الرئيسية / حوارات / جادة حوار عراقي.. مقاربات ومباعدات بيني وبين الاستاذ الدكتور كاظم حبيب (الحلقة الخامسة)

جادة حوار عراقي.. مقاربات ومباعدات بيني وبين الاستاذ الدكتور كاظم حبيب (الحلقة الخامسة)

البنية العشائرية في العراق (1)

مقدمة
اعود اليكم والى الدكتور كاظم حبيب في الحلقة الخامسة من جادة الحوار الذي اخذنا الى مسافات بعيدة من محاولات فهم العراق سواء في طبيعته السياسية او في علاقاته الانتاجية او في بنيته الاجتماعية .. وهنا اشكر لكل القراء الكرام متابعتهم واهتمامهم بهذه الحلقات وردود الفعل التي اثارتها ، مثمنا كل الرسائل التي وردتني من داخل العراق وخارجه حول ما دار الى حد الان من جدل علمي .. كما استنكر اي كتابات تطال اي عراقي من دون وجه حق وهي تسيئ اساءات بالغة بعيدا عن المنهج العلمي وخروجا عن اللياقة في الحوار .. بهذه المناسبة ، لابد لي ان اشكر العديد من الاصدقاء الذين تكرموا باسداء معلومات عن مناطقهم وطبيعة العلاقات التي حكمت الناس قبل خمسين سنة . ولا اخفي عن القراء الكرام انني استفدت جدا من المعلومات التي اضمنها الان مشروع كتابي الجديد عن بنية المجتمع العراقي .


اولا : من المسؤول عن ماضي حياتنا العراقية ؟

نعم ، من المسؤول عن ماضي حياتنا العراقية ؟ هل المسؤول قائد او زعيم واحد ؟ هل المسؤول عنه نظام سياسي واحد ؟ هل يمكننا ان نضع كل البيض الفاسد في سلة واحدة ؟ هل كان كل حكام العراق اذكياء وملائكة وقادة سياسيين محنكين ؟ ام كانوا جميعا اغبياء وشياطين وزعماء فاشلين ؟ هل يمكننا اليوم ونحن في القرن الواحد والعشرين البقاء اسرى وسجناء شعارات واكاذيب ومعلومات منها الصواب ومنها الخطأ ؟ هل يمكننا ان نرحل من عهد سياسي الى آخر ونحن لا نملك الا اسطوانة مشروخة واحدة .. علما بأن العراق كلما تقدم الزمن به تأخر كثيرا عما يجب عليه ان يكون .. بل وازداد شعبه بؤسا وفقرا وحرمانا ..

ان اركيولوجيا تاريخ العراق في القرن العشرين تؤكد حفرياتها المعرفية ان المظاهر العامة والاشاعات الرائجة والشعارات الهامشية واطلاق احكام الجزء على الكل .. لا يمكنها ان تبقى يتداولها الناس عن غفلة او جهل او سياسة من دون الوقوف بحيادية ودقة على واقع مضى فيه الخطأ وفيه الصواب .. اننا لا يمكننا اليوم وبعد مرور خمسين سنة على عهد مضى لم نزل لا نعرف عنه الا المثالب وترديد ما كان يكتبه المعارضون ، ونحن ندرك ماذا يكتب المعارضون من غث وسمين. ان ما يعيد الى الاذهان العراقية صورة الواقع كما كان عليه في القرن العشرين جملة من الحقائق من دون اجتزاء معلومة على حساب اخرى ، ومن دون اجتزاء مكان وصبغ العراق كله بصبغة ذلك المكان .. ومن دون تفسير التناقضات مهما كان نوعها تفسيرا علميا غير منقوص .. ان البنية العشائرية في ريف العراق لها من قوتها الاجتماعية الكبرى ، فهي اقوى بكثير من البنية الحضرية المدينية في المدن .. ولقد وقعت هذه الثانية تحت وطأة الاولى في الخمسين سنة الماضية في كل مناحي حياة العراق .



