الرئيسية / النقد السياسي والتاريخي / رهانات فاضحة بلا نهايات واضحة

رهانات فاضحة بلا نهايات واضحة

لا يمكن لأي مراقب أو محلل متمكّن أن يحدد طبيعة الاستراتيجية الأميركية التي تزداد خطورة وغموضاً بعد انهيار المنظومة الاشتراكية، بل وتسجل المؤرخة كاثرين بيرك في كتابها الجديد (من عالم قديم إلى عالم جديد) بعض النتائج المهمة التي كان يدركها الساسة الانجليز منذ خمسين سنة. ولماذا تتصف السياسة الأميركية دوما بالغموض وعدم الكشف عما تريده وترسم له وتخطط من اجله، اعتقد أنها حالة طبيعية لأي دولة كبرى مثلها وعلى غرار من سبقها من الامبراطوريات، ولكن ثمة إجماعا على أنها بدأت هكذا منذ نهايات القرن 18 وحرب الاستقلال والثورة الأميركية حتى امتدادها نحو العراق والشرق الأوسط في بدايات القرن الواحد والعشرين!.
دعوني أسجّل ملاحظاتي على تصريحات الجنرال ريكاردو سانشيز القائد السابق للقوات الأميركية في العراق عندما رسم ـ مؤخراً ـ صورة قاتمة لأوضاع العراق، ولكن في الوقت نفسه نقرأ تصريحات مخالفة لما وجهه سانشيز من انتقادات حادة لاستراتيجية الإدارة الأميركية في غزو العراق واحتلاله، اذ وصف المهمة الأميركية في العراق بأنها (كابوس لا نهاية واضحة له). ولا ادري ان كانت له مصداقيته عندما يقول بأن ( السبب هو الأخطاء السياسية التي ارتكبت واستمرت بعد إسقاط النظام السابق في العراق ). كما وصف قادة سياسيين أميركيين (بضعف الكفاءة والفساد). وانهم كانوا سيواجهون محاكمة عسكرية بتهمة (التقصير في أداء الواجب) لو كانوا يعملون في صفوف الجيش. ويخلص بالقول: ان أفضل ما تستطيع القوات الأميركية القيام به في الوقت الراهن هو (ان تتجنب الهزيمة).

