الرئيسية / حوارات / حوار مع المفكّر العراقي سّيار الجميل… سؤال الجسد العراقي.. الفلسفة المغّيبة بين البشاعة والجمال

حوار مع المفكّر العراقي سّيار الجميل… سؤال الجسد العراقي.. الفلسفة المغّيبة بين البشاعة والجمال

أجرى الحوار
الشاعر احمد عبد الحسين
محرّر القسم الثقافي في الصباح البغدادية
حين أقول “أنا” فأنا لا أشير إلى جسدي. في الحقيقة كلّ اشارة إلى الذات تتضمن نحواً من استبعاد الجسد، كأنما “أنا” وجسدي شيئان متناقضان، أو ان هذا الجسد الذي يحملني “ربما أنا من أحمله” فائض عن حاجة الذات لتتكوّن.
قلّما أُخذَ سؤالُ الجسد على محمل الجد في الثقافة العراقية، لم يُتَفكَّر فيه مديداً، لم نرَ ما حدث للجسد في الفن والأدب العراقيين، كيف عُرضَ وكيف عُبِّرَ عنه في منحوتة أو لوحة أو نص شعريّ؟ هل المنع والقسر اللذان مورسا على الجسد المكتوب رجعُ صدى لضروب المنع والإكراه التي تعرض لها الجسد خارجاً في الشارع والبيت والثكنة؟
ماذا عن الإشهار الفضائيّ الذي كرّس تنميطاً للجسد العراقيّ: جسدٌ هو جثة ممددة حولها أجساد منكسرة تنحني عليه، جسد المرأة المغطى بسواد الفجائع، أو في فترة سابقة جسد الطفل المريض مرفوعاً كعلامة إدانةٍ للحصار؟
غياب الجسد بأسئلته عن مسرح الثقافة العراقية …. ألا يترك المشهد الأخير ناقصاً بانتظاره؟ كيف يمكن أن يقال الجسد العراقيّ الآن؟ أين تجده معبراً عنه؟ ألم يحن الوقت لأن يقول أحدنا “أنا” ويقصد بها ذاته التي هي أولاً وقبل كل شيء جسده الذي يطل به ومن خلاله على العالم ، ولا يمكن للآخرين أن يلتقوه إلا متلبساً به؟
ما الذي يثيره فيك قول نيتشه: في كل حديث عن الروح ربما كنا نتحدث عن الجسد ولا ندري؟
هذه حزمة أسئلة توجهنا بها إلى المفكّر العراقي الاستاذ الدكتور سيار الجميل :

* قلّما أُخذَ سؤالُ الجسد على محمل الجد في الثقافة العراقية، لم يُتَفكَّر فيه مديداً، لم نرَ ما حدث للجسد في الفن والأدب العراقيين، كيف عُرضَ وكيف عُبِّرَ عنه في منحوتة أو لوحة أو نص شعريّ؟ هل المنع والقسر اللذان مورسا على الجسد المكتوب رجعُ صدى لضروب المنع والإكراه التي تعرض لها الجسد خارجاً في الشارع والبيت والثكنة؟
ـ يبدو لي ان ليس هناك أي معنى محدد لمفهوم الجسد في الثقافة العراقية بالرغم من ان قدماء العراقيين كانت لهم طقوسهم ومنحوتاتهم وافكارهم وفلسفاتهم المتنوعة عن الجسد .. فالجسد في العراق القديم كما افهمه كواحد من رعيل المؤرخين العراقيين المعاصرين ، انما يمّثل قمة التناقض الصارخ بين الاهتمام به بل وذروة الحياة ليس عند الانسان حسب ، بل حتى عند الحيوانات التي صرف الانسان دهورا طويلة بالاهتمام بها وبرسوماتها ومنحوتات اجسادها .. رؤوسها وجذوعها واجنحتها وقوائمها .. وبين بشاعات تاريخ الدول الامبراطورية العراقية القديمة وما فعلت بالاجساد وخصوصا في الامبراطوريتين البابلية والاشورية .. بل ووصل الامر الى ان يكون الجسد موضوعا حيويا في تناقضات الحياة لا بعد الموت ، وهنا نقطة الخلاف التي يبتعد فيها العراقيون القدماء عن قدماء المصريين الذين آمنوا بالجسد وخلوده بعد الموت فحنطوه ونصبوا فوقه الاهرامات .. ومن هنا نستجلي الفرق الشاسع بين العقليتين العراقية والمصرية منذ العصور الغابرة في تاريخ الشرق الاوسط . نعم ، الفرق كبير بين عقليتين عقلية تؤمن بالجسد والمادة وعقلية تؤمن بالروح والمعنى ! ولكن الاولى ان جعلت الجسد الميت انموذجا لها في الحياة ، فان الثانية جعلت الجسد الحي انموذجا لها في الحياة !
