الرئيسية / سيرة وصور / الماسيرة اليزا…المربية الزاهدة ومعلمة الاجيال في ام المعونة.. بناء مجتمع الطفولة من خلال أصول التصرف في الحياة

الماسيرة اليزا…المربية الزاهدة ومعلمة الاجيال في ام المعونة.. بناء مجتمع الطفولة من خلال أصول التصرف في الحياة

” اتمنى ان نواصل طريقنا في بناء جيل متحّضر ”
الراهبة اليزا
ذكرى الطفولة الغضة :
وعيت على الحياة ولم اتجاوز الثالثة من الحياة .. عندما وجدت نفسي ترافقني مربيتي من البيت العالي القديم انحدارا الى الشارع الرئيسي في منطقة الميدان بقلب مدينة الموصل القديمة عند السابعة صباحا لننتظر باص الروضة الخاصة التي كانت ولما تزل تسمّى بـ ” أم المعونة ” الواقعة في مكان كان في الخمسينيات من القرن الماضي عند مشارف مدينة الموصل الجنوبية وعند بداية محلة الدواسة الشهيرة .. كان الباص صغيرا من نوع الفولكس واكن ونحن ثلة بحدود العشرين من التلاميذ الصغار من بنات وبنين ، البنات يلبسن الصدريات ( ونسميها في الموصل : الدراعات ) الوردية والاولاد يلبسون الصدريات السماوية .. ويحمل كل واحد منا حقيبته الصغيرة التي تحتوي على مستلزمات دراسة في يوم كامل .. وايضا نحمل سفرطاسا يتكون من ثلاثة طوابق وملعقة وشوكة ، نوعين من اكل الغداء الاساسي وطابق فيه تفاحة لبنانية حمراء وبرتقالة عراقية صفراء وموزة كينية مرقطة صفراء ..
كنت ادلف قبل ان اصل الى مكان الباص الى دكان قريب لاقتني قطعة كبيرة من شوكولاتة النستلة المغلفة بالورق الاحمر او الازرق الغامق .. كان الباص يتهادى هادئا في الشوارع بارديته التي تغطي شبابيكه وفيه ماسيرة مرافقة للعناية بنا في الباص .. ونصل الروضة ونتدفق على الساحة لكي يصل كل منا الى قاعة الحاجيات ففيها لكل تلميذ دولاب صغير ومنام صغير وتقوم الفراشة دادي ام سمعان في القاعة بجمع السفرطاسات التي كتب على واحد منها اسم صاحبه بصبغ الاضافر النسوية الاحمر .. ونبدأ الحصص التي تتخللها فترة استراحة للفطور .. الحصص طويلة اربعة حتى الظهيرة عندما يعلن عن موعد الغداء في الساعة الثانية عشرة ، اذ لدينا ساعتين للغداء والراحة والاغتسال وقيلولة نوم في القاعة .. ثم نعاود في الثانية بعد الظهر الحصص ..
حصص الصباح للدراسة والتربية واللغات وحصص بعد الظهر للالعاب والموسيقى والرسم والمكتبة وثمة راحة بين الحصص لاحتساء المرطبات .. عند الساعة السادسة مساء تقفل راجعين بالباص نفسه الى بيوتنا لانزل منه فارى مربيتي بانتظاري فاكون في الدار بعد قليل .. اذكر انني كنت استعيد ما اتلقاه من دروس الروضة ( ام المعونة ) في البيت الكبير والتي لم تكن جدتي لآبي – رحمها الله – راضية عن انخراطي فيها كيلا اتعلم المبادىء المسيحية ولكن اصرار الاب والام على ان اكون فيها من اجل ان اتعلم ما لم يكن غيري يتعلمه في غيرها من المدارس .. ناهيكم عن اهتمام الراهبات بالاطفال ورغباتهم وافكارهم من دون التعرّض ابدا للدين في ذلك الوقت فهو من المقدسات .
التقاليد والنظام
