الرئيسية / كتب / الرهانات المستحيلة 2

الرهانات المستحيلة 2

سادس عشر : التباين في المعلومات وخلط في الاخبار والافكار
1/ يقول الاخ هويدي : ” بدأ الرئيس عبد السلام عارف يشعر بالعزلة ولأنه كان يعرف بنية عارف عبد الرزاق الانقلاب عليه عينه رئيسا للوزراء حتى يتمم انقلابه وهو مستعد لأحباطه وبالفعل حاول عبد الرزاق الانقلاب اثناء حضور عبد السلام عارف مؤتمر قمة عربي في الرباط ( كذا ) .. ” ( البيان ، العدد 8215 ، في 15/12/ 2002 ) ! وقبل ان نحلل نقديا نسأل هويدي : ما نسبة او درجة الحقيقة التاريخية في ما سجله في مذكراته عن احداث العراق الخطيرة تلك ؟
مرة أخرى ، يكرر هويدي قصة معرفة عبد السلام بنوايا عبد الرزاق وانه سينقلب عليه !! لا يا اخي هويدي ان التاريخ لا يكتب هكذا والرئيس عبد السلام لا يعرف الغيب ولم يكن يظن السوء بعارف عبد الرزاق ، ولو كان لديه ادنى شك مهما كانت نسبته من الضآلة ، فلا يمكن ان يسند اليه منصب رئيس الوزارة .. وكان يثق به لارضاء الناصريين الذين كانوا يثيرون ضده المتاعب ، كما وكان عبد السلام واثقا ان مصر وعبد الناصر لا يمكنهما ان يتآمرا عليه .. وأريد ان يصحح الاخ امين هويدي مكان مؤتمر القمة : هل كان في الدار البيضاء ام في الرباط ؟؟
2/ يقول هويدي : ” اقرر هنا للتاريخ ، وليت الرئيس عارف يسمع هذا وهو في قبره ، اننا لم نكن ندري بالانقلاب الا بعد 12 ساعة من وقوعه .. ” . ويكرر مرة اخرى قائلا : ” بل لم تكن القاهرة تدري بدورها حينما وصل اليها عارف عبد الرزاق بالطائرة في قصر الطاهرة .. ” ( المصدر نفسه ) . فهل هذا معقول ؟ ذلك ان الوثائق والاوراق السرية العراقية التي اكتشفت مؤخرا تقول عكس ما تدعي !
3/ تقول في نص آخر : ” بدأ الحرس القومي البعثي ينزل الى الشوارع في كثافة مقلقة ، وتمركز البعض منهم حول مبنى سفارة الجمهورية العربية المتحدة ودار السفير ، اذ كان الفراغ في بغداد مشجعا لأي فئة قادرة لكي تستولي على السلطة . وقد قام ابراهيم العرابي بحراسة السفارة ودار السفير ببعض دباباته .. ” ( المصدر نفسه ) .
يبدو لنا هنا هذا الخبر جديدا ، فاذا صح قوله : معنى ذلك ان البعثيين حاولوا الانتقام من مصر في تجمعهم حول السفارة المصرية ودار السفير ! ولكن كان عبد السلام عارف قد قضى على البعثيين وصادر اسلحتهم واجتث فصائل الحرس القومي للبعثيين منذ العام 1963 في خضم حركته الانقلابية ضدهم يوم 18 نوفمبر . واذا لم تصح معلومة هويدي فانه يبدو في احدى حالتين اثنتين ، فاما انه خلط بين الاحداث ، فلم يكن هناك اي وجود للحرس القومي .. خصوصا وان امين هويدي كان قد عين سفيرا لمصر في العراق منذ ان اطيح بالزعيم عبد الكريم قاسم وشهد حكم البعثيين الاول العام 1963 وشهد يوم ذاك فصائل الحرس القومي من البعثيين . واما الحالة الثانية ، فربما تكون الشرطة العراقية او الانضباط العسكري قد حاصر السفارة المصرية ودار السفير كيلا يهرب اليها الانقلابيون او انها تهاجم من قبل العراقيين المناوئين من انصار الرئيس عبد السلام عارف!
