الرئيسية / فن وموسيقى / ايليان بريجارد ..استاذة فلسفة الفن والموسيقى والجمال..عبق ميوتن كوتج عند ربوة كلانيكولس الاسكتلندية

ايليان بريجارد ..استاذة فلسفة الفن والموسيقى والجمال..عبق ميوتن كوتج عند ربوة كلانيكولس الاسكتلندية

” أحببتك كأبني لأنك عاشق للطبيعة والتأمل والموسيقى والجمال .. اريد ان تحيا بعد ان اموت … اذكرني لمن تريد يا عزيزي سيار ”
ايليان (من رسالة موجهة لي العام 1986)
لقد كنت محظوظا جدا بمعرفتها .. وكأني على موعد مع سيدة مجتمع اسكتلندي من الطراز الاول والفارق من السنين بيننا كبيرا . لم تكن قد تقاعدت بعد اذ لم تكن قد بلغت الخامسة والستين من العمر وكانت استاذة شهيرة في عدد من الجامعات الاسكتلندية وخصوصا ادنبرة واسترلنك وهي استاذ زائر في جامعة تورنتو بكندا وجامعة واشنطن في سياتل . اشتهرت بعدد من مشروعاتها وكتبها وتحريرها في عدد من الموسوعات المختصة بالفلسفة وعلم الجمال .. كانت بارعة في العزف على البيانو وشاركت في اكثر من مرة بعزف بعض الكونشرتوات وقد سمعتها تعزف كونشرتو رقم 5 لموتسارت وهي مذهلة تأسر السامعين . ولدت ايليان العام 1921 في اسرة قديمة معروفة باقليم اوختراردر الواقع قرب مدينة بيرث الاسكتلندية وكانت وحيدة لوالديها اللذين اعتنيا بها وبتربيتها كثيرا وتعبت على نفسها وبقيت تعيش في البيت الذي ورثته عنهما وهو المسمى بـ ” ميوتن كوتج ” الواقع لوحده على الطريق وعند سفوح خضراء تابعة له خصصتها السيدة ايليان مساحة من اجل لعبة الكولف الاسكتلندية الشهيرة . وعلى مقربة من دارها الواسع يجري جدول ماء رقراق تمتد على جانبية اشجار متنوعة تغني فوقها الطيور وتسقسق على اغصانها العصافير ، وتتلاعب في تلك المنطقة الجميلة مجاميع عدة من السناجب والارانب البرية الملونة . تزوجت الدكتورة ايليان العام 1958 المستر هاري بريجارد وكان مديرا لواحدة من الشركات ولكن له هواياته المختلفة فهو يعتز بميدالياته في لعبة الكولف ، وخلفا ابنة واحدة .
كيف عرفتها ؟
المشهور عن الاسكتلنديين انهم اناس لهم رقتهم وعاطفتهم الاجتماعية جدا يعتزون بالغريب كثيرا ، وينعتهم الانكليز بالبخل فيطلقون عنهم مجموعة من النكات الساخرة .. والحقيقة ان الاسكتلنديين كالارلنديين من اطيب الناس فهم كرماء اكثر من الانكليز واذا ما وثقوا بأي شخص اخلصوا له وصادقوه صداقة حية عميقة ، اما اذا وجدوا في ذلك الانسان هوايات ورغبات تشترك وامزجتهم واهوائهم ورغائبهم فهم لا ينفكوا عنه ابدا ويخلصون له ويمنحوه حبا من اعماق قلوبهم مهما كان جنسه او لونه او دينه . كانت الدكتورة ايليان امّا حقيقية لأبنتها الوحيدة شارلي التي كانت تزاملني في كلية سانت سلفيتر بجامعة سانت اندروس الاسكتلندية ، وكانت طالبة ذكية جدا وبدت تراقب ما كنت اسمعه من موسيقى عالمية خصوصا بعد ان كنا نشترك في جمعية واحدة للموسيقى الكلاسيكية ونحضر مساء كل خميس حفل اوركسترا رائع من الفن الراقي .. وقد فوجئت شارلي ان عندي ثقافة لا بأس بها في ذاك المجال ولما عرفت بأن الموسيقار المفضل عندي هو غوستاف مالر وانني احتفظ بكل اعماله وروائعه بتسجيلات في سكني ، انتفضت وقالت ساحدث والدتي بذلك ! قلت لها : وما شأن والدتك بذلك ؟ قالت : لأنها عاشقة لأعمال غوستاف مالر هي الاخرى وتذوب فيها ..
