراقيون في اصدار قراراتهم رسميا او احكامهم اجتماعيا ..
ولا ادري هنا هل يتقارب معي الدكتور كاظم حبيب ام يتباعد ؟

الاسباب والعوامل
يكاد يجمع الناس من علماء وكتّاب ورجال مجتمع على ان غالبية من سكن الصرايف في بغداد كان من الجنوب ، وبالذات من العمارة شرق دجلة ، ولكن تتباين الاسباب والعوامل في نزوحهم الواسع نحو العاصمة . صحيح ان الاضطهاد الذي مارسه الاقطاعيون من شيوخ العمارة قد ساهم في ذلك ، بحيث كان النازحون طرداء من الارض ، اي مبدعين عن المكان .. ولكن هل يمكننا ان نصّدق ان كل النازحين كانوا من الفلاحين المضطهدين ؟ من الطبيعي ان نزوح بعضهم لأسباب متنوعة ، فجاء لكي يعيش قرب العاصمة يبحث عن عمل او يبحث عن مال .. وقد قيل لي ان كثافة النزوح جرت في عقد الخمسينيات ، اي قبل ثورة تموز بثلاث سنين وبعد قيام الثورة بثلاث سنين .. اذ ازداد النزوح بعد اصدار قانون الاصلاح الزراعي بسبب فقدان الفلاحين لاعمالهم السابقة وعجزهم على السيطرة على مساحات واسعة منحت لهم .. فضلا عن بوار الارض وتوقف انتاجها تماما . لقد اخفقت الدولة في حل قضايا اساسية تتعلق بالحياة الاجتماعية ، وهي ترى هذا النزوح الكثيف من الجنوب نحو بغداد .. فلا هي أمنّت الخدمات الضرورية لهم ، كما انها اخفقت في ارجاعهم الى ارضهم وديارهم .. ولا هي قرأت مستقبل البلاد الاجتماعي في جعلهم يستوطنون حول بغداد والمدن الرئيسية ، كي يجدوا انفسهم بعد حين وقد اندمجوا ببغداد والمدن الرئيسية .. بل يصل توصيف بعضهم لهؤلاء من اهل الصرائف مثل قنابل موقوتة ستنفجر يوما ! لم يجد هؤلاء اي رعاية تذكر ابان العهد الملكي ، ولكنهم وجدوها في الزعيم عبد الكريم قاسم الذي غدا بالنسبة لهم الاب الحاني عليهم والمتعاطف مع مشكلتهم ، وخصوصا عندما بنى لهم بيوتا اسكنهم فيها من دون ان يدري ان خللا كبيرا سيحدث في الهيئة الاجتماعية للمجتمع البغدادي الذي لم يعد ينفع دفاع البغاددة عنه ..
دعوني الان أوّضح بعض التفصيلات عن مأساة الصرايف وتداعيات آثارها على مجتمع بغداد ، وعلى انظمة الحكم المتعاقبة .
مأساة الصرايف حول العاصمة بغداد
كانت الصرائف تغطي مساحات واسعة من مدينة بغداد في جانبيها الشرقي والغربي، الرصافة والكرخ، وتضم في أحشائها المظلمة مئات الألوف من أبناء الشعب العراقي النازحين من موطنهم الأصلي وأغلبهم من أبناء لوائي العمارة والكوت . إن الدراسات الإجتماعية لأحوال العراق تقول: إن ظاهرة هجرة الفلاحين من الريف إلى المدن بدأت بشكل واسع منذ ظهور الوسائل الحديثة والمواصلات والكهرباء والخدمات .. ولكن لماذا نزح الاكثرية من لوائي العمارة والكوت ؟ وايضا الى حد كبير من الناصرية ؟ ثمة جواب واحد متفق عليه يتضمن انفجار تناقضات كبيرة في داخل البنية الاجتماعية في الالوية الثلاثة نتيجة سوء استخدام السلطة وسوء استخدام العلاقات الانتاجية والصراع من اجل قيم جديدة لم تكن موجودة سابقا .. وكانت صرائف العاصمة قد غطت مساحة كبيرة من الأراضي المنخفضة، ما وراء السدة الشرقية، التي أقامتها الحكومة لحماية بغداد من الفيضانات وكانت بدايتها من المنطقة القريبة من ساحة النهضة حالياً حتى منطقة البتاويين في الباب الشرقي ويفصل بين هذه الصرائف متنزه بارك السعدون، الذي أقامته أمانة العاصمة في العهد الملكي.