4/ يقول هويدي : ” وفي المساء حضر بعض الوزراء العراقيين الى السفارة ومعهم برقية فيها معلومات بحدوث الانقلاب يريدون ارسالها عن طريقنا الى الرئيس عارف في الدار البيضاء . وفعلا تولينا ارسالها نيابة عنهم بعد ارسال معلوماتنا الى الرئيس عبد الناصر بما لا يقل عن عشر ساعات .. ” ( المصدر نفسه ) .
بالله عليك يا اخي هويدي : هل يعقل ان دولة كالعراق بكل مؤسساتها واجهزتها السياسية والاعلامية والعسكرية وقنواتها الدوبلوماسية ليس فيها اي وسيلة ولا اي جهاز للاتصال مع رئيس الدولة وهو خارج البلاد ، حتى يأتي وزراء عراقيون الى سفارتك ليرسلوا عن طريقكم برقية تعلمه بالانقلاب ومن خلالكم انتم بالذات ؟ أهذا معقول تصديقه ؟ على من نضحك ؟ ولم يمض وقت طويل على الاحداث التي عشناها وعاشها اناس ما زالوا على قيد الحياة ! وانني اطالب الاخ هويدي ان يذكر لنا اسماء البعض من اولئك الوزراء العراقيين كي نبحث عنهم ونسألهم ان كانوا على قيد الحياة ؟ اللهم الا اذا كانوا من المناصرين لمحاولة الانقلاب ومن المؤيدين للرئيس جمال عبد الناصر .. فهذا موضوع من نوع آخر !! وأسأل ايضا : لماذا يريد الاخ هويدي ان يعلمنا دوما بأن مصر عرفت قبل كل البشر بتلك الاحداث وانها هي التي حسمتها ؟ فاذا كنت تقول بأن القاهرة عرفت بالاحداث قبل عشر ساعات ، فلماذا تقول انها استقبلت عارف عبد الرزاق وهي لا تعرف بالاحداث ؟؟ اجب جزاك الله خيرا .
سابع عشر : موقف العراق من مصر : عبد السلام عارف وعبد الرحمن البزاز
يهمنا جدا تحليل موقف العراق من مصر وخصوصا موقف الرئيس عبد السلام عارف ، اذ يبدو واضحا انه اراد ان يشعلها حرائق بوجه القاهرة كما يتضح من الذي كتبه امين هويدي ، ولكن رئيس الوزراء الجديد د. عبد الرحمن البزاز كان له الفضل في احتواء الازمة واطفاء لهيب النار . لقد اتهم عبد السلام القاهرة بالمؤامرة عليه علنا .. وثمة قضايا خطيرة مشتركة اخرى يكتبها لنا السفير امين هويدي الذي وجه اليه العراقيون اصابع الاتهام ، واراد هنا في مذكراته ان يدافع عن نفسه وعن عبد الناصر وعن مصر . لقد جرى لقاء بينه وبين عبد السلام عارف يوم 22 / سبتمبر 1965 ، ومما قاله عبد السلام – وهذا على لسان امين هويدي – ان اول من اذاع الخبر مراسل جريدة الاهرام بنيويورك وان ذلك المراسل عميل امريكي ، وان عبد الناصر أخبره في اليوم التالي ويصر هويدي على ان الاخبار جرى في اليوم الاول !! وثبت للرئيس عبد السلام ضلوع الامريكان في المؤامرة وان القاهرة متورطة ايضا مستخدمين الفئات الناصرية من العراقيين ( وهذا تصريح خطير كتبه امين هويدي ان يتهم عبد السلام عارف الامريكان بالضلوع والمصريين بالتورط ) . ويعيد هويدي الاسطوانة نفسها من ان الرئيس عبد السلام كان يعلم ان عارف عبد الرزاق يدبر انقلابا فاسند اليه رئاسة الوزارة لابعاده عن القوة الجوية .. واعتقد ان ذلك من رابع المستحيلات ان يجري في اي بلد وعند اي رئيس دولة ، فكيف بدولة مثل العراق ؟ وبشخص مثل عبد السلام عارف ؟