اذكر ان ثمة تقاليد تربوية واجتماعية كانت ترسخها تلك المدرسة الرائعة التي كانت اجورها مرتفعة جدا .. منها : ان الاب والام يزوران المدرسة في الاعياد المسيحية لتقديم التهاني الى كل طاقمها من الراهبات الرائعات وتقديم الهدايا لهن .. وبالمقابل يقوم وفد من المديرة واثنتين من الراهبات بالقدوم الى بيتنا وبيت كل طفل منتسب الى مدرستهم وروضتهن لتقديم التهاني والتبريكات بمناسبة الاعياد الاسلامية .. كانت هناك متابعة رائعة لتكوين اي طفل مع اعتزاز بالتقاليد الاجتماعية المحلية التي تتميز بها مدينة الموصل العريقة التي تجتمع فيها كل التنوعات السكانية الاثنية والدينية والاجتماعية .. كان الدوام مقدسا ، وكان الوقت ثمينا ، وكان المكان نظيفا جدا ويا ويل من يترك ورقة على الارض او يشخط على حائط .. كانت الرسوم واللوحات المتنوعة تزّين الصفوف .. كان الاصطفاف يوميا في الصباح وتتهادي اصواتنا بترديد الاناشيد كأنها تراتيل رائعة بمصاحبة البيانو .. وكانت المديرة ومرافقتها تجول بيننا لتفتيش ايادينا واضافرنا ونظافة وجوهنا واسناننا وملابسنا ولمعان احذيتنا السوداء التي تتشابه كلها فهي مصنوعة خصيصا في شركة باتا .. كانت الصفوف صغيرة مطلية باللون الابيض وفي صدرها صورة كبيرة للملك فيصل الثاني – رحمه الله – بالبسته الملكية البيضاء مع نياشينه وهو يحمل عصا المارشالية .. كان يجلس كل منا على كرسي متصل بمنضدة صغيرة باربع خانات للبنين والبنات معا ! وتزدحم الجدران الجانبية باللوحات والالوان والخرائط ووسائل الايضاح ..
الراهبة اليزا ترّبي وتعّلم
على مدى سنتين في روضة ام المعونة للراهبات ، كانت الراهبة اليزا هي المسؤولة والمعلمة والمرشدة والمربية .. كانت تعلمنا في حصة وتربينا في حصة اخرى كانت تعلمنا مخارج الحروف العربية وتسمع ذلك من كل واحد منا كيف ينطق .. كانت تعلمنا الحروف وكل حرف وما يقابله من رسم معين تبقيه يترسخ في ذاكرتنا .. كانت تعلمنا الحروف والارقام بوسائل ايضاحية متعددة فيها كل الالوان والاشكال .. وكانت تراقب كيف نمسك القلم باصابعنا باليد اليمنى .. كانت تختار الاسلوب المبسط في تعليم الصغار جملة هائلة من المبادىء .. وهي نفسها التي تعلمنا الاحرف اللاتينية وتعطينا الامثلة بالانكليزية والفرنسية .. اما من الحياة ، فكل ما تقوله لنا ترفقه بنماذج من وسائل الايضاح والاشكال الملونة فوجدنا امامنا نماذج حية مجففة من الزهور والفراشات والحشرات .. ناهيكم عن صور ومصورات كلها ملونة تعطينا ايحاءات تلمست في ما بعد بأنها كانت تخلق عند الطفل احاسيس بالجماليات منذ نعومة اظفاره ..
بعد الظهر ، كانت الحصص جميلة بل اكثر جمالا من الصباح لأننا نأخذ حريتنا واستقلاليتنا اكثر خصوصا ونحن نسمع مقطوعات معينة من موسيقى سيمفونية رخيمة لم تزل مغروسة في روحي بعد مرور نصف قرن من الزمن عليها وانا لم أتجاوز الثلاث او الأربع سنوات من العمر ! كانت الالعاب متنوعة وعديدة منها داخل الصفوف ومنها في حديقة المدرسة المجاورة .. كنا ننفخ في ماء معين يوزع على كل واحد منها لننفخ في قصبة بداخل الكاس فتتكون فقاعات ملونة متنوعة الاحجام .. او كنا نرسم ونلون الالواح مهما كانت طريقتنا في الشخبطة ! او كنا نتمرن على صناعة الاشياء من الاطيان الصناعية الملونة .. الخ وفي الحديقة ، حيث انواع الزهور التي تحرم المديرة قطف ايا منها تنتشر ملاعب ومراجيح واقفاص وحبال ملونة كلها ..
ما الذي تعلمته من ام المعونة للراهبات ؟