تسألني : كيف ؟ دعني أوضّح لك وأجيب :
تبدو الصورة التاريخية واضحة تمام الوضوح بالرغم من كل التناقضات العراقية بين الحياة والموت وبين الابداع والتوحش .. ان اجساد العراقيين القدماء لها قوتها وحيويتها في الحياة ، بل ان الانسان في العراق عاش لاحقاب طوال وهو يبحث عن سر للخلود في الحياة ( = كلكامش في الاصل مثالا خلاّقا ) وخلق التحديات العظمى حتى في اساطيره الخالدة ( = الطوفان في الاصل مثالا خلاقا ) .. بمعنى انه أحب الحياة وعشق رموزها ولعل الجسد يعد اهم رموزها ، وهنا يفترق العراق الحضاري عن العراق السياسي منذ القدم افتراقا حقيقيا.. ان الجسد العراقي هو موضوع غاية في الاهمية لدى العراقيين المتحضّرين ، بل والجسد في اقصى غايات طهره من خلال تعميده بمياه دجلة وغسله ليبدو في اقصى حالة من الحيوية والسمو .. ولكن ثمة تناقض صارخ بين عشق العراقيين للاجساد والاعتناء بها والترميز بها وتطهيرها وهم في اقصى درجات التحّضر الانساني .. وبين مشروعات قتل الاجساد وتشويهها والتمثيل بها ورخص بضاعتها والمتاجرة بها في اسواق النخاسة على امتداد العصور الوسطى ، بل وسحلها وتقطعيها وهم في اقصى حالات التوحش السياسي في العصر الحديث ..
بل ان ثقافة مزدوجة مثل هذه تحمل سمات احقاب طوال لا يمكن تخّيل ما الذي نستكشفه من احداث ووقائع غاية في الشراسة والعهر على امتداد تاريخ العراق السياسي المضمخ بالدماء والمتشرّب بالترسبّات .. بل وان سمات تلك الاحداث والوقائع التاريخية تبدو في الذهنية العراقية اليوم ، بل وحتى في اللاوعي الجمعي مجرد حالات طبيعية في حين انها تعني حالات مرضّية لا يمكن البقاء في اطار رضاها المقنّع بالاكاذيب والتفاهات والخرافات والاساطير والفواجع والبكائيات .. فمن اجل تطهير الروح تعّذب الاجساد طويلا .. ومن اجل تطهير النفس من الاثام ومن الشعور بالذنب تضرب الاجساد بالحديد حتى تنّز دما ، بل ويستخدم اللطم على الجسد رمزا لتطهير الذات .. وحتى يصل الى اقصى مدياته بالبكاء الذي لا سبيل لايقافه عندما تتفجر العاطفة العراقية لاعلى مدياتها .. ولعل الجسد هو الوحيد الذي تعّرض في الثقافة السياسية العراقية الى التعذيب بشتى صنوف الوسائل المؤلمة سواء لانتزاع اعترافات او لأخذ ثارات او لتصفية علاقات او للتلذذ بالمشاهد والالام المبرحة .. ان ثقافة الجسد عند العراقيين ثقافة متنوعة بين المستويات الاجتماعية ، ولكن بقي هذا ” الموضوع ” من القضايا المسكوت عنها دهرا طويلا .. خوف تجريح النفس العراقية من دون ان يفّكر العراقيون تفكيرا سويا عما يفعلونه في كل بيئة من بيئاتهم ، وعمّا يجعلهم اصحاب عاطفة سوية ..