1/ موقف عبد السلام عارف :
ويكتب هويدي على لسان عبد السلام عارف قوله : ” ولم يسافر الى الدار البيضاء الا بعد ان اجرى كافة استعداداته لمواجهة الانقلاب المنتظر ” . ويسأل عبد السلام السفير هويدي معنفا اياه وبلهجة عالية : ألم تكن تعلم بتدبيرات عارف عبد الرزاق ؟ وهاجم عبد السلام اتصالات هويدي بكافة الاتجاهات ، وان نشاطاته اصبحت أكبر من حجمه قائلا له : ” اقفل بابك يا امين ” بلهجة التهديد ! ثم يتساءل عبد السلام : كيف قبلت القاهرة هؤلاء المتآمرين ثم كيف تبقي عليهم عندها بعد كل ما حدث ؟ وهاجم ايضا صحف القاهرة واذاعتها اذ لم تشجب المؤامرة بل التزمت الصمت ولم تعلق عليها .. ( المصدر نفسه ) .
ويحاول هويدي ان يدافع عن نفسه وعن القاهرة وعن نظام عبد الناصر بعدة نقاط يدين فيها سياسة عبد السلام ويتهمه بالتقصير ويدين جيشه وينتقد صحافة العراق .. ولا يدين عارف عبد الرزاق ابدا على ما فعله ، ويتهم المغرضين والحاقدين والحاسدين ضده !! ويدافع عن علاقته بالناصريين العراقيين وينتقد د. عبد الرحمن البزاز رئيس الوزراء الجديد ويذكر وهو في طريقه لمقابلته انه شعر بأن استمرار وجوده ببغداد بعيد عن الحكمة .. من دون ان يذكر بأن طلبا عراقيا قدم لمصر عن فقدان بغداد الثقة بالسفير هويدي !
2/ موقف عبد الرحمن البزاز :
ويقابل امين هويدي د. عبد الرحمن البزاز رئيس الوزراء الذي قال بأنه كان يعطي على التلفون درسا في الديمقراطية للرئيس عارف ! وبدا ان البزاز كان عاقلا جدا فكان له دوره الاساسي في رأب الصدع الذي تعرضت له العلاقات العراقية – المصرية ، اذ انقذ الرجل حالة التردي بتصريحاته التي نفى فيها التهم الموجهة لمصر عن دورها في محاولة الانقلاب والتآمر ضد العراق . ولقد أوضح الاخ هويدي ذلك بكل صراحة سواء في مقابلته للبزاز او في الثناء على موقفه معه او في المؤتمر الصحفي الذي عقده البزاز ببغداد ، ووصف موقفه بـ ” المتزن من الاتهامات الظالمة التي توجّه الى القاهرة .. ” ( المصدر نفسه ) . وكان البزاز قد اوضح في مقابلته هويدي انه لا يصدق الاشاعات ضد القاهرة ، وأكد على عروبة عارف عبد الرزاق ، وفقدان ثقة الرئيس عبد السلام عارف بأمين هويدي وبالقاهرة ، ودافع البزاز عن الانقلابيين . وكان مؤتمره الشهير يوم 23 سبتمبر 1965 الذي حدد فيه ليس موقف العراق المرن والمتسامح ، بل فتح من خلاله بابا نحو المستقبل .
