الرئيسية / قراءات اخترتها لكم / ضوء علي السياق التاريخي: العرب والإسلام في العزلة.. د. فاتح عبد السلام

ضوء علي السياق التاريخي: العرب والإسلام في العزلة.. د. فاتح عبد السلام

ملاحظة أولي: يقرأ هذا الموضوع في اطار المقالات التي سبقته عن مفهوم العزلة والمقالات التي ستأتي بعده. طوال أكثر من أربعة عشر قرناً ظلت العلاقة بين الإسلام والعرب اقترانية. وبدأت في مراحلها الأولي علاقة أساسية فيها كثير من خصائص الارتباط المصيري بين الإثنين. ولأنّ الاسلام انطلق كرسالة عامة وليست خاصة فقد ظل المشهد العربي جزءاً من المشهد الاسلامي الأكبر ولا يقوي أحد علي تغليبه وزيادة حصته علي اعتبار ان الاسلام رسالة توحيد للخالق وتوحيد لأواصر العلاقة بين الناس المختلفين عرقاً. وأظهر العرب المسلمون الأوائل كثيراً من الايثار والتسامح في التعامل مع الشعوب الأخري الداخلة في الاسلام الي الحد الذي يبعث بالتساؤل في نفس أي قارئ للتاريخ وقد أثقلته القرون الأربعة عشر أحداثاً وتطورات وأفكاراً ونزعات.. ماذا سيكون الحال لو أنّ الاسلام انطلق في بيئة غير عربية فهل يكون هناك بالنسبة نفسها في الايثار والتضحية بالتخلي عن أية معوقات عرقية في سبيل الاسلام كرسالة انسانية تقوم علي مبدأ التساوي بين البشر أولاً واعتماد الايمان بالذات الالهية سلماً في التفاضل السوي والروحي إنطلاقاً من خط شروع متساوٍ بين الناس جميعاً.. قديمهم أو حديثهم في الدين. ومن دون الخلط بين اتقان صنعة دنيوية وتفوق في مسلك عباداتي.. فالمستزيد بالتقرب الي الله والعامل علي تعميق دوره الرسالي الاسلامي لا يمنحه الدين مرتبة تفوق تكون له بديلاً عن تفوق في عمل دنيوي في المحيط الاجتماعي الذي يعيش فيه الانسان. غير أنَّ العزلة أصابت كلا العنصرين الاسلامي والعروبي خلال القرون الماضية وامتدت الي شواهد التاريخ المعاصر. فقد كانت حروب الدولة الاسلامية منذ الرسول محمد صلي الله عليه وسلم ذات طابع رسالي محصور بالدفاع عن الدعوة والعمل علي انتشارها مع الحفاظ علي خصوصية الشعوب التي ترفض اعتناق الاسلام كدين محتفظة بأديانها الأصلية وموافقة علي التعايش مع الاسلام كرسالة وحضارة ودولة. ثم ما لبث أن حصل انقطاع كبير في سياق التطور التاريخي لمسيرة الاسلام، حتي ظهرت أهداف وطموحات شخصية لأفراد وذاتية لأمم وشعوب في حمل لواء الاسلام والدعوة باسمه في حروب كثيرة لعلها ابتدأت مع الحقبة العثمانية، حيث الحروب نحو الغرب غالباً من دون أنْ تكون متوافرة علي سمة (الرسالية). فالعرب علي كثرة مواطن الضعف والخلل في تراكيبهم السياسية ونزعاتهم الذاتية حملوا (رسالة) حين تقلدوا شؤون المسلمين بعد أن ظهر آخر الأديان بين ظهرانيهم ثم قاتلوا في سبيل تلك الرسالة من دون أن يخلعوا أية مطامح عرقية علي أية فترة تاريخية حكموا فيها امارة أو دولة أو أرضاً باستثناء نشر اللغة العربية انطلاقاً من مبدأ اسلامي وليس عرقياً وهو أنَّ العربية لغة القرآن ووسيلة تعلم الدين الجديد والتفقه فيه. معتمدين الدليل القرآني في قوله تعالي:
(إنَّا أنزلناهّ قرآناً عربياً لعلكم تعقلون) ــ يوسف/ 2.
(إنَّا جعلناهُ قرآناً عربياً لعلكم تعقلون( الزخرف/ 3.
(وكذلك أنزلناه حكماً عربياً) الرعد/ 37.