ماذا عن الإشهار الفضائيّ الذي كرّس تنميطاً للجسد العراقيّ: جسدٌ هو جثة ممددة حولها أجساد منكسرة تنحني عليه، جسد المرأة المغطى بسواد الفجائع، أو في فترة سابقة جسد الطفل المريض مرفوعاً كعلامة إدانةٍ للحصار؟

ـ لم نتوقف ابدا سواء في مرحلة الاعلام المرئي والفضائي او ما قبلها من مراحل على دعوات صريحة وقوية تطالب بتطهير ثقافتنا العراقية الاثمة من ذلك العهر التاريخي الذي تعّرضت له اجساد مثقفين كبار او سياسيين مناضلين لهم ادوارهم .. او صغار الاطفال بل وغدا مصطلح ” التصفية الجسدية ” مشاعا في ثقافة الاحزاب الثورية العراقية صاحبة مبادئ العنف الثوري وهي تعلن بكل وقاحة بأنها تقدمية وطليعية وحضارية .. ومن دون أي احساس بالخيبة او بالذنب او الجرم .. ومن دون أي وازع اخلاقي يوقف مهزلة التاريخ العفنة .. لقد عاش عقلاء واحرار في العراق لا يرضون تلك الممارسات الدموية ضد اجساد البشر وقد امتلكوا الوعي بما كانت عليه الاحوال ، ولكن الخوف كان يرافق الصوت ليبقيه كتوما حتى الموت .. وبموضوع الجسد ، ومن دون طرحه على أصعدة عدة فى الأدبيات المعاصرة وما نشر من شذرات في هذا الباب فهو قليل جدا مقارنة بما حدث في تاريخنا العراقي الطويل .. صحيح ان الجسد لم يكن محورا للتفكير ، ولكنه الوسيلة الاسهل لتبرير كل المصالح الشخصية والفئوية والثأرية والسلطوية والسياسية .. وكيف يتّم التشفّي عند العراقيين بنهايات الخصوم والتلذّذ بمشاهد الاجساد وهي ميتة بالقتل او التعذيب او الاغتيال او السحل .. الخ من البشاعات ! ولا اعتقد ابدا ان كل ابناء المجتمع العراقي هم من هذا الصنف ، اذ نجد بيئات اجتماعية ربما عربية وربما غير عربية لا تمتلك مثل هذه الثقافة المخزية التي ينبغي ان يتخّلص منها المجتمع العراقي خلاصا نهائيا باعادة بناء مناهج تربوية ومدرسية وسايكلوجية وسوسيولوجية في تكوين المجتمع .
