الرئيسية / قراءات اخترتها لكم / هيكل والتاريخ البلاستيك 1 – 2 … علي عبود معدي

هيكل والتاريخ البلاستيك 1 – 2 … علي عبود معدي

-1-
سبق لي أن قرأت مقتطفات من بعض كتب ومقالات الأستاذ محمد حسنين هيكل وخصوصاً (بصراحة) لكن أول كتاب من كتبه قرأته كاملاً كان: (حرب الخليج.. أوهام القوة والنصر)، وقد دهشت من أسلوب هيكل الذي اتبعه في رصد وتحليل أحداث واحدة من أكبر الأزمات التي مرت بالأمة العربية والإسلامية بل بالعالم بأكمله، كما تعجبت من طريقة الأستاذ في عرضه لتاريخ ذلك الحدث الكارثة!!. حيث تحرر الكاتب الكبير من قيود التوثيق والتحقيق فكان كتابه ذاك أشبه بعمل روائي أكثر منه تحليل سياسي ورصد تاريخي لحدث مهم.
وكان هيكل قد أصدر هذا الكتاب باللغة الانجليزية من قبل وبشكل مختلف بعض الشيء بما يتناسب مع القارئ الغربي واهتماماته، نشرته دار Collins Harber التي يملكها الناشر اليهودي المشهور روبرت مردوخ. وقد قوبل الكتاب بإهمال تام من قبل الصحافة العالمية في بداية الأمر، إلى أن علق عليه الكاتب الصحفي والمعلق السياسي ديفيد برايس جونز في الصندي تايمس – المملوكة لمردوخ أيضاً – تحت عنوان: (أحلام اليقظة)، وقد سخر من الكتاب والكاتب فكان مما قال: (.. وفي عرضه للمناورات الدبلوماسية للحملة يقدم هيكل اسكتشات شيقة بل مسلية عن زعماء العالم وهم يهرعون للتليفون يبثون مخاوفهم وحساباتهم لبعضهم البعض وهو لا يقدم أي مصدر لهذه المحادثات الخاصة التي لا يمكن التحقق من مصداقيته عنها، ولكن لا ضير فالأمر لا يخرج عن هذا الذي تخيله هيكل!!).
عندما قرأت تعليق جونز لأول مرة في كتاب (الفضيحة) للاستاذ محمد جلال كشك – رحمه الله -، وجدته منصفاً ومحقاً فيما قال وموافقاً لانطباعي عندما فرغت من قراءة الكتاب. وقد تناول الأستاذ كشك هذا الكتاب بنسختيه الإفرنجية والعربية بالنقد والتحليل ففنده تفنيداً موثقاً، وذكر القارئ بما سبق له من مراجعات على كتب هيكل وخصوصاً ما يتعلق بتاريخ الحقبة الناصرية، حيث أفرد فصلاً كاملاً في كتابه عن ثورة يوليو بعنوان: (التاريخ البلاستك وهيكل..) والكتاب بأكمله وبصفحاته السبعمائة – وكما يقول المؤلف -: (يدور أساساً حول تزوير هيكل للتاريخ..) وقد جاء هذا الكتاب استكمالاً لما بدأه الأستاذ جلال كشك في كتابه المشهور: (كلمتي للمغفلين) الذي قرر فيه أن يقول كلمته لهذه النوعية من الناس بعد أن هاله ما تزخر به كتب الناصريين من صنوف التجهيل والتضليل، متعهداً ب:
٭ ألا يقدم واقعة واحدة غير مثبتة المراجع.
٭ أن يعتمد بالدرجة الأولى على شهادات الناصريين.. والمصادر الأجنبية التي لا تحتمل الشك.