(قرآناً عربياً غير ذي عوج لعلَّهم يتقون( الزمر/28.
ثمَّ جاءت الاحكام الاسلامية التفصيلية عبر قوانين أخري ذات سمة إيضاحية وتنفيذية في آن واحد علي لسان الرسول محمد صلي الله عليه وسلم حين وأد فتنة التغلب العرقي قبل أن تولد فقال:
(لا فضل لعربي علي أعجمي إلاّ بالتقوي). وهنا عودة إلي مبدأ مركزي في الاسلام تعود إليه جميع اتجاهات الأحكام اللاحقة كنقطة اتجاه حتمي، ألا وهو مبدأ المساواة بين الجميع وهذا مجرد ضوء علي الاشارة إلي ان العرب عاشوا روحاً رسالية التزموا باستحقاقاتها كجزء من عقيدة وكجزء من طريق تحقيق ذواتهم. في حين تخلت الأمم الأخري التي اتيحت لها فرصة حمل اللواء الاسلامي ذاته في دول قامت تحت ظله وقاتلت الآخرين به من دون أن يكون هناك أثر كلي لمعني الدور الرسالي علي الرغم من وجود نيات وحالات فردية لمجاميع داخل تلك المجتمعات أو لدي قادة وامراء حكموا تلك الدول. فالحصيلة الأخيرة التي وجدت علي مائدة التاريخ تؤكد ان الاتراك الذين انطلقوا بحروب ضروس قبل أكثر من ستة قرون ومنذ بداية عهد عثمان الأول 1293م باتجاه الغرب خاصة سعوا الي أهداف محصورة بتوسيع مناطق النفوذ العائد الي الدولة التي انطلقوا منها وحين أصبحت أجزاء كبيرة من العالم الاسلامي متاحة لحكمهم سعوا الي شخصنة حملاتهم والدول التي أقاموها بـ(عثمنة) العام الاسلامي، ومن ثم العمل حثيثاً علي تغليب العنصر العرقي لهم كأتراك كأساس للدولة والدين علي أيّ عنصر عقيدي اسلامي علي الرغم من عدم انتفاء وجوده والدفاع عنه كلياً ومذهبياً. ومهما كانت نسبة الاخلاص للاسلام عالية إلاّ انها لم تخل من تعصب ذاتي بأشكال مختلفة عرقياً أو سياسياً أو مذهبياً ولم يبلغوا مستوي الروح الرسالية التي توافرت في نفوس العرب وهم يقيمون حضارة جديدة خلال القرون الثلاثة الأولي من ظهور الاسلام. ولمزيد من الاطلاع علي مسارات الدور السياسي في اطار الحضارة والدولة والانسان يمكن مراجعة مؤلفات عالم العثمانيات العراقي سيار الجميل. وعلي الجانب الآخر كانت الدولة الصفوية التي تقوم علي أساس ديني طائفي متطرف سعوا منذ عهد الشاه اسماعيل الصفوي عام 1502م إلي حروب مواجهة مع العثمانيين من أجل النفوذ السياسي في العراق وما جاوره أولاً ثم من أجل تكريس مذهب ديني علي حساب مذهب آخر وهي السياسة العثمانية نفسها أيضاً في أيام النفوذ السياسي والعسكري الطاغي في البلاد الاسلامية. ولعل عهد السلطان سليمان الأول 1512 ــ 1520 هو البداية الأولي للصراع العثماني الصفوي الايراني في اطاره السياسي والمذهبي والاقتصادي ثم العسكري. ولا أريد الايغال في أي سرد تاريخي، بقدر اشارتي الي لافتات الشعارات الاسلامية الجهادية رفعت وكان تحتها يتحرك أكثر من هدف عرقي ومذهبي وعائلي وشخصي لا يمت للاسلام بنسب. وهي المرحلة الحقيقية لحدوث القطيعة والضياع لجميع المفاهيم المستقرة التي يمكن أن يكون من خلال الاسلام كرسالة جامعة لا رؤي واجتهادات وتنازعات مفرقة. وثمة عودة إلي الموضوع في سياق تناول مفهوم العزلة لاحقاً.

جريدة (الزمان) — العدد 1752 — التاريخ 2004 – 3 – 9

شاهد أيضاً

حمّى رفع الشعارات: السياسي والأصولي والمثقف وصاحب المال

أطنب القدامى في الحديث عن علاقة المثقف بالسلطة في مختلف العصور وكشفوا النقاب عن الإكراهات …