ربما يخرج علينا من ساخط او ناقد او متفلسف من اولئك الذين لا يريدون فضح الحقائق اذ لا يرى هؤلاء العميان كل الحقيقة ولا يتأملون في اية تداعيات ولا أية تأثيرات .. ربما كان ذلك في مجتمعات اخرى ولكن ليس بالحجم الذي عرفه العراق ! وهنا ينبغي القول بأن ما يتوفر من مراجع لا تعتني بالجسد ابدا في فلسفاتها جعلت الانسان في العراق بعيدا عن التسامي ، انه بدل ان يجعل الجسد اداة حيوية للحياة والابداع والطهر والجمال .. جعله اداة للعهر والقتل والتقطيع والسحل .. انني اسأل نفسي مرات عدة : لماذا قطعوا رأس الامام الحسين (ع) بعد حّزه وقتله امام اهله وعياله وطافوا بالرأس من مكان الى مكان ؟ اهذه مكافأة لمصداقيته والاعتزاز بأرومته ؟ لماذا خنق بعض الخلفاء العباسيين خنقا او سملت عيونهم سملا ؟ لماذا كان يتم قطع الرؤوس بسهولة وتعليقها ؟ لماذا كان تشويه الجسد والنيل منه يشبعان رغبة غير مدركة ؟؟ لماذا قتل ابن المقفع قتلة شنيعة بوضعه جسدا عاريا على مسامير حادة في تنور وبعد ان نزف طويلا اوقدوا التنور ليسجر حيا ! اهذه مكافأة المثقف عالي المستوى في الحياة العراقية ؟؟؟ .. وذاك الملك الصالح الذي اتوا به عاريا ليدهنوا جسده بالسمن والعسل ويتركوه مربوطا على عامود في قلب الصحراء حتى تجتمع عليه الحشرات والذباب لتأكله وهو حي !! وذاك الوالي العثماني علي باشا ابان القرن الثامن عشر الذي سام اهل بغداد بعنجهيته وسطوته ، فثاروا عليه وربطوا رجله بحبال وجروه حيا في ازقة بغداد حتى تهشّم رأسه وجسده وفارق الحياة .. وهذا الامير عبد الاله الذي حكم العراق وكان وصيا على عرش الملك فيصل الثاني للفترة 1939 – 1952 سحبوا جثته البيضاء ليسحلوه في شوارع بغداد عاريا ، ثم يعلقوه على عامود الكهرباء ويقطعوه اربا اربا ، بل ليقطعوا ذكره ويضعوه بفمه .. ليصبح الجسد شكلا مقززا امام الجماهير العراقية المحتشدة التي تصفق وتزغرد !! وما حدث لصاحبه نوري السعيد رئيس الوزراء العن وأقسى وامر عندما افرغ وصفي طاهر وكان مرافقا له سابقا رشاشته في جسده وهو ميت واخذوا جثّته ليراها الزعيم عبد الكريم قاسم ، وبدل ان يدفنوها سلمّوها للعراقيين ، فسحلوها وعاثوا بها وجعلوا السيارات تمر فوق جسده بعد سحله لتدق عظامه دقا !! وامثلة لا تعد ولا تحصى عما صنعه العراقيون باجساد العراقيين وهم احياء .. وما حدث في حركة عبد الوهاب الشواف بالموصل عام 1959 وما حدث من افعال منكرة والاحكام التي اصدرتها الكوميونات الشيوعية في مديرية الشرطة بالمركز العام وفي ردهات الثانوية الشرقية والعبث بالاجساد احياء واموات من سحل البشر في الشوارع في الدملماجة وتعليق المرأة على عامود الكهرباء بعد سحلها ليبعث على الغثيان ! بل وغدت الحبال رمز ثقافة عراقية عندما تتدّلى في اروقة محكمة !! ومن المؤلم ان لا تجد احدا يستنكر تلك الافعال وينتقدها ويتدارسها حتى يومنا هذا وخصوصا ممّن فعلها ومارسها وصفق لها من العراقيين !