ثانيا : المشكلة سايكلوجية قبل ان تكون واقعية

نعم ، المشكلة في العراق كله سايكلوجية ، وهي تنظر الى نفسها فقط من دون ان تقرن نفسها بتجارب العالم .. انها مشكلة ظلم النفس على النفس وعلى الاخر .. انها مشكلة انعدام للقناعة .. انها مشكلة قرابة عشائرية وصلات قبلية تتمتع بكل صفات وتقاليد الماضي من تفاخر ونسب وثراء وانصر اخاك ظالما او مظلوما .. لقد كان الفلاح اجيرا يعمل لدى مالك الارض منذ ازمان مضت ، وليست المهنة جديدة على الاثنين ، وكان العمل لقاء حصة من المحاصيل وفق نظام المحاصصة وتختلف نسب توزيع المحاصيل باختلاف الامكنة ، وحسب نوع المحصول . وبوجه عام ـ كما كما معروف ـ يمكن القول ان حصة مجموع الفلاحين في المزرعة هي 40% وياخذ الملاك 40% والباقي 10% حصة الحكومة و10% حصص مضيف الشيخ والحارس والسركال ورجل الدين.. واختلف مع الدكتور طلعت الشيباني ـ رحمه الله ـ في تقديره دخل الفلاح السنوي في ذلك الحين انه كان يتراوح بين عشرين الى ثلاثين دينارا وان هذا الدخل لا يسد حاجات الحياة وتكاليف المعيشة حتى لو كانت حد الكفاف هذا ما قدره الدكتور طلعت الشيباني في بحثه : ( ” بعض مشاكل العراق الاقتصادية ومعرفة اتجاهاتها التطورية ” بغداد 1953 ص16 ) . ان دخل الفلاح ربما يكون اعلى من ذلك وربما يكون اقل ، حسب الانتاج اولا وحسب طبيعة العمل ثانيا وحسب نوع المحصول ثالثا ، وحسب موقع البيئة الزراعية العراقية رابعا . اما الدكتور عبدالرحمن الجليلي في ( ” محاضراته في اقتصاديات العراق ” المنشورة في معهد الدراسات العربية ـ القاهرة ص34 )ـ فقد قدر نفس ما قدره الدكتور طلعت الشيباني من دون اي مقارنة بين انتاج المحاصيل الديمية عن المحاصيل السيحية ، ومحصول القمح عن الشعير ومحصول الشلب عن القطن .. الخ .

لقد علق الدكتور هاشم جواد في كتابه ( كيان العراق الاجتماعي ص48) على قانون تسوية حقوق الاراضي رقم 50 لسنة 1932 ـ فقال: ان المبادئ التي رسمها واضع قانون تسوية حقوق الاراضي رقم 50 لسنة 32 تستمد روحيتها من وضع قديم تسوده الفوضى وترتكز اركانه على اسس اقطاعية ولهذا فقد كان تطبيق هذا القانون في بعض المناطق مدعاة لنشوء اقطاعيات كبيرة.. ومن المعلوم ان هناك شخصا واحدا يملك مليون مشارة واخر اربعمائة الف مشارة وثالث مئتي الف مشارة وهناك بعض الملكيات في الجنوب مساحة كل منها ستين الف مشارة وثمانين الف مشارة ـ وعشرة الاف..) . ان التساؤل هنا مشروع حول عدم امتلاك الفلاح للارض ، بل وطالب البعض بأن يتملك كل عراقي ارضا ، وهو طلب مشروع كون العراق ارضهم وترابهم وان عليهم ان يأكلوا من خيرها .. المشكلة ليست كما ارى في النظم السياسية التي حكمت ، بقدر ما هي مشكلة في النظام الاجتماعي .. واعتقد ان كل تلك النظم السياسية المدانة قد عجزت في ايجاد حلول لمشكلة الارض الزراعية في العراق . ان المشكلة سايكلوجية في الاساس وكانت ولم تزل حتى يومنا هذا وستبقى مثار قلق لأي نظام سياسي بسبب ما يحفل به النظام الاجتماعي من تناقضات .