عوامل الهجرة المتنوعة :
انني ادرك ان عوامل هجرة الفلاحين من اقصى الجنوب الى اطراف بغداد قد بدأ منذ زمن طويل يعود الى عهد مدحت باشا ابان القرن التاسع عشر ، اذ تخبرنا الروايات التاريخية ان النازحين كانوا يقطنون خارج الاسوار ، اذ لم يكن سكان المدن ليسمحوا ابدا لاولئك النازحين بالدخول الى داخل اسوار المدن لأسباب تتعلق بالامن والنظام ، واول من قطن خارج الاسوار البدو ، وخصوصا حول الكرخ ( خلف مطار المثنى ) وحول الرصافة ( خلف السدة ) وحول مدينة النجف ( خلف المقابر ) وحول اسوار مدينة الموصل القديمة ( ومنهم جوبة البكارة خلف باب الطوب وجوبة عكيدات قرب المحطة .. ) وغيرها من المدن .. ثم كثر النزوح مع وجود الكهرباء في المدن والخدمات الجديدة التي ظهرت في الاربعينيات وازدادت تماما في الخمسينيات ، بحيث انتشرت الاف الاكواخ / الصرائف من السعف والطين على جانبي غرب بغداد ( = الكرخ ) وشرقها ( = الرصافة ) ناهيكم عن نزوح الاف الاكراد الى الساحلين الايمن والايسر من الموصل ، وكان الساحل الايسر خاليا الا من جامع النبي يونس الذي يسكن حوله البيغمبرلية التركمان .. كما كان النزوح الى اربيل والاستيطان حول منطقة القلعة وكذلك كركوك ولا استطيع القول ان نزوح الجميع نحو العاصمة والمدن كان قسرا ، بل كان نزوح بعضهم لاسباب البحث عن عمل من نوع آخر .. وقسم أتى ليعيش بهرجة المدن والتسكع او العمل في شوارعها .. وبعضهم أتى للخلاص من حياته الريفية كي يصبح ابن مدينة .. ولقد تفاقم النزوح بعد ثورة 14 تموز / يوليو 1958 بشكل كبير جدا .. كتاب التجمعات البشرية في العراق . تأليف الفريق طه الهاشمي 1936.
هذا هو تأريخ أصحاب أكواخ القصب الذين اتوا ليسكنوا اكواخ الطين (= الصرائف ) وكيف هجروا أو هاجروا من مناطق سكناهم الأصلية في العمارة إلى أطراف بغداد ، واغلبهم من الشروك ( وهذا ليس عيبا ) أي : انهم من شرق دجلة ، وهم ليسوا المعدان في الهور . فالمصطلح مأخوذ من الشروق ، يعني اهل الشرق ، ويذهب بعضهم لانتزاع صفة العراقية منهم كونهم نازحين من الشرق مستقرين في العراق منذ العهد الصفوي ، وانهم لم يمنحوا الجنسية العراقية حتى عهد عبد الكريم قاسم ! يكتب الكاتب عارف معروف قائلا : ” وكان اسم ” الشروكية او الشراكوة او الشروك”كما عرفوا لدى البغادة ذي دلاالة مكانية، اولا، باعتبار نزوحهم من الجزء الجنوبي الشرقي للبلادلكنه اكتسب لاحقا دلالة اجتماعية معينه واصبح في عرف الطبقة السائدة مفردة تشير الى الدونية والانحطاط والهامشية رغم ان ” الشروكية ” ضموا في صفوفهم لاحقا ،( بعيد ثورة تموز وخلال الستينات) بعض عوائل الشيوخ ممن انتزع ما بحوزتهم من اراضي وتهاووا سريعا الى درك المعدمين وعملوا في ذات المهن مع بني جلدتهم حيث كان افضل ما يمكن ان يكون عليه احدهم من مرتبة ، كما يغمزهم اندادهم، ولكن حقا وصدقا،هو ان يصبح شرطيا او عريفا في الجيش فكونوا جل القاعدة الاساسية لمراتب الجيش والشرطة وستظهربعض نتائج ذلك واضحة خلال العقود اللاحقة ايضا .. ” (انظر : عارف معروف ، المضمون الاجتماعي للطائفية في العراق ، 7 ، الحوار المتمدن ).
وماذا ايضا ؟
لقد تحولت تلك المناطق الواسعة بعد ان اصبحت الاراضي اميرية وخصوصا ابان نهايات العهد العثماني ومن ثم البريطاني ومن ثم الحكم الملكي إلى مجموعة من الشيوخ لشراء ولائهم ، كما كان الشيوخ دوما يتحالفون مع رجال الحكم ـ كما عرفنا من الحلقتين السابقتين ـ .. هذا ما عرف من ادبيات العراقيين للأرض وانغمس في حياة الترف واللذة المشروعة وغير المشروعة، لذلك هجر أغلبهم مناطق قبائلهم وأخذوا يسكنون المدن، هذا ما جاء في دراسة الوردي في كتابه طبيعة المجتمع العراقي.. وأضاف: إن السفير الأمريكي في بغداد، ولدمار دولمن ـ قد أشار في كتابه الشهير عن العراق في عهد نوري السعيد إلى إن أسباب هروب الناس بعيداً عن أراضيهم الزراعية في تلك الفترة تعود إلى تسلط وظلم شيوخ العشائر والإقطاع في تلك المناطق . وقد أشار الدكتور علي الوردي إلى هذه القضية بقوله: إن هذه القوانين قد أرست دعائم العلاقة الإجتماعية الضعيفة في الريف، فبعد أن كان شيخ القبيلة يعيش بين أفراد عشيرته ولا يتميز عنهم إلا بحنكته وإخلاصه لهم، أصبح مالكاً للارض والمصالح .. وتحولت الأقوام إلى مجاميع طالها الظلم والإستبداد اللذان إستمرا حتى بعد ولادة الدولة العراقية واستند الرجل في ذلك على ادوات المعرفة التحريرية والشفوية التي يدركها القاصي والداني . ( اشير الى ان اول من اعتنى بموضوع التبيؤ السكاني هو الفريق طه الهاشمي في كتابه : التجمعات البشرية في العراق 1936 ).