ولقد استمرت تلك الثقافة لدى الجانب الاخر ، ففي العام 1963 ، عندما قتلوا عبد الجبار وهبي وهو المثقف الشيوعي المعروف ( ابو الفنانة المعروفة انوار عبد الوهاب ) يضعه الانقلابيون البعثيون عاريا ويربطوه فوق سرير حديدي ويوقدوا تحته الشموع حتى يموت بالحرق البطيئ وجسده ينز نزّا .. بل ويفتخر صالح مهدي عمّاش احد زعماء 8 شباط 1963 وهو يحّدث الرئيس جمال عبد الناصر من ان الانقلابيين قتلوا الاف مؤلفة من الشيوعيين ! واستمرت هذه الثقافة لتعّبر عن نفسها باخزى الافعال ، اذ نقف على قصة الفريق الركن عبد العزيز العقيلي احد اعضاء هيئة الضباط الاحرار ووزير الدفاع الشهير في عهد عارف .. القي القبض عليه بعد العام 1968 ، فكانوا يضعونه عاريا فوق مدفئة ” علاء الدين” وهي تعمل حتى شل نصفه من العذاب ومات ميتة مخيفة ! وشامل السامرائي وزير الوحدة الذي كان في زنزانته عاريا مات بعد ان سلخوا جلده عن لحمه ، وكأنهم يسترجعون سلخ العراقيين القدماء لاجساد العبيد !! وقصة عذاب رشيد مصلح .. وقصة مصرع محمد عايش وكان وزيرا بعثيا واصله من الطبقة العاملة .. قطعوا لسانه بطريقة لا يمكن تخيلها .. وطاهر يحي رئيس الوزراء المعروف جعلوه يرقص امام السجناء والدكتورعبد الرحمن البزاز رجل القانون الشهير ورئيس الوزراء .. بقي ينظف السجن من كل اوساخ السجناء حتى غدت هيئته على غير البشر ! والسيد محمد باقر الصدر اشعلوا لحيته ومثّلوا به .. والدكتور راجي التكريتي الذي ادخل على حلبة مسيجة ومحكمة لتأكله الكلاب الجائعة بوحشية متناهية !
ازاء كل هذا وذاك لا يمكن ابدا ان يقبل تبرير أي عراقي مؤدلج لتلك الاعمال المخزية التي يستلزم الاعتراف بها والتنكر لها من قبل كل من صفق لها .. اما الجسد العراقي اليوم فلقد تلاشت قيمته وانسحقت كرامته بشكل عام ومخيف .. وما نجده من قطع الرؤوس علنا امام العالم كله نساء ورجالا .. او تفجير السيارات المفخخة وحتى صور اليوم البشعة في فقأ عيون شباب سنة او شيعة لأسباب طائفية في مناطق من بغداد وغير بغداد تسيطر عليها مليشيات وعصابات جاهزة للقتل انما هي تعبير عن مخزون هائل من الرغبة بقتل الاجساد وشهوة التمثيل بها !
هل يمكننا ان نكتفي بسرد الامثلة والنماذج من دون التعمق طويلا في فلسفة هذا التوحّش الاجتماعي ، وهذه العدمية لكل مقاييس الحياة وانعدام الاخلاق ؟؟ .. بل وان السكوت سيجعل من هذه الامراض الاجتماعية اوبئة تاريخية ليس لحاضرنا ، بل لكل مستقبل البلاد التي طالما تشدقنا بحضاراتها وثقافاتها .. فلا يمكن ان نشهد التضادات بمثل هكذا تنافر ! بل ليبدو الامر كما لو اننا نعيش ـ حقا ـ حياة الغاب .. وحتى حياة الغاب ، بل أي جنس لا يمكن ان يكون ضد بني جنسه .. ان الجسد ليبدو بلا ثقافة عند العراقيين ، وان العراقيين لا يمكن اعتبارهم كلهم يحملون هذا الوباء ، بل ان هناك من الاطياف الجميلة المسالمة التي تتطهر باكرام ليس روحها حسب ، بل حتى جسدها .. ولكن يذهب كل الجمال العراقي بسعر اشنع صور البشاعة العراقية ! ان هناك من العراقيين من لم يقو على قتل طير وديع .. ولا يمكنه ان يتخّيل ما حدث في تاريخ العراق ولكن كم هو حجم امثال هؤلاء ؟ انني دوما اقول ومن خلال دراستي المتواضعة لتاريخ العراق وتكويناته الاجتماعية وثقافاته البيئية بأن هذه الارض الكلاسيكية قد استوطنت فيها نماذج بشرية غريبة جدا ، وكل منها يحمل ثقافة ضارة من نوع ما .. وان التوحّش والبلادة والثأر والتخّلف والتفاهة .. نتاج ترسبّات تاريخية لثقافات وافدة وطارئة على العراق ولم تزل تفعل فعلها على مدى الف سنة من تاريخ العراق وهي التي قتلت في العراق كل نزعاته الحضارية ونهشت ولم تزل كل رقيّه الانساني .