ثالثا : ” الاقطاع ” في العراق !!

كتاب بطاطو ليس تاريخا مقدّسا !

يتمنى الاخ الدكتور كاظم حبيب عليّ ان اراجع الجزء الاول من كتاب حنا بطاطو وكأنني لم اطلّع عليه وعلى نسخته الاولى بالانكليزية مذ نشر عام 1978 بمجلد واحد وعرفّت به العالم ونشرت عنه اكثر من مقال واعتمدت عليه وقمت بتفكيك بعض معلوماته وانتقدت بعض مصادره وقمت بتصويب بعض ما جاء به الرجل بطاطو وقمت باعلامه شخصيا عن ذلك في اكثر من لقاء جمعني به .. ان مشكلة بعض الاخوة اليساريين انهم يتلقفون كتاب بطاطو وكأنه كتاب منزل من دون فحص كل ما جاء به المؤرخ بطاطو ، وبأي اهداف وظّف كتابه وبأي نتائج خرج منها وكلنا يدرك ان بطاطو كان ماركسيا في شبابه وعاش هوسا او فوضى فكرية في ايام كهولته ، فلقد اخطأ اخطاء جسيمة في اسقاط ما كان يراه من رؤية مسبقة على المجتمع العراقي من دون ان يعرف خفايا المجتمع العراقي وعناصره والعلاقات العضوية التي ميزته عن غيره من المجتمعات . ان من اكبر الاخطاء المنهجية ان يلجأ اكاديميون ومؤرخون عراقيون لكتاب بطاطو ، وهم باستطاعتهم تبيان حقائق العلاقات الانتاجية على الارض ، لأن هناك من يعرف دواخل كل بيئة عراقية ، وان الملكيات للارض الزراعية معروفة .. ناهيكم عن تجنب الاخطاء التي وقع بها بطاطو .. انني ادرك بأن اعجابا عراقيا لا متناهيا بعمل المؤرخ بطاطو لئن من يقرأه من غير المضطلعين بشؤون العراق التاريخية سيأخذ ما نشره بطاطو حقائق ثابتة ، وهذا من اسوأ الاخطاء ، فالرجل قد خلط بعض المعلومات بعضها بالبعض الاخر ، وفي تشكيلاته للنسب والارقام زاد وانقص من عندياته فضلا عن كونه درس العراق برؤية ايديولوجية مسبقة وهذا ما يؤخذ عليه تماما ، واذا كان بطاطو قد انهك تاريخنا الاجتماعي العراقي بفرضياته الجاهزة ، فان المؤرخ البريطاني بيتر اسلاكليت قد انهك تاريخنا السياسي العراقي باحكامه البليدة ! وكلاهما من ابعد الناس عن فهم العراق تاريخا ومجتمعا وثقافات .

اننا لسنا بحاجة الى جدولية بطاطو الا للمقارنة مع المعلومات التي بحوزتنا .. وكنت اتمنى ان يرجع كتابنا الى اطروحات عراقية وغير عراقية ليتأكدوا من الاراء التي يحملونها منذ خمسين سنة عن الاقطاع في العراق . وعليه ، فانني اود ان اعلم الاخ الدكتور حبيب بأنني مؤرخ عراقي لن يرجع الى كتاب بطاطو يستقي منه المعلومات ، بل يرجع اليه لينتقده ويوضح الاخطاء التي ارتكبها بحق تاريخ العراق وهذا ما فعلته ولعل الاخ الدكتور حبيب غير مطّلع على بعض اعمالي الفكرية ، ولكنه غير مطلع على كل اعمالي العلمية !