الانتشار الجغرافي للبؤس :
ففي بغداد ، سكن النازحون في ثلاث مناطق وراء السدّة ( = سدة ناظم باشا ) . وفي محلة الصرافية وتجمعات اخرى صغيرة هي المنتشرة قرب المحطة العالمية نحو الشمال .. فهل هناك اسوأ من تلك الأكواخ ؟ انها “الصرايف”البائسة التي اشتهرت بها بغداد اكثر من اي مدينة عراقية اخرى ، علما بأن بقية المدن الكبرى كانت قد احاط بها ايضا الآف النازحين .. في بغداد امتدت الصرائف بمناظر تثير الاستياء من مبنى محطة قطار الموصل جنوب / غرب بغداد والوصول إلى الشمال على المنطقة المقابلة لمعسكر الوشاش وامتدادا حتى كرادة مريم ؟، انها منطقة صرايف، وقد امتداد سكة القطار المار بمنطقة الشالجية ومنطقة علي الصالح وصولا الى الطوبجي وحتى الكاظمية شمال / غرب ..
نعم ، انها مدينة كاملة تحيط بكرخ بغداد .. اما ” الشاكرية ” ، فهي تلك سمّيت نسبة إلى مالكها وزير الدفاع ابان العهد الملكي شاكر الوادي، كما كانت قد اسميت مدينة الهادي نسبة الى الوزير عبد الهادي الجلبي ( ابو الدكتور احمد الجلبي ) .. اما في الرصافة ، فهناك ” صرايف خلف السدة ” وفي الاعظمية ” صرايف بزايز الصليخ ” .. كانت تحتشد المئات بل آلاف الصرائف حول بغداد ! وعلينا ان نتصور حجم الكراهية الاجتماعية المتوالدة بالضرورة بين هؤلاء النازحين البؤساء وبين البغداديين اولا ، وحجم الاحقاد البشعة بين الاغنياء من ذوي القصور والثراء وبين الفقراء المحرومين الذين يعيشون في الصرايف التي يقطنها آلاف مؤلفة من البشر. وقد عللت لي احدى السيدات البغداديات القديمات اللواتي تعاملن مع هؤلاء الناس من خلال موقعها المسؤول في الهلال الاحمر ان مجتمعا غرائبيا عجيبا كان يقطن حول بغداد ، وهم قد اعتادوا تلك الحياة المشينة في نومهم مع حيواناتهم وممارستهم اسوأ الاعمال .. واردفت قائلة بأنهم ” شروك ” اي انهم قدموا من شرق دجلة عند العمارة ، ولم يكونوا بالمعدان ، فالمعدان غير الشروك .. يعيشون على هامش بغداد ويعاملون كاناس من الدرجة الثانية او الثالثة .. ولم يظهروا احقادهم على المجتمع البغدادي ، فهم يهربون ويسكتون على الاساءة من دون اي رد ، قلت لها : ربما يكظمون غيضهم ويخفون المهم . اجابت : ربما !.. وكان رجل بغدادي قديم يردد قائلا لولده ( الذي اصبح طبيب عيون في المستقبل ) بأن الفجيعة قادمة الى بغداد عندما يكبر هؤلاء الاطفال البؤساء !

