الرئيسية / افكار / هل يتغّير العالم نحو الأفضل !؟؟

هل يتغّير العالم نحو الأفضل !؟؟

ربما سيتساءل المؤرخ في المستقبل عن أسرار تغيّر العالم بين القرنين العشرين والواحد والعشرين عندما يكتشف حجم الزمن الضيق الذي دخل العالم إليه .. وكم أصبحت ظواهر التاريخ مجردة من عظمتها الكلية وهي تجلس على تخوم التفكير الجزئي ! وكم ترّدت أفكار الجيل الجديد بتأثير الثورة العولمية والرقمية ومات التأمل والتفكير الحر .. ولم يعد الإنسان يمتلك وقتا لتبادل الأشعار ولا الرومانسيات ولا التحليق في تأملات الحياة والطبيعة والكون ! كم حدثت هناك من تبدلات على مستوى النزعة الفردية وكم أصبحت ” الديمقراطية” مستهلكة في المصطلح والمعنى معا ؟ كم تدمّرت القيم الاجتماعية وأصبحت الشمولية تأكل المجتمعات وتسحق المشاعر وتنحر التأصيل ! كم غدت السرعة والتقليد والهذيان عناوين لكل الأشياء .. كم غدت الثروات والكارتلات مشاعة لدى الطفيليين والبدائيين في عالم متوحّش وبإحجام غير متخّيلة أبدا ؟ كم ازداد العنف كثيرا عما كان عليه ليعّم الارهاب العالم كله ؟ وكم زحفت الرذائل لتتغلغل في اعماق النفوس ودواخل البنى الاجتماعية ؟ كم فسدت العلاقات الإنسانية اثر انحسار الضمير والجشع وتفاقم المصالح وشبكاتها المخيفة ؟ وهذا التضخم السكاني الهائل لم يقابله تطور في العقل والثقافة ؟ مع أزمات الغذاء والماء والطاقة في هذا العالم ؟
استطيع القول إن غياب الانعكاس الثنائي في التاريخ بعد انهيار توازن العالم قد اخضع الدنيا كلها إلى هياج التناقضات وممارسة أسوأ أساليب الحكم وكوابح في تربية الاجيال .. كلها قادتنا إلى التهلكة ، فاغتيلت المجتمعات في حروب قاتلة وعمليات مدمرة وتجارب فاشلة وتفجيرات مروعة .. بل وتبلور صراع في الثقافات تترجمه صدامات جديدة تنال من الحياة حتى في قلب أوروبا وأمريكا .. وبقدر ما نعيش من إخفاقات مريرة في هذا العالم ، فان الواقع يترجم نفسه عن سذاجة دول كبيرة في التعامل مع دول صغيرة ، وعن انقسام العالم بين جياع في الجنوب ومترفين في الشمال .. عن غيبوبة الفكر والفلسفة العميقة إلى حد كبير حتى في أوروبا الغربية .. وحتى إن وجد فلاسفة كبار اليوم ، فلا يمكنهم أن يقفوا مع صوت الشعوب المقهورة كما وقف من سبقهم في القرن العشرين .. وعندما افتتح الرئيس الأمريكي الشهير ولسن مطلع القرن العشرين بجملة مبادئ سلم ، فان الرئيس الأمريكي الحالي جورج بوش قد افتتح عهده في القرن الواحد والعشرين بمبادئ حرب ، وإذا كان الأول قد نجح في كسب ود العالم كله إليه ، فلقد فشل الثاني في كسب ود حتى أبناء بلاده !