رابعا : البنية العشائرية في العراق اقوى من اي سلطة سياسية :

على امتداد تاريخ العراق السياسي والحضاري معا ، كان مجتمع العراق مركّبا من ثلاثة مجتمعات : اهل حضر ومدن واهل عشائر وريف ، واهل بادية وقبائل .. وكانت الفواصل بين هذه البنى مختلفة ، وشهد التاريخ صراعات متنوعة في بينها منها مستترة ومنها معلنة .. وكثيرا ما تدخلت السلطات في شؤون العشائر والقبائل .. ولكنها لم تفلح في جعلهم مادة اساسية في التبلور الاجتماعي .. ربما تستميلهم ، ولكنها لم تستطع السيطرة الكاملة على مصادر قوتهم .. وكان لعشائر العراق جملة من سنن عشائرية لم يخترعها لا الانكليز ولا نوري السعيد ، ولم يستطع القضاء عليها لا عبد الكريم قاسم ولا الشيوعيين ولا الامريكان .. انها بمثابة قوانين ملزمة تحكم العلاقة بين الفرد والفرد داخل البنية القبلية او العشيرة نفسها وتحكم العلاقة بين القبيلة وبقية القبائل . وظهر من بين رؤساء هذه القبائل والعشائر اشخاص عرفوا بالحكمة والمقدرة والكرم مارسوا دور القضاء والمحكمين ويأخذون الحق للمظلوم من الظالم . وبمرور الوقت اصبحت احكامهم سنن لا ينبغي تجاوزها ( حمود الساعدي ، دراسات في عشائر العراق ، بغداد ، 1988 ، ص 7 ) . وبعد التشكيل الوطني ، دفعت الحالة الجديدة الناس ، ليس في الريف والبادية فحسب ، بل حتى في المدن الى الالتجاء الى العصبية القبلية والى القيم البدوية من اجل المحافظة على ارواحهم وأموالهم . وبنفس الوقت فقد اتجهت العشائر الصغيرة الى التكتل في اتحادات عشائرية او قبلية لتكون قادرة على الدفاع عن مصالحها ( علي الوردي ، لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث ، ج 1، بغداد ، 1969 ، ص 18 ) . وعليه ، فان قانون دعاوى العشائر الذي الغته ثورة 14 تموز 1958 ، شكليا ، الا انها لم تستطع ان تقضي على البنية العشائرية في العراق .. ان سايكلوجية العراق تتضح من خلال صورة العراقي وهو يتفاخر بنسبه وحسبه وقبيلته وعشيرته ومحتد اصله .. ان من يراقب ما صدر من كتب خاصة بكل عشيرة او قبيلة سيندهش تماما مقارنة بما لم يصدر في اي مجتمع عربي او شرق اوسطي آخر بحجم ما كتب ونشر من مواد واسماء .. بل وغدت العشيرة مجال فخر وامجاد بالنسبة لمن ينتسب لها وما قدمته في هذه الثورة او هذه الانتفاضة او هذا الانقلاب او هذا الحزب .. الخ

وهذا نوري السعيد يقول في مجلس البرلمان ـ بعد مناقشة اضراب بغداد في 5 تموز عام 1931 ـ بسبب قانون رسوم البلديات ـ الذي عم مدن العراق ـ اذ اعترف نوري السعيد امام المجلس من انه استخدم (قانون العشائر) ضد الحوادث والطوارئ وخاصة في البصرة والتي ادت بالحكومة البريطانية الى انزال قوات حماية رعاياها ومصالحها هناك. وعند النظر الى موضوعية الاراضي في العراق ـ فيشير الواقع الى ان العراق بلد زراعي يمتاز بسعة ارضه القابلة للزراعة ففيه الانهار التي تحقق له وفرة في مياه الري ويعمل فيه حوالي خمسون بالمئة من مجموع السكان اما ان يعتمدوا على الزراعة مباشرة او بالواسطة ويصلون الى نحو الثمانين بالمئة من السكان مما جعل الزراعة اهم وسيلة من وسائل الانتاج، فحيازة الارض هدفا اساسيا للاغلبية من سكان العراق. ( د. هاشم جواد ، مقدمة في كيان العراق الاجتماعي، جمعية الرابطة الثقافية 1946 ، ص28 ـ 29 ) .