واعتقد انها سياسة حكيمة مارسها د. عبد الرحمن البزاز في تلك المرحلة ، ولكن يبدو ان عبد الناصر لم يعبأ بذلك ابدا ، كما اوضحت الايام التي ستتلو تلك الاحداث ، وسيحاول عارف عبد الرزاق الوصول الى السلطة من خلال مصر عبد الناصر عند مصرع عبد السلام عارف في محاولة لم يكتب لها النجاح – كما سنرى – ، وأيضا في محاولة انقلابية فاشلة اخرى ضد الرئيس عبد الرحمن عارف .. لقد غادر السفير امين هويدي الى القاهرة وذكر العراق واهله ومدنه واصدقائه وذكرياته فيه باطيب الذكر على امل ان يقدم اوراق استقالته ، ولكن عندما قابل الرئيس عبد الناصر ، وتحدث عن العراق قاطعه الرئيس عبد الناصر وطلب منه ان يتوقف عن ذكر العراق ، واعلمه انه اختاره وزيرا للارشاد في وزارة جديدة شكلها زكريا محي الدين .
ان آخر ما يمكنني التعليق عليه ما ذكره الاخ هويدي من تأسيه على القاهرة التي يخاطبها كونها مظلومة فهي دوما متهمة ، اي انه يريد ان يرفع عنها الحيف الذي تلاقيه من الاخوة العرب .. وهنا لابد من تذكير الاخ هويدي بأن القاهرة كانت وستبقى في قلوب العرب جميعا ، وما كان أحد ليتهمها ابدا اذا لم تكن اصلا تتدخل في شؤونهم .. لماذا لا يتهم أحد اليوم القاهرة بالتدخلات ، لأنها فعلا ليس لها اليوم الا شؤونها الداخلية ، وان عنايتها بالاحداث العربية يأتي في اطار التنسيق مع الاخرين .. ولابد ان يعيد الاخ هويدي قراءة الدور من جديد ويسأل نفسه بعد كل هذا الذي كتبه هو والعديد من المسؤولين السابقين : ما هي حصيلة تدخلات القاهرة في الشؤون العربية الداخلية لدول عربية مستقلة ؟ وما هي نتائج كل المناورات والمؤامرات والتشنجات والاختلافات العربية التي راجت في تلك المرحلة ؟ وهي حصيلة انتجت كل ما نشهده من الثمرات !
ثامن عشر : مصرع عبد السلام عارف : هل ثمة اسرار مصرية عن حادث تحطم الطائرة ؟
يقول الاخ امين هويدي أنه غادر العراق وهو يحمل عنه اجمل الذكريات التي لم تزل مغروسة في اعماقه ، غادر بغداد ولم يعد اليها الا بعد ذلك بشهور عضوا في وفد اختاره الرئيس جمال عبد الناصر برئاسة المشير عبد الحكيم عامر وكان معه كل من عبد المجيد فريد وامين هويدي وعبد الحميد السراج ( الذي لا يعرف هويدي لماذا اختاره عبد الناصر ان يكون معهم وكان السراج لاجئا عند عبد الناصر ) . وفد اختاره عبد الناصر على مستوى عال ليذهب بسرعة جدا الى بغداد ليس من اجل التعزية حسب ، بل لينجز مهمة تاريخية غاية في الدقة .. ويعلمنا هويدي كم كان عبد الناصر قلقا ومتسرعا عندما رآه ينتظر المشير عبد الحكيم عامر ليترأس الوفد الى بغداد وعلق قائلا : ” ماذا افعل بالمشير ده بتاعكم ” !!