حجم البشاعة الاجتماعية :
اننا قد نجد حجم البشاعة كبيرا لما حدث صبيحة 14 تموز / يوليو 1958 ، من قتل وسحل ربما اشترك في ذلك اغلب دهماء بغداد ، ولكنني اعتقد ان كل ما حدث هو تعبير عن الكراهية والاحقاد المتوقدة في دواخل الذات العراقية على كل ولاة الامر .. خصوصا وان العقيد الركن عبد السلام عارف كان يستصرخ كل العراقيين من اذاعة بغداد ان يخرجوا الى الشوارع كي ينتقموا من العهد البائد قائلا بالحرف الواحد ان جثتي كل من الوصي وسيده تسحلان الان في الشوارع ولم يكونا قد قتلا بعد .. فهل يمكن للعراقيين بالعاصمة بغداد واطرافها ان ينتظروا داخل بيوتهم ؟ ولكن دعونا نتساءل ونحن نتخيل ماذا لو فلت زمام الامر قبل اعلان الزعيم الركن عبد الكريم قاسم منع التجول على الساعة الثانية عشرة ظهرا ؟ ماذا كان سيحدث لو انفلت الامر من ايدي الانقلابيين الثوار او الضباط الاحرار خلال ساعات نهار 14 تموز / يوليو 1958 ؟ انني اتخيل ان اكبر كارثة كانت ستحل ببغداد من قتل وسلب ونهب .. كالذي حدث في الموصل على مدى عدة ايام عشية فشل تمرد العقيد الركن عبد الوهاب الشواف على الزعيم عبد الكريم قاسم في 8 آذار / مارس 1959 ، وما حل من فجائع قتل وسحل وتعليق ونهب وسلب من قبل الذين هبّوا على المدينة من اطرافها ، علما بأن النازحين الى اطراف الموصل لم يكن حالهم كأهل الصرائف حول بغداد ! بل كانت لهم بيوتهم وطرقاتهم وخدماتهم ..

