الرئيسية / النقد السياسي والتاريخي / تاريخ العراق بين التعّصب والتشويه !!

تاريخ العراق بين التعّصب والتشويه !!

ان قياس احكام التاريخ لا يمكنها ان تتم بمعزل عن اتساع الرؤية وقوة المنهج ومقارنة للاحداث وتثبّت من الوقائع .. ولعل من اسوأ ما تترّبى عليه الاجيال ان تمتلئ عقولها بالتحيزات وتتشّبع بالاهواء .. وتتّربى على هوس معين او فوضى لا اخلاقية .. في حين يتطلب منا الامر عكس ذلك كله وخصوصا في العراق الذي يعيش اليوم صراعا عميقا بين تمرّد الاهواء وبين الفكر الحر .. بين الحيادية وبين التعصّبات .. بين الوطنية وبين الانتماءات .. بين مشروع حضاري وبين فوضى الولاءات . ان الفجيعة تكمن ببعض الكّتاب والمثقفين العراقيين الذين لا يعرفون الا رؤيتهم الضيقة جدا للحياة والامور ، وهي رؤية لا تقتصر على الناس العاديين ، بل تنتقل وبفجاجة لا نظير لها لدى المثقفين والساسة والنخب المتماهية مع هذا ضد ذاك او ذاك ضد هذا .

لقد زادت في هذا العصر المتردّي كل موبقات العراقيين تجاه تاريخهم .. لقد كان العهد السابق يفرض على الجميع رؤيته الاحادية للتاريخ من دون اي حيادية ولا اي موضوعية ، واليوم تجد العراقيين وقد انقسموا ازاء تقييم تاريخهم وابطال الماضي الصعب منذ اكثر من الف سنة .. انهم يرفعون عهدا معينا او زعيما معينا او حركة معينة او حزبا معينا الى اعلى السموات في حين يجعلها عراقيون آخرون في اسفل سافلين ، بل واستمعت قبل ثلاثة اشهر في الاردن الى محاضرة لأحد المثقفين العراقيين جعل كل العراقيين اقواما من المتوحشين الذين لا يعرف تاريخهم الا العنف والدم ، وخلط الاخضر الحضاري بسعر اليابس السياسي وبطريقة فجة لا يمكن قبولها ابدا !!
في مثل هذه المرحلة من انطلاق الفوضى العارمة لا الحريات الحقيقية تتكتشف ” حقائق ” لم تكن موجودة سابقا بفعل الانغلاق والكبت وممنوعات الماضي السابق في حين تحولت الاوضاع الفكرية من تكوين مناخات لحريات صحية الى فوضى قيمية وطائفية .. اجدهم يرون في خليفة عباسّي معين مؤسسا لعاصمة ودولة وزعيما ورائدا لا يمكن ان نجد له مثيلا في الوجود .. ولكنه في نظر عراقيين آخرين مجرما وسفاكا للدماء وخائنا للامانة وظالما ومستأصلا شأفة الاسلام والمسلمين .. جماعة ترى في مجتمع العراق كل العفونة والقتل والعنف وحب الدماء منذ القدم حتى وصل الامر ان يوصف كل العراقيين بـ ” بالوعة ” بحاجة الى غطاء اسمه نوري السعيد او عبد الكريم قاسم !! وآخرون يمجدون ويتفاخرون بهذا الشعب العظيم الذي لا يمكن ان نجد من مثله ابدا في كل الدنيا وكل الوجود مهما كثرت فيه الالاف المؤلفة من الخاسئين ( كذا ) ـ كما كان يسميهم صدام حسين ـ .. جماعات حزبية ترى في تاريخ العراق نضالات احزابها فقط ومعاناة مناضليها من طبقة البروليتاريا العاملة والفلاحين المسحوقين .. او فئات المثقفين او المهنيين من القوميين البورجوازيين من دون الاعتراف بأي خطأ من الاخطاء او جناية من الجنايات .. ويوجهون عسف كتاباتهم فقط ضد خصومهم السياسيين !! وكأن كل فصيل يمتلك تاريخا نقيا صنعته الملائكة ، ومن دون مراجعة حقيقية لما سجله العراقيون عبر تاريخهم من جنايات هوس العسكر والمتحزبين المتعصبين ازاء ابداعات المثقفين من نخب المبدعين !
ان جيلا ملوثا كاملا في طريقه الى الرحيل بعد انبثاقه في عصر التناقضات الايديولوجية وكان ولم يزل لا يرى في تاريخ العراق الا نفسه من دون اي رؤية واسعة للتاريخ وعوامل متغيرات الحياة .. ان ثمة متطفلين على التاريخ من هذا النمط الذي لا يريد سماع كلاما كهذا ، بل يصمت ازاء حالة ويثرثر في حالة اخرى .. ان المتطفلين من المؤدلجين لا يختلفون في تعصباتهم عن المتطرفين الدينيين الذين لا يرون في تاريخ العراق الا تاريخهم وحدهم وتاريخ طائفتهم فقط ! انهم لا يعرفون اي نسبية للتاريخ فكيف يعرفون نسبية الحياة .. ؟؟ ومن المفجع ان تكتشف خواءهم الثقافي قبل ان يفضحهم عريهم السياسي ! ان ما يؤلم حقا ان يبقى جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية على نفس شعاراته وضمن اهوائه ولم يتعلم من كل ما صادفه من اهوال عبر خمسين سنة ! ان اقسى ما يمكنني تجرّعه ان أجد المناضلين الراديكاليين ( الوطنيين ) القدامى يحملون على عملاء الامس حملات شعواء ولكنهم يسبحون بحمد عملاء اليوم !
ان تناقضهم مفضوح تماما ، فهم ساخطون على الاستعمار وأذناب الاستعمار في كتاباتهم الطفيلية للتاريخ ، ولكنهم يمجدون الوجود الامريكي في العراق وان سألتهم عن سر هذا ” التناقض ” لا يجيبون ! فمن زمن طويل ذهب باسمهم شهداء وضحايا من قبل الامبريالية العالمية .. ولا ادري كيف رحبوا اليوم بالوجود الامريكي على ارض العراق ؟ واذا كانوا على امتداد حياتهم من الثوريين والكادحين والراديكاليين والكفاحيين المسلحين .. فهل من حقهم ان يكونوا فجأة من الليبراليين ؟ واذا غدوا كذلك ، فهل من حقهم شتم خصومهم السابقين ؟ انهم ليسوا من الليبراليين الاحرار ولا من الراديكاليين الثوريين ابدا ، فان كانوا كذلك لعرفوا كيف يتقبلون من يخالفهم سياسيا سابقا او يصّرون على مبادئهم اليوم ..
وعليه ، فانني اطالبهم ان يرتزقوا في مجال آخر غير كتابة التاريخ ، فالتاريخ معرفة ومنهجية ووسطية وموضوعية حيادية فلا تعصب في كتابة التاريخ العلمية .. وان يتعلموا من المؤرخين الجادين المحترفين الحياديين كتابة التاريخ وكيف تتم الحفريات فيه وكيف نعيد قراءة العراق بلا كراهية وبلا سذاجة وبلا احقاد وبلا بقايا الاولين والاخرين .

www.sayyaraljamil.com

الف باء ، 24 سبتمبر 2007

شاهد أيضاً

على المشرحة.. لا مواربة سياسيّة في الحوار العلمي (الحلقتان الثالثة والرابعة)

ثالثا : الاحرار العرب : مستنيرون لا خونة ! 1/ اخطاء تاريخية وتحريف للتاريخ ويستكمل …