غياب الجسد بأسئلته عن مسرح الثقافة العراقية …. ألا يترك المشهد الأخير ناقصاً بانتظاره؟ كيف يمكن أن يقال الجسد العراقيّ الآن؟ أين تجده معبراً عنه؟ ألم يحن الوقت لأن يقول أحدنا “أنا” ويقصد بها ذاته التي هي أولاً وقبل كل شيء جسده الذي يطل به ومن خلاله على العالم ، ولا يمكن للآخرين أن يلتقوه إلا متلبساً به؟

ـ ان علاقة الإنسان بجسده في أساسها تتم عبر مفهوم ثقافي اجتماعى يختلف من بيئة عراقية إلى أخري ومن عصر زمني إلي آخر ، إذ إن الجسد ـ كما اقول دوما في محاضراتي ـ هو الهيئة التى تحدد هوية الإنسان ، وهو الموقع الصغير الذى يربط الإنسان بالموقع الأكبر ، واذا كان الجسد هو الاصغر ، فان الكون هو الاكبر ، وبينهما هذه الارض الجميلة التي بات الانسان يدمرها يوما بعد يوم .. كما أن حركة الجسد وقدراته الحيوية وطهارته في الموقع بمثابة تعبير رمزى يختزل حركة الزمان الكونى ـ نسبياً ـ ضمن البعد الخامس في عدد السنوات التى يحياها الجسد ، ونتيجة لهذا كله ينبغي ان يتضمّن الفكر المعاصر فلسفة الجسد ويعنى بدراسة الجسد.

ارجع الى سؤالك حول الجسد العراقي لأتساءل : هل يدرك العراقيون الذين يبدو انهم توارثوا ترسبات غاية في القسوة وامتهان الجسد ان هذا العصر قد عمّق احاسيس الانسان بجسده ، وان احترامه قد زاد لجسده وقلل من غائية الروح التي لم يعد يهتم بها كما كان يهتم بها في السابق وذلك بحكم ما وصل اليه الانسان من قدرات على خلق التشيؤات وابتعادا عن المعاني ! لقد قمت بحوار احدى الطالبات الجامعيات في احدى الجامعات البريطانية عندما زرت كلية سانت انتوني بجامعة اكسفورد شهر سبتمبر 2005 وهي تقوم بحملة ضد التحّرش الجسدي منطلقة من فلسفة تقول ان المجتمع الغربي قد استرخص الجسد من خلال ما كانت تفعله الممثلة الامريكية الراحلة مارلين مونرو وامثالها من الغربيات عندما كن يعرضن مفاتنهن على العالم ، مما غرس فكرة في عقول كل الشرقيين بأن اجساد النسوة الغربيات رخيصة .. وكانت تنتقد ظاهرة مارلين مونرو في القرن العشرين انتقادا لاذعا ، كونها ظاهرة اعلامية خلقت في العالم ثقافة تسترخص اجساد النسوة ! تستطرد قائلة : وعليه ، لابد ان يدرك العالم ان الجسد هو اثمن ما يملكه الانسان وان مسؤولية الحفاظ عليها من مسؤولية المجتمعات البشرية قاطبة !! .. ويبدو ان الانسان قد منح نفسه فرصا افضل للحياة من خلال احترامه لجسده .. ان من يستهين باجساد الاخرين فهو مهين لجسده هو نفسه .. ومن له القدرة على صناعة البشاعة في قتل الاجساد ، فهو يقبل امتهانها واستخدامها في شتى الاغراض الرخيصة .. فلا ينفع ابدا ان التنطّع بالحجاب والسواد والعباءات وهو يقتل الاخرين بتصفية اجسادهم ، او حتى النيل من اجساد الاخرين .. وعلى الانسان ان يحترم اجساد الاخرين ويعتز بها بقدر ما يحترم جسده ويعتز به !