من كان يشعر بالمرارة فعلا ؟
دعونا نكمل الصورة لمأساة تلك الفئة الاجتماعية التي احاطت بغداد من كل ناحية ومن كل صوب .. وعلينا ان لا نتصور حجم البشاعة التي تحيا عليها تلك ” الطبقة ” الاجتماعية التي تسكن صرائف في الصيف الملتهب ، وهي تطفو على مستنقعات مياة آسنة تعلوها القذارات ، وهي تتشكل في ألوانها وهيئاتها وفق محتويات الاوساخ المتراكمة بين صريفة وأخرى، وعلينا ان نتصور حالها واوحالها في الشتاء عندما يحل موسم الامطار .. اما ان حدث الفيضان فالصورة لا يمكن تخيلها ! ان العديد من رجالات بغداد كبار السن الذين التقيت بهم كانوا لا يعتبرون ما نقوله شيئا ذي بال حتى وان تحدثت معهم حديث حقوق الانسان ، اذ اجمع بعضهم ان من كان يسكن الصرايف قد اعتاد حياته تلك ، وهي سيان عنده ، خصوصا اذا ما قرن عيشه هنا في ضواحي بغداد بالمكان الذي كان يقطن فيه في جنوب العراق .. ولكن احدهم التفت الي قائلا : انهم ما كانوا ليبالون بالمأساة ، ولكن اولادهم كانوا يشعرون بمرارتها ! وهنا ، نتوقف قليلا لنتأمل المشهد ونحن في تلك المرحلة ولا ننظر اليهم من منظار يومنا هذا ..
ونتساءل : لماذا لم تعالج مثل هذه ” الظواهر ” الصعبة في حياة العراقيين منذ بدء تكوين الدولة العراقية حتى يومنا هذا ؟ لماذا اهتمت كل السلطات في العراق وعلى مر العهود وحتى يومنا هذا بالدولة ومؤسساتها ، ولم تهتم بالمجتمع وتراكيبه ؟ لماذا اهتم كل من الدولة والمجتمع معا بالجيش والاحزاب والنقابات والايديولوجيات .. الخ ولم يظهر امامنا اي اهتمام بالبنى الاجتماعية العراقية والخدمات وحقوق الانسان ؟ لماذا نصفق دوما للكوارث والنكبات ولا نسأل سؤالا واحدا : لماذا خسرنا الالاف المؤلفة من شبابنا في الصراعات الداخلية والحروب الدموية ؟ لماذا اهتمت اغلب السلطات التي حكمت العراق بالعاصمة بغداد فقط من دون بقية المدن والقصبات ؟ انني لا انكر وجود عدة احزمة بائسة من المناطق التي تحيط بعواصم ومدن شهيرة في الشرق الاوسط والعالم ، ولكن لم تكن كالتي كانت عليه العاصمة العراقية وبعض مدن العراق ! انني اتساءل : اذا كان الجميع يدين المسؤولين السابقين ممن تحّكم بالسلطة والنفوذ ، فأين كانت الاحزاب العراقية ؟ واين كانت الصحف العراقية ؟ واين كان المجتمع نفسه ؟
ان المشكلة سايكلوجية ايضا ، فكل عراقي سواء كان مسؤولا ام مواطنا ، لم يهتم الا بنفسه ومصلحته ومتعته وفرص نجاحه وذاته وقوته وشهرته هو نفسه .. ولا شأن له بالاخرين ! ان كل عراقي ليس له الا ان يمجّد بنفسه وعائلته وعشيرته وقبيلته وطائفته وابناء قومه وجنسه .. ولا شغل له مع الاخرين ! ان كل عراقي عليه بموقعه ومنصبه وسياحته واكله وشربه وسمعته ونومه وقيامه وقعوده ولا يهتم بالاخرين .. اي بمعنى ان الذات العراقية تسبق المواطنة العراقية .. انها حالة مجتزأة من مواريث تواريخ اجتماعية لا يمكن تغييرها بسرعة ابدا . فالتجانس غير موجود بين العراقيين ، بل يسود التمايز على اساس ثنائيات غدت مترسخة في الضمائر كاعراف ، منها تصنيفات تتم على اساس : اصيل وطفيلي .. غني وفقير .. بغدادي وشروكي .. عربي وعجمي .. احضري وبدوي .. الخ ولما كانت الفروقات الطائفية والقومية غائبة لزمن طويل بحيث حدثت زيجات وانتسابات بين عرب وكرد وتركمان .. بين سنة وشيعة .. بين جنوب وشمال ، الا ان هذه الاختفاءات الاخيرة اهتزت وربت في السنوات الاخيرة ، وبدت تظهر على السطح بشكل سافر ويا للاسف الشديد !