ان من السذاجة بمكان الاقتناع بتصريحات كهذه، اذ نعلم ان الأميركيين قد عرفوا أكثر من أي آخرين بالحفاظ على مصالحهم القومية ومنظومتهم الاقتصادية والإدارية مهما كان الثمن، فالنظام الأميركي ماكينة تعمل من تلقاء نفسها، وتعرف ليس ما تريده فقط، بل ما تخطط له لسنوات قادمة، أنها ليست من السذاجة بمكان أبدا. بحيث ترتكب أخطاء جسيمة لا تحاول تصويبها، بل ولا تراجع نفسها في تعديل سياساتها في العراق خصوصا بعد مضي قرابة خمس سنوات لهيمنتها عليه.
فما هي أخطاؤها في نظر الجنرال المتقاعد سانشيز؟ وهو الذي قاد قوات التحالف لمدة عام ابتداء من 2003، فلقد عّبر عن تشاؤمه حيال الوضع في العراق، بالقول: إن ما يحدث فيه هو نتيجة أخطاء عسكرية ساعدت في ظهور وصعود التمرد المسلح. ومن ابرز تلك الأخطاء حل المؤسسة العسكرية، والفشل في ترسيخ وتقوية العلاقات مع زعماء القبائل، وعدم الإسراع في إقامة حكومة مدنية عقب السقوط، معتبرا الاستراتيجيات الحالية، وبضمنها خطة زيادة القوات بمعدل 30 ألف جندي والتي شرع في تطبيقها في وقت سابق من العام الحالي، أنها (محاولة يائسة) لإصلاح الأخطاء التي وقعت في السنوات السابقة بفعل السياسات المضللة. وانتقد شانشيز بشدة السياسات لعامة للبيت الأبيض، وغياب القيادة القادرة على معارضة تلك السياسات في وزارة الدفاع (البنتاغون).
لا احد ينكر تلك الأخطاء ، ولكن أهي أخطاء عفوية أم مقصودة؟ لو افترضناها عفوية، فلقد لاحت في الأفق في الساعات الأولى للسقوط مدى أهمية صناعة الفوضى في العراق، ومدى القدرة على التشهير بأحداث معينة والتعتيم على أخرى، ومدى التراخي في ممارسة المسؤولية في الداخل وخصوصا بإبعاد القوى والعناصر العراقية الكفء لإدارة الشأن العراقي. والقدرة الاعلامية والسياسية الفتاكة التي قسمّت المجتمع إلى تكوينات قومية وشراذم طائفية وزرع هذا الاسفين في قعر العراق، والتبشير بعملية سياسية لا تخدم مستقبل العراق بصناعة قوى وميليشيات وجماعات متصارعة. وإبقاء الحدود مع دول الاقليم مفتوحة من دون أي مساءلة، وحماية وزارة النفط العراقية فقط من دون الوزارات الأخرى، الخ ان العالم سيكتشف يوما ان هكذا (أخطاء) هي التي أصرت الولايات المتحدة على ممارستها ولا تزال تمارسها حتى الآن من دون اي تبديل أساسي او بدائل أخرى، ويصف سانشيز الأوضاع الحالية في العراق بمنتهى القتامة، قائلا ان القوات الأميركية وجدت نفسها في حالة مقيدة، وان أميركا لا خيار أمامها سوى الاستمرار في جهودها في العراق. وردا على تصريحاته، فلقد قيل له ان العراق يحرز تقدما. كما جاء على لسان بتريوس والسفير كروكر، علينا ان لا نعتقد بأن الإدارة الأميركية فقدت قدرتها في السيطرة على انفعالاتها، وانها لم تعد قادرةً على ضبط سلوكها السياسي العام؟ وان كل ما يقال عنها لا أساس له من الصحة. فهي مدركة لكل دقائق الأمور وان خططها بعيدة المدى وأنها مقتصدة في البقاء ضمن استراتيجيتها التي رسمتها للعراق (وربما للشرق الأوسط ).
ويمكنني القول، ان منطقتنا ستشهد جملة مفاجآت وأحداث، وخصوصا في العراق، وستتطور الأحداث ضمن خطط مرسومة ووقائع معلومة اندفاعا نحو الانتخابات الأميركية التي ستكون نقطة فاصلة بين مرحلتين، ان الصراع السياسي بين الجمهوريين والديمقراطيين في أميركا سيحدد مصير العراق لمرحلة قادمة تكثر اليوم عنها كل التكهنات.

نخلص إلى ان الأميركيين غير مستعدين للتنازل عن استراتيجيتهم جمهوريين كانوا ام ديمقراطيين، وازعم، ان ما يحدث في العراق هو بداية لما سيحدث في المنطقة عموما، اذ لا يمكن لأميركا ان تتخلى أبداً عن قوتها وسمعتها ومصدر حيويتها. وان أهم بقعة تعد مصدراً أساسياً للطاقة في القرن الواحد والعشرين، وستبقى الإدارة بهذه أو تلك مصرة على مواصلة نهج اتبعته منذ اللحظة التاريخية الأولى وأدى إلى إثارة عواصف سياسية دولية وإقليمية اعتراضاً على خطوات اعتبرت انقلابية على نهج استراتيجيات وسياسات اتبعت في القرن العشرين وخصوصا أيام «الحرب الباردة». فهل لنا القدرة على استكشاف غموض السياسة الأميركية؟ انني لا أعتقد ذلك!.



البيان الاماراتية ، 14 نوفمبر 2007 .



www.sayyaraljamil.com

شاهد أيضاً

على المشرحة.. لا مواربة سياسيّة في الحوار العلمي (الحلقتان الثالثة والرابعة)

ثالثا : الاحرار العرب : مستنيرون لا خونة ! 1/ اخطاء تاريخية وتحريف للتاريخ ويستكمل …