الحقيقة ، ان المعلومات المهمة التي سجلها هنا الاخ امين هويدي في مذكراته ، كنت انتظرها منذ زمن طويل اذ تقول الوثائق والتقارير والمعلومات السياسية العراقية ان عبد الناصر كان قد تدخل تدخلا سافرا في شؤون العراق عندما قتل الرئيس عبد السلام عارف ومن معه عندما سقطت طائرته الهيلوكوبتر اثر هبوب عاصفة رملية قرب البصرة كما كان قد اذيع وقت ذاك ، ولم يستطع احد حتى يومنا هذا من كشف لغز سقوط تلك الطائرة ، ويشاركني الاخ هويدي ايضا بقوله ان احد يعرف سر سقوط طائرة عبد السلام عارف ! ولكن هويدي اول من تحدث سواء في كتاباته او في لقاءاته التلفزيونية بأن الرئيس عبد الناصر هو اول من عرف بخبر سقوط الطائرة قائلا لهم بأن عبد السلام قتل وشبع موت ! ولم يعلمنا الاخ هويدي من اين عرف عبد الناصر بمصرع عبد السلام عارف بهذه السرعة الخارقة ! ولم يعلمنا غير هذا الخبر المبتور الذي يثير تساؤلات المؤرخين ، وخصوصا : هل ثمة علاقة لعبد الناصر بمصرع عبد السلام عارف ؟ وهل من اسرار يمكن ان يكشفها لنا احد العارفين او المؤرخين او من كاتمي الاسرار في يوم من الايام ؟
تاسع عشر : دور مصر في تنصيب عبد الرحمن عارف رئيسا:
لعبة عبد الناصر في مستقبل العراق
المهم في المعلومات التي كنت قد سجلتها في بعض كتاباتي التاريخية نقلا عن الاوراق والوثائق العراقية ان وصول عبد الحكيم عامر على رأس وفد من القاهرة الى بغداد على عجل وتدخلاته السافرة في تنصيب من خلف عبد السلام قد غيّر مسار تاريخ العراق برمته في تلك اللحظة التاريخية الضعيفة والحاسمة ! واستطيع اعتبار مستقبل العراق كله خلال القرن العشرين قد تحدد على يد عبد الناصر !! .. لقد عمل عبد الحكيم عامر جهده والوفد المرافق من خلال تنفيذ رغبة الرئيس جمال عبد الناصر في عدم وصول أحد من المرشحين الاثنين اللذين كان ضدهما للرئاسة في العراق : المدني الدكتور عبد الرحمن البزاز رئيس الوزراء والعسكري شديد المراس عبد العزيز العقيلي وزير الدفاع ، وفرض بدلهما اخو عبد السلام الفريق عبد الرحمن عارف رئيس اركان الجيش وكالة ، وقد ضرب بالدستور مرة أخرى عرض الحائط ، ولأول مرة يرث رئيس دولة جمهورية عربية اخاه في الحكم ، كان في العراق !
ان كل ما كنت انتظره من احد الاخوة المسؤولين في عهد الرئيس جمال عبد الناصر ان يعترف بتلك الادوار الرئيسية التي قام بها جمال عبد الناصر في العراق الجمهوري وعلى مدى عشر سنوات كاملة منذ الايام الاولى للانقلاب العسكري العنيف فجر يوم 14 تموز/ يوليو 1958 وحتى فجر الانقلاب العسكري الابيض فجر يوم 17 تموز / يوليو 1968 .. ولابد لنا ان نتساءل بطبيعة الحال : لماذا أصر عبد الناصر ان يأتي رجل ضعيف وعسكري غير لامع مثل عبد الرحمن عارف على رأ س العراق ؟؟ وقد صدق الاخ امين هويدي في روايته عن اجراء محاولة انقلابية او مؤامراتية مصرية في قلب العاصمة بغداد باستقدام عارف عبد الرزاق وجماعته على عجل ، وهنا هل يستطيع هويدي وغيره من المسؤولين الناصريين نفي التهمة عن القاهرة في فرض ما تريده على الشعب العراقي ؟؟
نعم ، انني اثني على الاخ امين هويدي تسجيله التفصيلات من المعلومات التاريخية المهمة التي كنا ننتظرها باهتمام بالغ ، والتي حدثنا فيها عن دور مصر في تنصيب عبد الرحمن عارف ، والاكثر من ذلك انه يشرح لنا بكل صراحة هذه المرة عن دور مصر في اعداد مؤامرة لتنصيب عارف عبد الرزاق رئيسا للجمهورية اثر مصرع عبد السلام عارف .. وهنا اريد ان اغتنم هذه الفرصة كي أدعو مخلصا كل الباحثين والمؤرخين والساسة القدماء وكل من يمتلك معلومات يدلي بها من اجل الكشف عن اسرار مصرع الرئيس العراقي عبد السلام عارف ، ومن يقف وراء التخلص منه ! ان الحاجة التاريخية باتت ماسة الان لمعرفة كيفية سقوط الطائرة الهيلوكوبتر التي كانت تقله فقط ، ونزول الطائرتين المرافقتين بسلام على ارض مطار البصرة . انني واثق شديد الثقة بأن ليس هناك وجود لأية عاصفة رملية اسقطت الطائرة ، بل ان مؤامرة خفية قد حيكت بمنتهى السرية وبعلم الدوائر الامريكية للقضاء على عبد السلام عارف .. وان طائرته قد انفجرت وهي تطير في السماء وتلاشت اجزاؤها في الليل البهيم !