ماذا لو حصلت الكارثة ؟
نعم ، كانت الصرائف محرومة من الماء والكهرباء ، واذا كان البعض يحرمها من المجاري ، ذلك ان بغداد نفسها بطولها وعرضها كانت محرومة من المجاري .. كانوا يجلبون الماء من حنفيات في مراكز نشرتها امانة العاصمة او من دور الناس القريبين .. ويقال ان اللمبات والنفطيات القديمة كانت هي المستخدمة ، وهناك رواية تقول ان بعضهم كان يسرق الكهرباء من اعمدتها .. ولم تكن هناك اي اماكن لقضاء الحاجة .. فلنتصور حجم الكارثة التي زادت عن حجمها ابان السنوات الاخيرة من العهد الملكي . كانوا يعيشون مع حيواناتهم وجواميسهم معا .. كانت النسوة يعملن ليل نهار من اجل لقمة العيش .. كان الاطفال يذهبون الى المدارس ببغداد وهم يمرون عبر شوارع البغداديين وبيوتهم وقصورهم .. فلنتصور حجم الالام واختزان الكراهية عندما يقارنوا انفسهم ومعيشتهم وحياتهم بحياة البغاددة ليل نهار .. كانوا فعلا يشعرون بظلم كبير وخصوصا اولئك الذين ولدوا في تلك الصرائف الكريهة من جيل ولد في الخمسينيات .. كانت الفتيات يشعرن بالتفاهة وهن يخدمن في البيوت طاهيات وخبازات ومربيات وخدامات وبياعات كيمر ولبن ..

خطط استراتيجية بديلا عن خطط خدمية
ولعل من ابرز اخطاء العهد الملكي انه خصص 75% من واردات العراق للمشروعات الاستراتيجية من دون ان يخصص اي نسبة مضافة للمشروعات الخدمية من اجل انقاذ هذه الفئة الاجتماعية التي باتت تحيط بالعاصمة بغداد ! ولقد كشف احد الباحثين العراقيين الذي اعد اطروحته عن مجلس الاعمار في العهد الملكي ( تحت اشراف الصديق الدكتور كمال مظهر احمد ) ان وزارة الاعمار ومجلس الاعمار في العراق كانا قد قررا حماية العاصمة بغداد من التلوث الصحي وقلة الأمن فكانت ثمة افكار وخطط من اجل نقل هذه الفئة الاجتماعية الى دور صحية ذات مستوى مقبول وقد انبثقت لجنة برئاسة حسن احمد السلمان من وزارة الاعمار قدمت عروضا واقتراحات وخرائط ، ولكن سبقتهم ثورة 14 تموز / يوليو 1958 ، فبدأ الزعيم عبد الكريم قاسم بتنفيذها والاسراع بها . وعليه ، فان ما حدث في 14 تموز / يوليو 1958 يعد بالنسبة لاهل الصرايف حالة انقاذ اسرع بتنفيذها الزعيم عبد الكريم قاسم ، واعتقد انه الزعيم العراقي الوحيد الذي كان يشعر بمعاناتهم والآمهم .. فكان بالنسبة لهم ابا لهم وللفقراء جميعا .

