الرئيسية / النقد السياسي والتاريخي / (الدولة الحديثة): لحظة تأمل في شروطها التاريخية

(الدولة الحديثة): لحظة تأمل في شروطها التاريخية

” الدولة ” كالانسان ـ كما وصفوها ـ ، فهي تولد وتنشأ وتكبر ثم تهرم وتزول .. و” الدول ” اصناف شتى صغرى وكبرى ، اعتيادية وامبراطورية ، مسالمة ومعادية ، معمّرة ومنتحرة ، مركزية واتحادية .. الخ ولا دول من دون مجتمعات ، فالدولة في تعريفها المختزل : مجموعة مؤسسات . والمجتمع هو الشعب ، اما الوطن فهو الارض / التراب . هذا الثلاثي الذي يمّيز كل بلد عن غيره بين جغرافيته المحددة وتاريخه الحافل .. ” الدولة ” تبقى حتى نهاياتها ، ولكن ” النظام السياسي ” يتغيّر من عهد لآخر ، ربما يتجدد سلما .. او ينقلب بانقلاب عسكري او ثورة عارمة . ان التاريخ يحدثنا بأن منواله قد شهد نماذج لا تعد ولا تحصى من دول متنوعة .. ان ابرز من اعتنى بـ ” الدولة ” ومفهومها هو ابن خلدون الذي قدر عمر الدولة الاعتيادية بـ 120 سنة ، في حين امتدت اعمار الدول العالمية الى عدة قرون: كالبابلية والاشورية والراج والساسانية والرومانية والبيزنطية والعباسية والعثمانية .. الخ .

” الدولة ” لا يمكن صناعتها بسهولة ، وان اي دولة جديدة تتوارث من سبقها من دول ، وتضفي على نفسها جملة تطورات واسعة لتستقيم حياتها مع الزمن المتقدم .. وربما مّرت ” الدول ” بظروف وتحديات صعبة ، ولكنها تجابهها وتنتصر عليا ان كانت مؤهلة للاستجابة ، او انها تفشل ويذهب ريحها ان عجزت عن المجابهة . الدولة من شروط وجودها ان تكون في خدمة المجتمع الذي انبثقت منه لترعاه ولا يمكن ان يحصل العكس ، وان حصل وغدا المجتمع في خدمة الدولة ، فانها تحولت الى دولة مستبدة بهيمنة زعيم دكتاتور! وتتباين اساليب حياة الدول تباينا واسعا ، وكل دولة تختط دستورا لها شريطة ان ينبثق من ارادة الشعب ويعبر عن آماله وطموحاته ، ويحدد طبيعة شكل الدولة ومؤسساتها ..

ان دولنا في الشرق الاوسط كانت قد انبثقت عن طور الاستعمارين البريطاني والفرنسي في القرن العشرين ، وقد كانت وريثة دول عاشت ثم بادت ، واستطيع القول بأن البريطانيين والفرنسيين اكثر خبرة ومعرفة في تأسيس الدول والكيانات السياسية مقارنة بالولايات المتحدة الامريكية التي فشلت حتى الان في ذلك .. وهنا اود القول بأن ” الدولة ” لا يمكنها ان تكون بديلا عن ” الوطن ” ، فلا يمكن النضال عقودا من السنين من اجل تحرير وطن وفي النهاية ينقسمون على تكوين ” دولة ” .. اي دولة !

هنا ، يبدو للمؤرخ ان القوتين الاستعماريتين السابقتين كانتا تنظران الى مصالحهما البعيدة في حين ترى الولايات المتحدة كل العالم من خلال مصالحها القريبة فقط ! وتبقى مسألة ” الدولة الحديثة ” ومقوماتها ، فمثلا يعد تأسيس وانطلاق دولة الامارات العربية المتحدة منذ 2 ديسمبر 1971 حتى اليوم مثالا حيويا على نجاح اتحاد ضم 7 مشيخات قديمة في نظام فيدرالي اتحادي توفرت شروطه كاملة فنجح نجاحا ساحقا ، اسوة بغيره من التجارب الاتحادية القوية مثل المانيا وسويسرا وكندا ..