وللرد على السؤال الذي قد يتبادر إلى ذهن القارئ: لماذا التركيز على هيكل؟ يجيب المؤلف: (ليس للمكانة التي احتلها هيكل في العصر الناصري – تلك المكانة التي تشكل في حد ذاتها سؤالاً ضخماً بل عريضة اتهام حافلة للنظام الناصري – ولا لأنه هو المتصدي الأكبر للترويج للناصرية، بل لأنه أحد الحلقات الرئيسية في العلاقة الأمريكية – الناصرية..) وقد جاء في كتاب (حبال الرمال) لولبر كراين إيفيلاند ممثل البنتاغون في صفقات السلاح مع مصر في عهد عبدالناصر.. إن المخابرات المركزية الأمريكية قد جندت هيكل منذ بداية الخمسينيات. وهو ما دفع جلال كشك إلى أن يعبر عن غضبه الشديد لسكوت محمد حسنين هيكل، على هذه الاتهامات الخطيرة، فلم يقاض مؤلف ولا ناشر الكتاب. ولكن يبدو أن وراء الأكمة ما وراءها، فقد وجه بعض زعماء وكُتاب وساسة، ذات التهمة إلى هيكل، الذي لاذ بالصمت أو قدم تبريرات لا تقنع أحداً. كتب السيد رائد العطار – أحد الضباط الأحرار – مقالاً في جريدة الأهرام، العدد الصادر بتاريخ 23 أغسطس 1977م تحت عنوان: (الموقف الراهن) فقال: «.. والذي يقرأ التحريضات اللفافة الدوارة للسيد (بصراحة) الناصري محمد حسنين هيكل ضد أمته، ويتذكر ما كان يكتبه ضد واشنطن لحساب جمال عبدالناصر، مما يصعب الخلاف بين مصر وأمريكا يومئذ، وسوف يدهش – حقيقة – من هذه العلاقة المقلقة في شخص السيد (بصراحة) أو في أمثاله، وذلك عندما يقرأ على سبيل المثال لا الحصر، ما كتبه رجل المخابرات الأمريكية مايلز كوبلاند من علاقة السيد (بصراحة الناصري) بالمخابرات المركزية الأمريكية، في الوقت الذي كان يهاجم فيه أمريكا، هذه العلاقة التي كشف عنها الرئيس السوفيتي نكيتا خروتشوف في مواجهة تاريخية أمام جمال عبدالناصر، وقد اتهم هيكل بأنه قبض من المخابرات الأمريكية مبلغاً حدده له بشيك ذكر رقمه وبتاريخ محدد….). ولم يكذب الأستاذ هذا الاتهام ولم يرد على الجريدة أو الكاتب. وفي السياق ذاته يؤكد الدكتور سيار الجميل – أستاذ التاريخ في جامعة الموصل وفي عدد من الجامعات العربية والكندية – أن:.. في الأرشيف قضايا كثيرة لهيكل لو استخدمت استخداماً عادياً فستصيب منه مقتلاً.. ذلك أن جملة كبيرة من الوثائق تتضمن معلومات خطيرة عنه، وأن هناك مادة أرشيفية هائلة يمكن أن تستخدم ضد هيكل بسهولة تامة.
ويعتقد الباحثون الأكاديميون بأن كلاماً قاله كل من: محمد نجيب ومايلز كوبلاند وخروتشوف.. لم يصدر كونهم حقدوا عليه أو حسدوه، فلقد اتهمه الرئيس محمد نجيب بالخيانة لحساب دولة أجنبية. (كتابه: كلمتي للتاريخ).. كما اتهمه مايلز كوبلاند بالعمالة المخلصة.. كما اتهمه خروتشوف بالتهمة نفسها، وذكره بالمبالغ والشيكات التي تسلمها من وكالة المخابرات المركزية في اجتماع كان يعقد في موسكو أمام جمال عبدالناصر، مما اضطر هيكل إلى أن يقفل راجعاً إلى مصر في اليوم الثاني من الرحلة!.