بعد ايام قليلة ، كنت في ضيافة والدتها الدكتورة ايليان بريجارد التي دعتني على قدح من الشاي ، وقد ذهبت وحدي بسيارتي الى كلانيكولس ، وعند ميوتن كوتج ، وجدت نفسي امام سيدة محترمة تستقبلني بلطف مع زوجها وهي لا تصدق اني من المعجبين باعمال موسيقار نمساوي مغمور عاش في بدايات القرن العشرين لا يعرف عظمته الا القلائل في هذا الوجود .. وامتدت تلك الزيارة ساعات حتى دلف المساء وحل الغسق ثم غابت الشمس فرجعت وكان ذلك اللقاء الرائع عربون صداقة عميقة استمرت سنوات طوال تخللتها لقاءات ومراسلات . لقد عرفت كم ان تلك السيدة الرقيقة المرهفة هي صعبة المراس في الاروقة الجامعية وفي قاعات الدرس .. كما واكتشفت ان تلك السيدة المتواضعة كم هي فنانة معروفة وباحثة قديرة ولها اعمالها ونتاجاتها التي نالت عليها جملة من المكافئات .. وعرفت ان تلك المرأة الاسكتلندية لا تهتم للماديات والاشياء العادية ، بقدر ما تمتلك قدرا هائلا من عواطف الامومة ازاء ابنتها الوحيدة فضلا عن الفضاء الذي تعيش فيه من الروحانيات والموحيات والانصات للكلمة الشعرية والموسيقى التعبيرية .. وستعتز جدا بمعرفتي بها ، اذ ازدادت حواراتنا في مختلف الامور الثقافية وخصوصا عن الموسيقى وفلسفة جمالياتها وموحياتها . لقد كانت ايليان ( هكذا كانت تريد ان اسميها من دون القاب ) تطمح في الكشف عن المزيد من الموحيات الموسيقية ولماذا كانت ترغب في سماع مقطوعات شرقية في بعض الاحيان ؟ وكيف اكتشفتني اهوى سماع الموسيقى الكلاسيكية باصنافها : الاوبرالية والسيمفونية وحتى الكونشرتوات على البيانو ؟ كانت تبحث عن فلسفة جمالية معينة التي تبعثها الموحيات في دواخل النفس الانسانية .. وساختار مختزلا بعض الموضوعات المهمة التي دارت بيني وبينها حول هذا الموضوع في اكثر من حوار مثقف دار بيننا سواء كان ذلك في ميوتن كوتج او في قاعة الاستقبال بالفيستفال هول بادنبره . واعترف أنها قد استفادت مني بصدد بعض المعلومات عن الموسيقى العربية والتركية ، ولكنني تعلمت منها الكثير الذي لا يقدر بثمن .
حوار في الموسيقى الكلاسيكية
سألتني مرة : ما الذي جذبك في موسيقى غوستاف مالر ؟
قلت : سمفونياته التسع وعدد من اعماله الاوبرالية الرائعة .. انه مدهش ومذهل يا سيدتي !
قالت : وما اجمل ما تهواه من السيمفونيات ؟
قلت : السيمفونية الثانية المسماة The Resurrection ( أي : يوم القيامة) ، اذ لا اعتقد ابدا ان فنانا في هذا الوجود كانت لديه قدرات غوستاف مالر في وصف يوم الدينونة الاكبر بمثل وصفه الموسيقى الذي يخشع الانسان من حركاتها وانبعاثاتها التي يرسم من خلالها صور الرهبة والانجذاب ..