ان واحدا هو الابرز من شروط الانتصار يتمثل بقوة التلاحم بين الدولة ومجتمعها .. اذ متى ما شعر المواطن انه المالك الحقيقي لمؤسساته ، فقد ساهم في ترسيخ العلاقة بينه وبين ” الدولة ” .. ومتى ما شعر بأنه غريب على مؤسساته ، فهو يبقى يكره دولته وكل من يتعامل معها ، بل ويوّرث كراهيته الى ابنائه واحفاده على عكس من يتفانى في سبيل دولته ويورّث عشقه لها الى ابنائه واحفاده .. وهنا يأتي دور الزعامة الريادية التي ربطت بين الدولة والمجتمع .. ان اسماء مثل : بسمارك او غاريبالدي او غاندي او اتاتورك او عبد العزيز او فيصل الاول او بورقيبة او تيتو او صن يات صن او زايد أو راشد او مانديلا وغيرهم ستبقى خالدة الى الابد كون اصحابها قد عرفوا كيف يساهموا في تكوين علاقات جديدة بين المجتمع والدولة ، وبرزت دولهم الى العالم موحدة بعد انقسامات تاريخية طويلة .

ان ” الدولة الحديثة ” لا تقوم الا من خلال مجتمع حديث يمتلك وعيه الوطني ويشعر ان قوته هي سر نجاحه .. انها لا تقوم ابدا في ظل انقسامات دينية او مذهبية او طائفية او تعصبات عرقية وقبلية تهدد وحدتها وكيانها ، ناهيكم عن عوامل اخرى لا يمكنها ان تكون ابدا في عملية التأسيس او حتى النضوج. ان الصراع على السلطة رهان خطير اخر قد يتبلور ضمن صور التآمر وانعدام الثقة بين المؤسسات واخطرها انقلابات المؤسسة العسكرية ـ برأي ماكس فيبر ـ . ان من شروط الدولة الحديثة استقرارها وامنها الداخلي واساليبها في تحقيق العدالة الاجتماعية والتحديث الاداري والمؤسسي والتنمية الاقتصادية ، فضلا عن مسالمتها جيرانها وانفتاحها على العالم بعد ازمان من الانغلاق او التبعية . ان الارادة الشعبية ان التقت مع صناع القرار ، فانها خطوة اساسية يترجمها الزمن يوما بعد آخر الى العالم كله عبر التاريخ .

ان الاعلام ينبغي ان يترجم ايضا حكاية الواقع مهما كان صعبا ومريرا ، ومن الشروط المفكّر فيها انما يتمثل بالتخلص من كل آثام الماضي واتعابه ، وان يحل خطابا عقلانيا لا حالما ، وعمليا لا خياليا ، ومعرفيا لا ايديولوجيا ، ومتمدنا لا متخلفا .. الخ كلها مستلزمات وشروط تأسيس ” دولة ” تتوفر فيها كل الشروط التاريخية لا السياسية فقط ، من اجل ان تستمر وتعيش .. لتنمو وتتطور . ان آخر ما يمكنني قوله هنا ان ” الدولة الحديثة ” لا يمكنها ان تقوم على مشاهد ونصوص وخطابات انتقائية من الماضي مهما كانت لوائج جمهورية افلاطون الفاضلة رائعة .. فلكل عصر دولة ورجال ..



www.sayyaraljamil.com

البيان الاماراتية ، 5 ديسمبر 2007

شاهد أيضاً

على المشرحة.. لا مواربة سياسيّة في الحوار العلمي (الحلقتان الثالثة والرابعة)

ثالثا : الاحرار العرب : مستنيرون لا خونة ! 1/ اخطاء تاريخية وتحريف للتاريخ ويستكمل …