خامسا : شيوخ عشائر ام رجال اقطاع ؟؟

في محاضرتي التي القيتها في غاليري الكوفة بلندن ، سبتمبر 2005 ، اندهش بعض الاخوة الحاضرين عندما قلت بالحرف الواحد بأن ليس هناك اي اقطاع في العراق باستثناء ممارسات قاسية لشيوخ عشائر العمارة واجزاء من الناصرية ( وقد وافقني في ذلك الصديق الدكتور صلاح نيازي الذي نشأ في الناصرية ) .. ولم ازل عند كلامي ذلك لأنني ادرك بأن البيئات الفلاحية العراقية كانت ولم تزل عشائرية وقرابية صرفة ، وان ما كان يمارسه بعض الشيوخ العشائريين من قسوة بحق الفلاحين كان لاسباب ذاتية صرفة وليست لاسباب اجتماعية ، اذ لم نلحظ اي صراع طبقي بين الفلاحين ورؤساء العشائر في اغلب مناطق العراق الزراعية ، بل افصح بعضهم قائلا : كنا نستخدم القسوة ضد الكسالى والغشاشين والكذابين والسراق واللصوص وقطاع الطرق منهم ، وبعضهم كان يقول : كنا ندري ان اطنانا من الشلب تختفي بعد سرقتها ، ولكن ماذا نفعل ، انهم اولاد عمنا !! .. اما بصدد علاقات الأنتاج في العراق ، فاجدها متشابهة الى حد كبير ، بل هي نفسها في اغلب البيئات الزراعية ، ثمة روابط وعادات عشائرية متوارثة تحكمها ابا عن جد ، وهي ملتزمة بارث ثقافي وديني يتحكم بها او يتسلط عليها وربما قادها الى مشكلات قتل وثارات تصل الى حد الجريمة .. ويا ويل من يتجنى على التقاليد العشائرية .. انها والكبت والتسلط والقهر والعوز قادت الجموع الى الانتماء للشيوعية خصوصا اذا وصل التمرد الى الذروة ، وقد ينفى الفرد من العشيرة عندما ينتهك طقوس العشيرة المتنوعة الخاصة بالعلاقة بين الرجل والمرأة ، او بأخذ الثأر .. الخ دعونا نتأمل في المواصفات والنماذج التي يتميز بها الشيوخ ( من الاقطاعيين ) في العراق :

1/ الصورة الاولى : لم يكن الشيخ محمد العريبي في العمارة قاسيا على الفلاحين باستثناء آل خليفة الذين كان الفلاحون يطالبون بالمال دون ان يعملوا ! ولم يكن مشايخ وامراء قبيلة ربيعة في الكوت يتعاملون بقسوة مع ابناء قبيلتهم الواسعة ! ولم يكن كل من الشيخ بلاسم الياسين وعبد الله الياسين يتعاملان في الحي ومناطق الناصرية مع فلاحيهم الا بتلك القسوة التي وصفا بها ! يتردد الحديث عن قساوة الشيخ موحان الخير الله مع فلاحيه في مناطق بالناصرية .. اما الشيخ سالم الخيون زعيم قبيلة اسد في بحيرة الحمّار والجبايش وكرمة علي والعمارة ، فكلنا يعرف سيرته النضالية والسياسية ومطالبته بحكم جمهوري للعراق قبيل تأسيس الملكية العراقية ، فضلا عن دوره في استصلاح الاراضي الزراعية وعنايته بالفلاحين .