قالت : صدقت يا سيار ، انني تتملكني نفس المشاعر وانا اسمع سمفونيته الثانية !
قلت : اما الاولى ، ففيها خلجات حية حالها حال السيمفونية التاسعة واعتقد ان مالر كان متأثرا بعض الشيىء ببعض التونات الشرقية القديمة فوظفها توظيفا ذكيا جدا
قالت : ومن تسمع لموسيقاريين آخرين ؟
قلت : مندلسن ومينوفسكي ورحمانانوف وبرامز وايلكر .. وغيرهم كثير واعرف سيرهم واحدا واحدا
قالت : وماذا عن الاوائل : هايدن وهالدن وموتسارت وبيتهوفن وفيلليني.. ؟؟
قلت : اسمعهم جميعا ، ولكن روائع القرن العشرين لم تكتشف بعد وهي بدورها مختلفة تماما عن الرائع القديمة .
قالت : واين وجه الاختلاف ؟
قلت : انها كلها اعمال خالدة ، ولكنني اشعر وانا اسمع مالر او برامز او مندلسن .. بأنني مطلق التفكير ، انها موسيقى تفتح عندي كل الافاق وتجعلني افكر واعيد التفكير .. انها موسيقى تجدد الذهن لأن الانسان يسحبه اليه ، اما السيمفونيات والكونشرتات القديمة فهي رقيقة تسمو بالمشاعر وانها تسحب الانسان اليها !
قالت : هذه قيمة تحليلية جديرة بالتقدير .
قلت : وانت يا سيدتي ما الذي اعجبك في اعمال الموسيقار مالر ؟
قالت : وجدته يخاطب كل الوجود ولا يقتصر على عنصر واحد اواثنين .. ان له القدرة في توظيف كل ما في الوجود بالارتقاء الى الاعالي !
قلت : ان الموسيقى هي اللغة الوحيدة التي تفهمها كل الكائنات !
قالت : لا ابدا ، انني لا اشاركك هذا الاستنتاج .
قلت : لماذا ؟
قالت : ثمة موسيقى اعزفها تجذب الاطيار كي تغرد هنا بالقرب مني على الاشجار ، ولكنها لا تحرك مشاعر اناس من البشر ! فكيف بموسيقى صعبة تريدها تحرك تفكيرهم المغلق ؟
قلت : وما مستقبل الموسيقى الكلاسيكية في العالم اجمع ؟
قالت : من الطبيعي ان العالم اليوم لم ينجب العمالقة كما كان عليه الحال في بدايات القرن العشرين ، ولكن تطورت الفرق الموسيقية العالمية كثيرا ، كما وتطورت ميكانزمات الصوت في المقطوعات الاوبرالية ناهيك عن تلون الاصوات والمايستروات الذين برزوا في اماكن عدة من العالم ومنهم في الشرق الاقصى .
قلت : في ما عدا مثل هذه الموسيقى الراقية .. اين تجدين ضالتك في القيم الجمالية ؟
قالت : الموسيقى ايضا ذلك لأنها تعبير من الموحيات والصور والاشكال وما يخفق في الاعماق .. انني اعشق الطبيعة التي اعتبرها جملا موسيقية معبرة سواء باصوات او الوان او اشكال او ظلال .. الخ ( واستطردت تسألني ) اتعرف اين تكمن قيمة جمالية من نوع اخر معين ؟
لم اجب على تساؤلها منتظرا جوابها ، فاردفت تجيب :
الصمت قيمة جدالية بانتظار سماع الموسيقى ، فالموسيقى عالم لا يحيا الا في صمت وسكون ، ولا يمكنها ان تكون ساحرة والمكان في حالة متنافرة من الصراخ والصياح .
( واحب ان اعلق هنا قائلا : ان قاعة مثل الهول فيستفال بادنبرة هي قاعة كبرى لا تجد مقعدا شاغرا فيها ، ولكن الصمت يكون رهيبا عندما تعزف الموسيقى ! وكم اتمنى علينا نحن نحاول تطوير اذهاننا وتوسيع مداركنا في علاقتنا بالموسيقى وفصلها عن الغناء والطرب )