عشرون : الصورة الكاريكاتيرية لتنصيب عبد الرحمن عارف
دعونا نتأمل ما سجله امين هويدي وهو يصف دور مصر في تحديد اسم الرئيس العراقي خلفا لعبد السلام عارف ، قال : ” وصلنا – بغداد – وكان الاستقبال حزينا .. وبدأت اتصالاتي وكان هناك تياران : تيار يريد ان ينتهز الفرصة لتحويل الحكم العسكري الى حكم مدني فيشغل الدكتور البزاز رئاسة الجمهورية ، وآخر يريد استمرار الحكم العسكري كما كان منذ ثورة 1958 كان التيار الاول ضعيفا ولم يكن في امكانه فرض الاستقرار في الساحة العراقية المعقدة ، وكان الثاني ينذر بصراعات على تولي السلطة ” ( المصدر نفسه ) .
ونحن ابناء العراق نسأل ونستفسر ونقول : ما دخل الاخرين في شأن العراقيين في ظرف دستوري كهذا ، من يتكلم باسم من ؟ اين دستور البلاد ؟ اين رأي الشعب العراقي في تحديد مصيره ؟ ولم يذكر هويدي من كان مرشحا على رأس التيار العسكري ، لقد كان عبد العزيز العقيلي وزير الدفاع واحد اعضاء اللجنة العليا للضباط الاحرار في ثورة 14 يوليو / تموز 1958 وكانت له جماعته ، وكان يكن عبد الناصر له كراهية شديدة ، اسوة بالكراهية التي يكنها للدكتور عبد الرحمن البزاز ! وكيف نفهم الاستقرار ؟ وكيف يخطط بنذر الصراعات ؟ وهل يعقل ان يكون ذلك قد حدث بالفعل ؟
ونبقى مع ما سجله الاخ امين هويدي : ” وأخيرا ركزت في اتصالاتي انا وعبد المجيد فريد على ان نساعد في اختيار اللواء عبد الرحمن عارف رئيس اركان الجيش وشقيق الرئيس عبد السلام لملء الفراغ .. كان عبد الرحمن عارف في موسكو وفي طريقه للوصول بعد ساعات .. كان الرجل مقبولا بحذر بين اوساط القادة .. كان ساذجا غير ضار وكان الحل سيئا بين حلول اسوأ .. ” ( المصدر نفسه ) . ولنسأل ايضا الاخ هويدي : من هو الذي يتدخل بشأن الاخر ؟ ولكن شكرا على مثل هذه التسجيلات التي اعدها اعترافات متميزة ستفيد جدا ابناء الشعب العراقي لمعرفة تاريخهم المعاصر ! ولكن أسأل : هل باستطاعة رجل ساذج غير ضار مثل عبد الرحمن عارف ان يملأ الفراغ في ساحة معقدة كالعراق – كما وصفت ـ ؟
ونتابع ما كتبه الاخ هويدي الذي قال : ” اخبرني الوزير المفوض سمير عباسي وكان قلقا ومنفعلا بأن المشير – عبد الحكيم عامر – كلفه بارسال برقية الى القاهرة اعطى فيها الضوء الاخضر لوصول عارف عبد الرزاق صاحب الانقلاب المبتور .. في اول ضوء اليوم التالي ، فالفراغ كامل يسمح بتنفيذ خطة وصوله هو وجماعته للاستيلاء على الحكم !! ” ( المصدر نفسه ) .