مجلس الاعمار في العراق
دعوني قبل ان اكمل هذه ” الحلقة ” ان اتوقف قليلا عند مجلس الاعمار في العراق من خلال طرح السؤال التالي والقائل: هل كان مجلس الاعمار في العراق سيلتفت الى مسألة الخدمات في العراق ؟
انني متأكد من ذلك تماما بحكم معرفتي للخطط الطموحة التي تضمنها ، وبحكم القيادات العلمية التي كانت تقف على رأسه ، وكان هناك ثمة سباق مع الزمن بينه وبين الاخفاقات السياسية ، بينه وبين المعارضة السياسية ، وبينه وبين خصومه في الداخل والخارج .. بينه وبين اذاعة صوت العرب .. انني اسجّل على نظام الحكم الملكي العديد من الاخطاء التي كان لابد من علاجها وطنيا وسياسيا وخصوصا انغلاقه على نفسه ومحاربته خصومه ( والشيوعيين في مقدمتهم ) اذ كان الزمن يجري لصالحهم ايام الحرب الباردة ، ولكن بنفس الوقت لا يمكننا ان ننكر ان للمعارضة السياسية كلها كانت لها جملة اخرى من الاخطاء ، انني لا انّزه اي عهد سياسي في العراق من الاخطاء التاريخية ، ولكن تختلف اخطاء كل عهد عن اخطاء العهد الاخر .. ولا يمكننا ان نبقى نمجّد في هذا فقط وندين ذاك فقط .. اننا بالوقت الذي لا يمكننا نكران ما تمّ تأسيسه وما جرى عمله والتخطيط له في العهد القديم فضلا عن تطور ملحوظ في القضاء والمعارف والامن فاننا قد عرفنا اين كانت اخطاؤه ، وان اقصاء عدد من خيرة نخبة العراق ، والغاء العديد من الخطط التنموية على يد الدكتور طلعت الشيباني بعد قيام 14 تموز 1958 يعد خللا لابد من الاعتراف به بعد ان تم التغيير على العهد الجديد ..
دعوني انقل حرفيا ما سجله الدكتور فاضل الجلبي ( الخبير الاقتصادي العراقي في مجال الطاقة ) ، فقد كتب قائلا : ” إن تأسيس مجلس الإعمار في العراق الملكي كان إنجازاً عظيماً من أجل استثمار عوائد النفط في التنمية، بدلاً من الإنفاق الاستهلاكي، كان أعظم تجربة تنموية في العالم الثالث، ولم يكن له مثيل في الأقطار المنتجة للبترول. قام مجلس الإعمار بمشاريع كثيرة غيرت في البنية التحتية للاقتصاد العراقي، والتي لو استمرت لأصبح العراق في عداد الدول الصناعية الحديثة مثل كوريا الجنوبية والبرازيل.
لم تكن المعارضة العراقية آنذاك قادرة على فهم أهمية مجلس الإعمار في تطوير العراق فحسب، بل كانت تهاجمه حتى سمته ظلماً بـ «مجلس الاستعمار»! ولا يعني مثل هذا الهجوم سوى تخريب عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية. وكان أن أول عمل قام به فؤاد الركابي وزير الإعمار، في حكومة 14 تموز، هو إلغاء مناقصات دولية، منها مشروع إنتاج المواد البتروكيماوية في البصرة، وذلك باستخدام الغاز الطبيعي، والذي كان يحرق هباءً، ولو تم ذلك المشروع لكان العراق من أهم مصدري تلك المواد في العالم. كذلك أن نظام التعليم في العهد الملكي في كل المراحل كان من أرقى الأنظمة، إن لم يكن أرقاها. فكلية الطب العراقية كانت الكلية الوحيدة في الشرق الأوسط المعترف بها في المملكة المتحدة. وخرجت سياسة التعليم، والبعثات إلى الخارج أجيالاً من المهندسين، والأطباء، والمثقفين، والعلماء ما لم يحصل مثله في البلاد الأخرى من المنطقة.
وباستثناء الريف الذي كان محكوماً بنظام العشائر، الذي جعل من شيوخها حكاماً فعليين في مناطقهم، إلا أن القضاء في المدن كان يتمتع باستقلالية، وكفاية، واحترام لأحكام القانون، مما تهدم في الأنظمة التي تلت العهد الملكي. وعلى صعيد آخر، حقق ذلك العهد خطوات هائلة في تطوير الحياة الثقافية، من الأدب والشعر، والفنون والموسيقى والرسم. ظهر جواد سليم، الذي أعطى فن الرسم والنحت في العراق أبعاداً لم تكن موجودة في المنطقة. وظهر الشعر الحديث عبر نازك الملائكة وبدر شاكر السياب، وظهر أدب القصة من خلال فؤاد التكرلي وعبدالملك نوري، والثورة التقنية في عزف العود بقيادة محيي الدين حيدر، وظهور أول فرقة سمفونية في المنطقة.
لم يعط الفكر العراقي المعارض للعهد الملكي تلك الإنجازات حقها، بل كان ينظر سلباً الى كل ما كانت تقوم به الحكومة. وكانت تطلق الألقاب والأسماء على أي مشروع من مشاريع مجلس الإعمار، على أنها في خدمة أغراض حلف بغداد، وغير ذلك من السخف الذي يكشف عن العقلية السلبية التخريبية للفكر السياسي العراقي آنذاك.
بداية، يجدر القول انه ليس القصد من الكتابة حول كامل الجادرجي هو التعرض لشخصه، فهو كان من دون منازع زعيماً للمعارضة السياسية في العهد الملكي، وصاحب جريدة «الأهالي»، التي حظيت بإقبال شديد من الطبقات المثقفة آنذاك. كما أنه قدم خدمة كبيرة في التوثيق الفوتوغرافي للعراق، فله مساهمة كبيرة في التاريخ العراقي مستعيناً بقدرته الفائقة في فن التصوير. إنما القصد هو إيضاح الفجوة بين رفعه شعارات الديموقراطية، والدعوة لها من جهة، وبين سلوكه الفعلي في العمل السياسي، والعلاقة مع الطرف الآخر، سواء كان داخل حزبه أو مع السلطة، مما حال دون تطور الفكر الديموقراطي للحزب من أجل ديمومته في الحياة السياسية العراقية. يتكلم الساسة العراقيون في الديموقراطية من دون أن يكونوا ديموقراطيين، فهناك ميل الى التسلط الفردي في داخل التجمع السياسي “.