2/ الصورة الثانية : وقد حدثّني صديقي الشيخ سامي ابن الشيخ موحان الخير الله عن الاسباب التي كانت تدعو الشيخ اتباع وسائله من اجل العمل والانتاج ودفع الضرائب .. ولم يزل آل الخير الله شيوخا ولهم كلمتهم ، ولم يستطع اي قانون ان يستل العلاقة العشائرية التي تربط الفلاحين بشيوخهم .. بل وجدت ان الاف الفلاحين ترك الارض حتى بعض اصدار الاصلاح الزراعي ليأتي يعيش في صرائف حول المدن الكبيرة ! ومن شيوخ مشائخ شمر كان الشيخ عجيل الياور وابنه الشيخ احمد الذي يعد واحدا من اكبر الملاكين للارض الزراعية ، لم اشهد من قراءة تاريخ قبيلة شمر بفرعيها من الياور والمطلك قد مارست القسوة مع ابناء قبيلتها ابدا .. كنت اجد الشيخ بين افراد قبيلته وثمة اعتزاز متبادل بين الشيوخ والفلاحين وتبدو العلاقة بدوية صرفة .. ولكن ثمة صراعات ومناكفات قبلية وعشائرية بين هذا الطرف او ذاك لاسباب لا علاقة لها بالارض وانتاجها .

3/ الصورة الثالثة : لم اجد القسوة عند شيوخ قبيلة الجبور وامرائها في مناطق عدة من بلاد الشام والعراق قد مورست مع الفلاحين ، وعلى رأسهم شيخ مشايخهم عبد العزيز المسلط وكم كانت العلاقات وشيجة بينه وبين ابناء قبيلته ! لم اجد شيوخ العزة في مناطق ديالى قد اضطهدت فلاحيها وكلنا يعرف سيرة الشيخ حبيب الخيزران وعلاقته بالفلاحين .. لم يمتلك شيوخ عشائر الفرات الاوسط كآل الجريان في الحلة ولا شيوخ شرقي دجلة ولا شيوخ الانبار مناطق هائلة المساحة ، كانوا يعتزّون بمشيخاتهم العشائرية اكثر من كونهم اصحاب ارض .. كانت ممتلكاتهم من الارض ذات مساحات صغيرة ولنا ان نفحص آل جويبر في سوق الشيوخ والعزة في ديالى والعبيد والبو حمدان في الحويجة وآل سليمان في الرمادي والانبار .. انتقالا الى آل فتلة ( بفرعيهما الكبيرين آل فرعون وآل سكر ) ومنهم في المجر ( برواية الصديق الدكتور كامل كمونه ) وآل السعدون وآل العطية .. وكل ممتلكاتهم كانت ذات مساحات صغيرة وكانت المشخاب مركزيتهم لانتاج الشلب ( التمن / الرز ) ويقال ان الشيخ هديب الحاج حمود في الشامية بالديوانية كان يعتني بالفلاحين عناية فائقة ، والرواية معروفة انه كان يجلب الاحذية المطاطية الطويلة (= الجزمات ) لكل الفلاحين من اجل المحافظة عليهم من البلهارزيا ، كونهم يعملون في حقول الشلب المائية وينتجون اجود انواع الرز بالعالم (= عنبر شامية ) .. ربما ليس للمحافظة عليهم ، بل من اجل الا تصيبهم البلهارزيا ويؤثر ذلك على مصالحه !

4/ الصورة الرابعة : ولقد جذبتني معلومة تاريخية تقول بأن اولاد الاقطاع واولاد الفلاحين يدرسون في مدرسة واحدة وصف واحد .. يكتب ذو النون أيوب في كتابه ( للحقيقة والتاريخ ) النص التالي : ” وانهى عبد الكريم قاسم دراسته الثانوية دون تلكؤ .. ويظهر ان ظروف العائلة كانت أقسى من ان تساعده على الاستمرار في الدراسة ، فتركها وتوظف معلما في مدرسة ابتدائية ، في الشامية من اقضية لواء الديوانية ، حيث يتعلم الفلاحون وابناء رجال الاقطاع جنبا لجنب . وان النبيه البقظ لتثيره الفوارق بين الطبقتين .. ” ( ص 69) . اما نواحي بغداد ، فلقد انتشر بنو تميم وتنبؤنا الاخبار بأن طبيعة العلاقات كانت على احسن ما يكون بين شيوخهم من آل السهيل الشيخ علي واخوانه وبين كل الفلاحين من آل تميم المنتشرين في كل من غربي بغداد وشمالها . اما بين بلد وسامراء ، فكانت اكبر الاراضي بيد الشيخ عبد العزيز ابراهيم الصالح الاسماعيل ، وكان يعامل فلاحيه بالحسنى والمعروف سواء كانوا من آل درّاج او من غيرهم في الطويرانية والمجمّع في ناحية الاسحاقي ، وكان ان صودرت منه الاراضي الزراعية التي كانت منتجة بدرجة كبيرة وقد تركها عام 1959 ليستقر ببغداد ، فيضعف انتاجها وتصبح نهبا للصراعات .