لقد علمتني تلك الماسيرة الراهبة الرائعة منذ الصغر وعلى مدى سنتين من حياتي الغضّة كيف نتصرف في حياتنا وكيف نصغي لوالدينا ونعمل بالنصيحة وكيف تكون طريقة الاكل في البيت او في خارجه .. وعلمتني كيف نمشي في الشارع من دون التفاتة هنا او هناك ونحن نرفع قامتنا من دون تحّدب او اعوجاج ! وعلمتني ان من سوء الادب في المجتمع ان يأكل الانسان في الشارع او على قارعة الطريق ! وعلمتني بأن من الاصول ان لا يقاطع احدنا الاخر وهو يتكلم ! وعلمتني ان لا نرفع صوتنا عندما نتكلم في محفل اعمار الناس فيه كبيرة ! وعلمتني بأن لأي مكان حرمته فلا يمكن ان ندخل على احد من دون استئذان ودعوة للدخول .. وعلمتني بأن لا نبدأ الاكل في اي حفل قبل الاخرين ! وعلمتني بأن اثمن شيىء في وجود الانسان هو الزمن والصحة وكل الكائنات !
وعلمتني احترام الكبير والعطف على الصغير واللطف في التعامل والتسامح عند المقدرة والرفق بالحيوانات الاليفة وعدم ايذائها ابدا وعدم الهياج عند التعصب .. وكلها خصائص تؤكد عليها القيم الاسلامية الجميلة . وعلمتني ان اقول ما عندي امام الاخرين .. وعلمتني كيف اصغي الى الموسيقى الاوركسترالية او معزوفات البيانو واساليب العزف واهمية الموسيقى للاعصاب والصحة .. علمتني كيف يكون الاستجمام والتمتع باوقات الفراغ ان كان هناك فراغ في حياته .. قالت لنا مرة : لا تجعلوا الفراغ يسيطر عليكم ، عليكم بملأ كل الفراغات ، فالحياة جميلة من دون تلك الفراغات .. اشغلوها بأي شيىء مفيد وممتع ! واعترف ان ابي رحمه الله زرع عندي حب الكتاب والقلم وان المعلمة اليزا زرعت عندي حب الحياة والزمن ، ومع كل ذلك وحتى بعد خروجي من هذه المدرسة الرائعة بحكم انتقال منصب والدي الى مدينة اخرى ومرافقة العائلة له منتقلا الى عالم جميل ولكنه من نوع آخر .
لا يفوتني ان اذكر بأن ذاكرتي لم تزل تحمل ذكرى صديقة لي من الجيران المسيحيين الطيبين اسمها نوال .. كانت بعمري أي بنت الثالثة من العمر كانت تصحبني ذهابا وايابا في ذاك الباص الى روضة ام المعونة ، وكنا نلهو ونلعب ولا ادري أين هي الان بعد مرور نصف قرن من الزمن !؟
كلمات من اجل ذكرى لا تنسى ابدا
بقيت العلاقة قوية بين العائلة وبين روضة ومدرسة ام المعونة وحتى بعد ان كبرت جاءت لزيارتنا الست اليزا وكنت اخجل من مرآها وهي تعتز بي اعتزازا كبيرا .. وكانت الدنيا قد تغيرت والعراق قد تبدل وهي تقول : ” اتمنى ان نواصل طريقنا في بناء جيل متحضر ” . من المؤكد انها قد توفيت الان لتنعم بالذكرى الطيبة ، فلقد كانت في الخمسين من العمر قبل خمسين سنة واعترف انني لو رأيتها حتى اليوم لتصبب العرق مني وخجلت منها ، اذ اعترف وسابقى ما حييت اقول بأن لهذه الراهبة الماسيرا دور مؤثر في حياتي منذ طفولتي اليانعة . كم اتمنى ان تكون كل مربيات ومعلمات اجيالنا اليوم على شاكلة تلك الرائعة كالام الرؤوم التي تعرف مهنتها حق المعرفة وتكّرس حياتها لتربية الاطفال وخلق سلوكيات جميلة ومتحضرة في الحياة العربية المعاصرة .. وكلها مضامين خلاقة لا اشكال براقة ! وكلها مستلهمة من تجارب وخبرات وقيم مجتمعات وشعوب وتواريخ متنوعة وليست مقلدة لاساليب بليدة لا صلة لها بحياة العصر وحاجياته الاساسية .

شاهد أيضاً

اعلان من الدكتور سيّار الجميل.. الى كافة المثقفين العراقيين في العالم

ايها الاخوة .. ايتها الاخوات أعلن لكم جميعا انسحابي من المجلس العراقي للثقافة في عمّان …