لقد كانت كل من الاديان السماوية والدنيوية وكل الفلسفات تحترم الاجساد الى حد التحريم ” وفي الأسطورة اليونانية القديمة ، تناصب ( أنتيجونا) مليكها العداء وتقف فى مواجهة سكان المدينة التى تركت جثة أخيها في العراء بلا دفن تنهش فيه الطيور الجارحة ،لقد تعاطفت الآلهة مع أنتيجون امتثالاً لقداسة الجسد الإنسانى وحقه فى التكريم ، على الرغم من النظرة إلى الميت كخائن لمدينته ويستحق الموت ، ولم يكن فن التحنيط عند القدماء المصريين سوى صورة من صور احترام الجسد وتحريمه حتى على ديدان الأرض وعوامل التحلل الطبيعية ، ومن ثم كانوا يكتبون على المقابر عبارات تذكر بتحريم العبث بجثث الموتى وتذكر بعقوبة من ينبشون المقابر، وعموماً فإن احترام الجسد وتقديسه هو مقوم ثقافى عرفته جميع الحضارات القديمة ” .. وفي اليهودية والمسيحية والاسلام اعتزاز بالجسد يصل الى حد التكريم في الحياة او عند الموت ..
وفي كل العصور ، اهتم الانسان بجسده وخصوصا في عصرنا الراهن الذي جّند فيه جملة من العلوم البايولوجية والطبية لخدمة الجسد وصيانته والابقاء على جمالياته واجراء جراحات فيه واستحداث الافضل من خلال الجينات الوراثية .. في حين تتلاشى المجتمعات المتخلفة في قتل الانسان وتشويه جسده وقطع رأسه او فرم اعضائه او جعل الاجساد قطعا سوداء فاحمة .. بعد حرقها . ان الانسان يجرم كثيرا في استخدامه ابشع الاسلحة الفتاكة كادوات قتل وتفجير وتفخيخ وقصف ودك وحرق وكيميائيات ونابالم واسلحة دمار شامل .. تصل الى حد الاسلحة الجرثومية .. وكلها محرمّة في استخدامها ليس ضد الانسان حسب ، بل ضد الحيوانات والطبيعة والنباتات في كل البيئات .
ان تجارة الاعضاء البشرية وما تلقاه من رواج دلالة واضحة على حدوث تناقضات في بناء علاقة الانسان بجسده من الناحية الاخلاقية .. بل وان استنساخ البشر هو اخطر ما وصل اليه الانسان اليوم في التلاعب بخريطة الجينات .. فكيف سيكون عليه الحال في المستقبل امام هذا التغيير الذي يتعلق بالجسد الإنسانى على نحو مباشر مثل الإجهاض وزواج المثليين والأبحاث الخاصة بخلايا المناعة ، إن هذه السياسة التى تضع الجسد فى إطار أخلاقى لا تتورع عن حرق الاف مؤلفة من البشر في هيروشيما وناغازاكي ، وتنتهك حرمة الجسد على نحو فج فى السجون والمعتقلات .