5/ الصورة الخامسة : وننتقل الى سهول الموصل ، فلم نجد اي اقطاع مسيطر على الارض والانسان .. كانت المساحات صغيرة ويمتلكها ملاكون قدماء يقطنون في المدن ويناصفون الفلاح الانتاج فهم اصحاب الارض والبذور والمكننة والتسويق وما على الفلاح الا العمل من حراثة وزراعة وحصاد .. ويعتبر كل من سهل الموصل وسهل اربيل من اغنى اراضي العراق والشرق الاوسط قاطبة بانتاج القمح والشعير .. اما ممتلكات الاكراد من الارض فهي تابعة بمساحات مختلفة للشيوخ والاغاوات التي تسيطر عليها الروح العشائرية أيضا لا الاقطاعية سواء في اربيل ام السليمانية .. ولم يضطهد الفلاح الكردي اضطهادا ذاتيا ، بل ربما وقع تحت طائلة الصراعات القبلية العشائرية والتي كانت مستعرة الى تاريخ قريب .. الخ

ماذا نستنتج ؟

وعليه ، لو سلمّنا بوجود ” اقطاع ” في العراق ، فهذا ما لمسناه في العمارة وبعض اجزاء من الناصرية فقط ! اما بقية انحاء العراق ، فليس هناك أية علاقات اقطاعية كالتي صبغ بها تاريخ العراق الاقتصادي ظلما وعدوانا .. ان غالبية شيوخ العشائر كانت تمتلك سندات التفويض بالطابو لأراضي العشيرة والتي كانت تدعي بـ ” الديرة ” ، وتعريفها : انها مساحة من الأرض التي تأوي العشيرة التي اعتادت زراعتها أباً عن جد ، وهي ارض اميرية مملوكة للدولة ، ولكنها مفوضة بالطابو باسماء شيوخ العشائر .. وكان استثمار الأرض يتم طبقاً للأعراف والتقاليد التي تلتزم العشيرة بها ، وكان لكل اسرة في العشيرة لزمتها الخاصة ، بما فيها اسرة الشيخ .. وكانت العشائر في جنوب العراق والادنى من الفرات الاوسط هي التي تضطلع بكري الجداول والنهيرات وبناء السدود وفتح الترع .. وكلها تتم باسلوب التعاون وبتلقائية من قبل الجميع بما فيهم طاقم الشيخ . وكلنا يعرف ان الفلاحين انقلبت على شيوخها في كل من العمارة والناصرية يوم 14 تموز 1958، اذ لم نجد اية ثورات وانتفاضات وانقلابات فلاحية ضد شيوخ الديوانية ولا الكوت ولا الانبار ولا ديالى ولا شهربان ولا الحويجة والعظيم ولا الموصل ولا اربيل والسليمانية ..


29 ديسمبر 2007


تابعوا الحلقة السادسة

شاهد أيضاً

ملف: إمكانية حكم دكتاتور عادل للعراق.. حوار عراقي مصري بين الدكتور سيّار الجميل والأستاذ عبد الله كمال على روز اليوسف المصرية

مقدمة كتب الصديق الأستاذ عبد الله كمال عضو مجلس الشورى المصري ورئيس تحرير كل من …