واخيرا : اقول :
هذا هو نص ما سجله الدكتور فاضل الجلبي .. انني ادرك ادراكا تاما ما سر العداء الذي يكّنه الشيوعيون العراقيون للعهد الملكي القديم ، خصوصا وانهم اضطهدوا فيه وكان قاسيا عليهم ، وكانت تلك واحدة من ابرز اخطائه والتي دفع عنها ثمنا غاليا جدا .. المهم ، اننا اليوم وبعد مرور نصف قرن كامل على تلك النهاية القاسية التي انتهى فيها ذلك العهد ، لابد من نظرة حيادية ورؤية تاريخية فاحصة وعلمية بديلا عن اي مواقف سياسية وحزبية وايديولوجية لا يمكنها ان تصمد ابدا على امتداد التاريخ ..
انني لا اتبنى كل ما جاء به الاستاذ الدكتور الجلبي ، ولكنني جعلت هذا ” النص ” يختتم هذه الحلقة كون صاحبه اقدم مّني ويعرف ماذا يقول بشأن العراق .. انني اقول بأن المشكلة لم يكن باستطاعة احد من المسؤولين حلها بمثل هذه السرعة التي كانت تتفاقم فيها .. وها قد رحل العهد الملكي ومرت خمسون سنة بالضبط على رحيله ، والعراق ينتقل بمآسيه من سيئ الى أسوأ .. لقد كانوا في رحى الصراعات الحزبية العقائدية الدموية بين الشيوعية وبين البعثية ابان الستينيات .. ثم اصبحوا في حالة تشرذم حزبي عقائدي ابان السبعينيات .. ثم انتقلوا ليكونوا وقودا وجمرا للحرب العراقية الايرانية التعيسة .. ثم اكتسحتهم رحى الحصارات والطغيان ايام التسعينيات .. وكللت عليهم وغطت ما شهدوه في هذه السنوات العجاف من بدايات القرن الواحد والعشرين .. فهل لنا من طريق جديد يخلصنا من دوامات الماضي الصعب .. ويداوي جروح مجتمعنا العراقي لكي تندمل بدل مسلسل الصراع من اجل ان تفتح صفحة تاريخ جديد . انني اتأمل خيرا اذا ما نجحنا في تغيير تفكير العراقيين وزحزحته عن قوالبه الثخينة . عند ذاك سيصفق اولادنا من اجل المستقبل !

نشرت لأول مرة في موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com

5 يناير 2008

انتظروا الحلقة الثامنة

جادة حوار عراقي.. مقاربات ومباعدات بيني وبين الاستاذ الدكتور كاظم حبيب (الحلقة السادسة)
جادة حوار عراقي.. مقاربات ومباعدات بيني وبين الاستاذ الدكتور كاظم حبيب (الحلقة الخامسة)
جادة حوار عراقي.. مقاربات ومباعدات بيني وبين الاستاذ الدكتور كاظم حبيب (الحلقة الرابعة)
جادة حوار عراقي.. مقاربات ومباعدات بيني وبين الاستاذ الدكتور كاظم حبيب.. الحلقة الثالثة
جادة حوار عراقي.. مقاربات ومباعدات بيني وبين الاستاذ الدكتور كاظم حبيب (الحلقة الثانية)
جادة حوار عراقي.. مقاربات ومباعدات بيني وبين الاستاذ الدكتور كاظم حبيب (الحلقة الأولى)

شاهد أيضاً

ملف: إمكانية حكم دكتاتور عادل للعراق.. حوار عراقي مصري بين الدكتور سيّار الجميل والأستاذ عبد الله كمال على روز اليوسف المصرية

مقدمة كتب الصديق الأستاذ عبد الله كمال عضو مجلس الشورى المصري ورئيس تحرير كل من …