ويورد حسنين كروم في كتابه مقاطع من حوار أجرته مجلة الحوادث الللبنانية مع اللواء محمد نجيب أول رئيس جمهورية لمصر اثر سقوط النظام الملكي عام 1952م والذي أبعد عن الحكم عام 1954م من قبل عبدالناصر: أنه رفض أن يقابل محمد حسنين هيكل أربع مرات لأن معلومات زوَّده بها جهاز الاستخبارات المصرية تقول بأن هيكل هو عميل لدوائر المخابرات..
لعل أبرز ما يمكن أن يهتم به الباحثون والدارسون في قابل الأيام: مسألة التهم التي وجهت إلى هيكل من قبل أكثر من جهة وطرف، حول ارتباطه بالمخابرات المركزية الأمريكية.. والتي لم يدافع عنها الرجل دفاعاً قوياً! وبرغم عدم وجود مستندات قوية بيد خصومه، فقد كان عليه أن يكون أقوى مما بدا عليه.. إذ وجدته ضعيفاً إزاء ذلك! فلماذا يهرب من وجه خروتشوف مثلاً؟ ولماذا لم يذكر قيمة الأجور التي تسلمها من الصحف الأمريكية لقاء نشر مقالاته فيها؟ ولكن الأمر الملفت للنظر، أن هذه التهم التي حبكها خصومه ضده.. لا تختلف في شيء من الأشياء عن التهم التي كان قد نسجها هو نفسه ضد كل من أساتذته في المهنة: علي أمين ومصطفى أمين.. (سيار الجميل – تفكيك هيكل – مكاشفات نقدية في إشكاليات محمد حسنين هيكل(
2

وبالرغم من أن هيكل كان لسان الثورة الاشتراكية وعلى رأس المبشرين بقيمها التي تقوم على أسس العدل والمساواة والقضاء على الاقطاع والثراء غير المشروع.. الخ!! إلا ان هيكل لم يكن ملتزماً بتلك القيم فقد كان يعيش – بسبب قربه من الثوار وتأييده للثورة – عيشة الباشاوات بل السوبر باشاوات، جاء في صحيفة أخبار اليوم العدد الصادر يوم السبت 10 ديسمبر 1977: (إن محمد حسنين هيكل أغنى اشتراكي في مصر. له عزبة يمتلكها في الهرم، وله شقة مطلة على النيل بها ست عشرة غرفة. وله شقة في الاسكندرية، وله يخت يملكه على شاطئ المعمورة..) ويقول الأستاذ عمر التلمساني – رحمه الله – الذي أورد هذا الخبر في كتابه: (قال الناس ولم أقل في حكم عبدالناصر) الصادر بعد نشر الجريدة للخبر بثلاث سنوات: (ولم يكذب هيكل حرفاً واحداً من هذه الاتهامات التي تمس الأمانة والذمة الطاهرة في صميمها. هيكل الذي كان قبل اتصاله بعبدالناصر، لا يملك إلا مرتبه التافه، وثمن الإعلانات التي كان يكتبها أحمد عبود باشا رحمه الله، هذا هو المستشار الصحفي للزعيم المفدى بالدم والروح والمال، من كل ممخرق مأجور(
بعد كتاب هيكل عن حرب الخليج أخذت في متابعة كتاباته في عدد من الصحف العربية وخصوصا مقالاته الطويلة التي كتبها في جريدة السفير اللبنانية بداية عام 2002 تحت دفاتر أزمة. وإذا كانت التفسيرات التي قدمها للأحداث التي حاول معالجتها في تلك المقالات غريبة بعض الشئ إلا أن الروايات التي أوردها عن الزعماء الذين تحدث عنهم أكثر غرابة بل ويصعب تصديقها ومن ذلك لقاؤه المزعوم مع الملك فيصل -رحمه الله- في فندق فلسطين بالإسكندرية في شهر يونيه 1971، والذي زعم أنه طال أكثر من ساعتين(!!)، وحديث الملك لهيكل «طال عمره» عن شاه إيران محمد رضا بهلوي، لأني متأكد بأن الأستاذ هيكل هو آخر من يمكن أن يتحدث معه الفيصل في شأن مثل الذي أورده هيكل في تلك القصة، لكنه الأسلوب الذي يتبعه هيكل في روايته للأحداث التي عاصرها، فهو يقحم نفسه في كل شئ ليظن القارئ أن هذا الرجل إذا لم يشارك في صنع الحدث فلا بد أن يكون شاهدا عليه.