إن استمرار انقسام الدنيا بين عالمين غير متكافئين ، أي بين شمال وجنوب ، سيخلق جملة هائلة من المتاعب ! انني ارى بأن كلا من العالمين قد اصبح في حالة صراع وتصادم بين مصالح ومنافع واطماع .. وهذا أمر لا يستخف به أبدا خصوصا إذا علمنا بأن متطلبات الشعوب تزداد يوما بعد آخر ، وان فرص تنظيم الحياة الاجتماعية باسم بعض المبادئ السياسية إنما تشكّل نوعا من المرجعية المعيارية التي لا تتوافق حتما مع أساليب العولمة ونظمها الصعبة وان تعدد الأنماط لحياة مشتركة قد لا تتوافق عليها شرائح المجتمع الواحد ، فكيف نضمن ممارسات سيادية وميدانية فاعلة في إدارة شؤون الحياة الاجتماعية عبر علاقات سلطة وسلطة موازية .. والأمر لا ينحسر بمجتمعات عالم الجنوب ، بقدر ما تتفاقم مخاطره أيضا في عالم الشمال الذي بدأت فيه جملة مشاكل للجاليات أو مشاكل البطالة أو مشاكل الطبيعة والصحة ..
لقد سيطر كل من الخطابين السياسي والإعلامي على أنفاس الحياة اليوم في العالم كله ، فلم يعد احد يلتفت إلى المثقفين ولا إلى الفلاسفة ولا إلى الأكاديميين ولا حتى النخب الفكرية أو الفئات النقابية .. بل ولم تعد مشكلات العالم ( وخصوصا عالم الجنوب ) تثير هلع واهتمام المفكرين العالميين الكبار أو الصغار كما كان يجري في القرن العشرين واهتمامهم بمشكلات العالم الثالث ـ كما كانوا يسمونه ـ ! إن الحياة تتيبّس يوما بعد آخر بفعل تبلور التكتلات العالمية التي تهمها كيف تكاثر الثروات وكيف تغدو برمائيات بين بر الشمال وماء الجنوب لتستحوذ حتى على ما يستحصله الباعة المتجولون في عرباتهم التي تزدحم بها شوارع المدن التعيسة !
إن العالم بالرغم من إيمانه بالديمقراطية كأسلوب حياة وتعامل وتربية وأصول ، فان تجاربها السياسية تكاد تكون فاشلة في أجزاء متنوعة من عالم الجنوب ، ليس لما تحمله من مبادئ ولكن لسوء الخطاب الذي يسوقّها سريعا في مجتمعاتنا أولا ، ولسوء أساليب استلابها وتطبيقاتها بشروط طائفية أو عرقية أو مذهبية أو عشائرية أو طفيلية بدائية ثانيا.. مما افقد الناس الثقة بها خصوصا وأنهم لم يتربوا على أية مبادئ ديمقراطية كالذي عاشته الشعوب الأخرى منذ قرنين .
إن من أولوياتنا أن نقّرب حجم الهوة بين عالمي الشمال والجنوب ، إذ لا يمكن ان يبقى عالم الجنوب يستهلك المصنوعات ويحرق الزمن ويتنكر للواقع ويهمش الأذكياء ويتلذذ بالماضي ويعشق الذات ويمقت القراءة ويكره الموضوع ويهجر الأوطان ويعبد الانوية ويتلبسه اللاوعي وتفزعه النقدات وتفككه الانقسامات وتشرذمه الطوائف وتستبيحه التناقضات .. وبنفس الوقت على عالم الشمال أن يراعي الحقوق ويساعد الآخر ويتفهم المآسي ويسمح بالانسجام ويكف عن التعبئة والاعلام المضاد ويتوقف عن الغطرسة ويتخّلص من المافيات ويكبت الشرور وينفي الكراهية ويثق بالعالم ويتقاسم المصالح ويراعي فقراء العالم ويبعث الشراكة ويتوقف عن الانتقام ويحترم المشاعر .. إن العالم لا يسير في تغييره نحو الأفضل إلا بعد توظيف خطاب العقل والكف عن غوغائية الضياع .. فهل سترضي كلماتي هذا العالم ؟ انه يزداد ضراوة من اجل مستقبل مجهول سيعج بالانهيارات الخطيرة.

www.sayyaraljamil.com

البيان الاماراتية 1 نوفمبر 2006

شاهد أيضاً

مطلوب لائحة اخلاق عربية

تعيش مجتمعاتنا العربية في حالة يرثى لها، لما أصابها من تفكك سياسي جعلها تتمزق اجتماعيا، …