*هل من كلمة أخيرة ؟
على أى حال ، فإن موضوع الجسد الذى ظل لعدة قرون مسكوتاً عنه ، أصبح الآن موضوعاً حيويا يلح على التفكير ان يأخذ منه مداه واهتمامه ، وهنا ينبغي على المثقفين والمبدعين والادباء والفنانين العراقيين ان يولوا هذا الجانب اهمية بالغة من خلال طرحه ودرسه ومعالجة اشكالياته فى سياق (سسيوثقافى عراقي بحت ) وبمناهج أكثر جدية وفلسفة اكثر موضوعية بدلاً من تجاهله أو تركه مختفيا او جعله لعبة ودمية بأيدي العابثين والقتلة وفى أيدى المتلاعبين والمغرضين والمرضى والمعقدّين والمجرمين البشعين .. انها فرصة رائعة يطرحها علينا الصديق المثقف الشاعر الاستاذ احمد عبد الحسين من اجل معالجتها بهدوء وتفكير تام من اجل غاية نبيلة في عراق اليوم .. ولأن صيانة الجسد واحترامه ، وإن كانت تعبر عن أصفى درجات الحرية الفردية إلا أنها لا تتم إلا فى سياق مجتمعى كأى موضوع ثقافى نهتم به ونعالجه وندرسه فى إطار وعى عام بالجسد ، وعلى درجة متوازنة من الوعي والدراية والادراك لدى كل أفراد المجتمع ، وهنا يأتي دور الدولة ومؤسساتها كافة في اعتماد المجتمع عليها كونها ليست راعية حسب ، بل انها تبقى دوما في خدمة المجتمع ، فالفرد لا يمكنه حماية جسده ، وإنما تحميه القوانين والأعراف والضوابط الاجتماعية ، ومن ثم فأمر الجسد يخص الشرائع والقوانين كما يخص صاحبه بالذات ، واذا كانت الشرائع والاعراف تتعارض مع الحرية الفردية الشخصية ، فلابد من العمل على تغييرها ، فالانسان لا يمكنه ان يطور حياته ومجتمعه وانسانيته من دون ان يشعر بحريته ، فالحرية الشخصية هي مقدّسة ، وانها فى جوهرها تضمن حياة الفرد وتحمى جسده ، ذلك الجسد الذى يعبر بدوره عن الحرية الفردية كصورة للذات .
واخيرا اقول ، إن الحاجة باتت ماسة في ان نرّسخ ثقافة من هذا النوع في مجتمعنا العراقي ومن خلال كل من اوتي علما وفهما وخلقا وابداعا ، ذلك ان علاقة الإنسان العراقي المعاصر بجسده والتى يمكن التعبير عنها خلال المظاهر الاجتماعية والثقافية والتكنولوجية الحديثة لا يمكن فهمها إلا خلال فهم سوسيو تاريخى لوعى الإنسان بجسده ، وان تتماثل الاجساد العراقية مع الطبيعة وتتحد معها وفيها ، ليس فقط فى قيمتها ولكن ـ أيضا ـ فى صفاتها ووظائفها ، ولعل اروع وصف سمعته من احدى معارفي البغداديات قبل سنوات طوال عندما كانت تصف تسريحة شعر المرأة العراقية بالصورة التي ترسمها غصون النخلة المتدلية وهي تجتمع شامخة في الاعالي .. وكأن الطبيعة العراقية تخلق جماليات الانسان وقبحه معا .. فهل سيتمكن ابناء العراق من ازالة أي ترسبات من القبح ، لكي يبدون متناغمين مع كل هذا العالم ويخلقون الانسجام الرائع بين الطبيعة والجسد ، وبين الكون والجسد .. ان ذلك ما آمل حدوثه في يوم من الايام ! ومن اجل ان تقول الاجيال القادمة : ها قد تخلص العراقيون من كل مثالب التاريخ وانتكاساته وعادوا الى طبيعة وادي الرافدين .. واخذوا يرسمون اجسادهم ويحافظون على نفوسهم ويخلقوا منها اشياء جميلة للعالم .

الصباح البغدادية
15 نوفمبر 2006

شاهد أيضاً

ملف: إمكانية حكم دكتاتور عادل للعراق.. حوار عراقي مصري بين الدكتور سيّار الجميل والأستاذ عبد الله كمال على روز اليوسف المصرية

مقدمة كتب الصديق الأستاذ عبد الله كمال عضو مجلس الشورى المصري ورئيس تحرير كل من …