يقول البروفسور سيار الجميل: ان سر عقدة هيكل أنه يتوهم أنه يكشف أسرارا لم يكشفها سواه ولم يكن يعرفها غيره، وأنه صانع تاريخ لا كاتبه فقط، وأن الزعماء العرب لا دراية لهم من دون أن يوجههم محمد حسنين هيكل! وانه مستودع أسرارهم وحركاتهم وسكناتهم، وهو يعرف مخادع نومهم وتفصيلات برامجهم ومناهج بروتوكولاتهم، لقد توضح لنا الآن عند نهايات عمر محمد حسنين هيكل ورؤية نتاجاته، مماكتبه من الأسرار والمعلومات والأفكار والأخبار والآراء التي قالها وحكاها له زعماء عديدون لم ينشرها في حياتهم، إنما أبقاها -إن كانت صحيحة كما يدعي- كي ينشرها بعد وفاتهم واحدا بعد الآخر، ومنهم: جمال عبدالناصر ومحمد رضا بهلوي، شاه إيران أنور السادات والملك حسين بن طلال والملك الحسن الثاني وغيرهم من الزعماء والمسؤولين العرب وغير العرب.. وهو الآن، ينتظر أجل أحد من الزعماء العرب في دولة عربية كبيرة أو أكثر من دولة كي يبدأ بنشر تفصيلات وأسرار سياساته، وطبيعة علاقاته.، ثم يكرس الصفحات الطوال لتدبيج لقاءاته به، وما حكاه إليه، وما ساقه عنه..إلى آخره من البضاعة المعهودة.. ناهيكم عن دور هيكل في رسم طريق تلك الدولة فضلا عن دوره في الكشف عن أسرار زعيمها وعلاقاته وارتباطاته وزياراته! وعليه، لماذا تمكث المعلومة الخطيرة حسب ما يراه هيكل، طويلاً في أرشيفه الخاص ولا يفكر بنشرها إلا حين يكون شهودها غائبين.
يضع هيكل نفسه باستمرار في مركزية الأشياء محاولاً أن يضع الآخرين من حوله مهما بلغت قيمة ذلك الآخر؟ انه دوماً يختارهم أو بالأحرى يلتقطهم من ذوي الكاريزمات التاريخية الباهرة.. وسرعان ما يضعهم جميعاً في نقاط خلاف سياسية معه، بعد أن يجعلهم مهتمين به أشد الاهتمام وان لا عمل لديهم إلا السعي لملاقاته والتحدث إليه ساعات وساعات.. وانه يستجيب لذلك من خلال المهام الموكولة إليه، يدخل معهم في جدل مصوراً إياهم كونه في مستواهم.. فيعطي لنفسه الحق في أن يجيبهم بحدة!! كما ويحرص على أن يشعر القراء أنه يعرفهم منذ زمن طويل وان ثمة ذكريات يحملها حتى عن مشتريات خاصة بهم من أحد أسواق القاهرة.
كان لابد من التذكير بهذا الأمر في الوقت الذي يقدم الأستاذ الكبير محمد حسنين هيكل تحليلاته وذكرياته ورؤاه عبر قناة الجزيرة التي سبق له أن اتهمها بالتطبيع مع إسرائيل؟؟!!.

شاهد أيضاً

حمّى رفع الشعارات: السياسي والأصولي والمثقف وصاحب المال

أطنب القدامى في الحديث عن علاقة المثقف بالسلطة في مختلف العصور وكشفوا النقاب عن الإكراهات …