موسيقى وجماليات الشرق
كنا نمشي قليلا في تلك الطبيعة الساحرة ، التفتت الي الدكتورة ايليان وكان حديثنا عن جماليات الشرق ، وقالت ان الذي يميز الموسيقى في الشرق ليس الايقاعات كما يرى البعض ، بل هناك النغمات التي تختلف من خلال السلم الموسيقي .
قلت لها سائلا : ما الذي يعجبك من الموسيقى الشرقية ؟
قالت: الموسيقى التركية والغناء التركي .. فكليهما يمتلكان من الرخامة وهدوء الايقاعات اضافة الى ان الاداء عندما يكون جماعيا فكأنما تستمع الى ترانيم كنسية ( واستطردت تقول ) : لقد بحثت في مثل هذه الخصائص ، فوجدت بأن فنون الاتراك ومنها موسيقاهم قد تأثرت بعناصر كنسية وخصوصا عن الموروث البيزنطي والروماني ، كما انهم تأثروا بالتواشيح ، والتواشيح – كما اعلم – عربية .. وقد قرأت في اليونان الذي ازوره من وقت لآخر بأن تراث البحر المتوسط قد تأثر اغلبه بالمأثور العربي على امتداد عصور طويلة .
قلت : نعم ، وماذا بالنسبة للعرب وموسيقاهم ؟
ثمة اختلافات ولكن ليست جذرية كما هو الامر في الموشحات الاندلسية . واردفت تقول : ان للعرب ثروة هائلة من الجماليات والقيم التي لا نجدها في أي امة اخرى ، ويمثلها ” الطرب ” فهو عربي خالص ! ويعد تراثهم الموسيقي من اغنى موجودات التاريخ واخصبها . والارض في عالم العرب وجيرانهم الفرس والاكراد والاتراك تتلون وتتنوع وتزخر بجملة هائلة من الالوان ، وهذا سر اعاجيب الشرق ولكن الناس بحاجة الى تطوير في فهمهم وتفكيرهم للموسيقى والغناء .. ويمكنهم ان يستفيدوا كثيرا من الموسيقى العالمية .. كما ويمكن ان تكون لهم مشاركات مخصبة على مستوى التأليف والاداء . واردفت : ان من الاصوات التي اسمعتني اياها لا تصدح اوبراليا ، ويستوجب تربية ورعاية اصوات منذ الصغر علميا لتخصب ابداعيا .
وأخيرا ، تحية من الاعماق ازجيها لذكرى تلك السيدة العظيمة ايليان بريجارد التي لم اكن احس بالزمن يمضي الا سريعا وانا احادثها ، وكم كانت تحمل كثيرا من المعاني الانسانية الدافئة وكم كانت ثقافتها قوية وثقيلة وذات متسعات لا تبارى .. وكم نحن بحاجة الى امثالها من النسوة المبدعات في هذا العالم الواسع .

ملاحظة : في رأس السنة 2006 تحادثت مع شارلي تلفونيا ولم تزل امها على قيد الحياة وقد ابلغتها تحياتي بعد ان ابلغتني تحياتها .. اذ لم تزل تذكرني حتى اليوم وهي مقعدة وكانت قد فقدت زوجها وابنها .. اتمنى لها الصحة فلقد تعلمت منها الكثير ..

( فصلة من كتاب لمؤلفه سيار الجميل ، نسوة ورجال : ذكريات شاهد الرؤية )

شاهد أيضاً

فقرات من كلمة الدكتور سيار الجميل في حفل تكريم صديقه الفنان حمودي الحارثي في كندا الحفل اقامه اتحاد الفنانين التشكيليين العراقيين الكنديين يوم 29 /5 / 2011 على قاعة اسيمبلي هول في مدينة تورنتو

ايها الاصدقاء الاعزاء اسعدتم مساء شكرا جزيلا لاتحاد الفنانين العراقيين الكنديين استضافته لي هذه الامسية …