ويكمل هويدي بأنه وقف ضد هذه الخطة لأن رد الفعل على العلاقات مدمرا لن ينساه العراق .. فقام بمعية سمير عباسي بارسال برقية الى الرئيس عبد الناصر من اجل الغاء سفر عارف عبد الرزاق ويستطرد قائلا : ” سهرت طوال الليل وانا انظر الى السماء متوقعا وصول طائرة عبد الرزاق ووقوع الكارثة ، وطلع الصباح ولم تصل الطائرة وشكرت الله ” ( المصدر نفسه ) فلقد وصلت البرقية وحلت شفرتها وايقظوا عبد الناصر من منامه ليطلبوا منه عدم تنفيذ الخطة . ويذكر هويدي بأن المشير عبد الحكيم عامر استدعاه ليأخذ طعام الفطور معه في اليوم التالي ببغداد ، وقال لهويدي بالحرف : ” أنا كنت أدبر أمرا ولكنه لم يتم .. ابن …. مين اللي الغى ذلك ؟ وكرر ذلك مرات وقال : بكرة تعرف ولكن والله لو تأكدت من اسم الفاعل سأقطع رقبته ” ! ( المصدر نفسه ) وليس لي ان اعلّق يا اخي هويدي على ذلك الا ان اشكر لك عرضك للحقائق التاريخية هذه التي ستخدم اجيال بلدينا معا : مصر والعراق !
وآخر ما يمكنني ان تقتبسه لنتأمل فيه طويلا ونّعلق عليه ايضا الاسلوب الكاريكاتيري المضحك الذي رسمه امين هويدي وهو يصف ذلك الذي اختاروه لنا رئيسا للعراق على الطريقة المصرية . يقول في وصف استقباله عبد الرحمن عارف الذي قدم على عجل من موسكو : ” ووصلتني الانباء بأن الامر قد استقر على اللواء عبد الرحمن عارف ليخلف شقيقه ، وهذا امر طبيعي في الجمهورية العراقية .. أخ يخلف أخاه او أبن يخلف اباه .. ” ( المصدر نفسه ) . لا يا اخ هويدي انت على خطأ فهذا ليس امرا طبيعيا في العراق ، فمن هو الشقيق الذي خلف شقيقه في حكم العراق المعاصر ، اما اذا كنت تقصد الحكم الملكي الوراثي الهاشمي في العراق ، فأرجو ان لا تنسى الحكم الوراثي لأسرة محمد علي باشا في مصر ! ونتابع معك قائلا : ” وذهب عبد المجيد فريد وأنا الى المطار واستقبلنا عبد الرحمن عارف ، وكان يبكي بشدة ومنديله على عينيه واصطحبناه الى العربة وعزيناه فاشتد بكاؤه .. وهنا قال له عبد المجيد فريد في خبث : ” اتفضل اركب يا سيادة الرئيس ” ، فتمهل عبد الرحمن في مسيرته .. وكرر عبد المجيد في خبث : ” اتفضل اركب يا سيادة الرئيس ” .. ودون ان يسأل عن تفاصيل خفت دموعه واختفى المنديل الابيض وشد من قامته .. وسبحان الله تغيرت ملامح وجهه .. وركب العربة الفارهة وتبعناه في عربتنا السوداء المكتوب عليها ” وفد الضيافة ” واصبح اللواء عبد الرحمن عارف رئيسا !!! ودون انتظار باقي الرسميات أمرني المشير بتجهيز طائرتنا للعودة .. وقال الدكتور البزاز لي وهو يودعنا : ” مبروك عليكم الرئيس عارف فقد توطد الحكم العسكري .. وفي الطائرة شكرنا المشير على جهودنا وكان الى جواره السراج صامتا لا يتكلم .. ” ( المصدر نفسه ) .
تساؤلات تبحث عن اجابات
ماذا يمكنني ان اعّلق أكثر مما علقّت، وماذا يمكنني ان اقول أكثر مما قلت.. ماذا نسّمي اذن كل هذه الصورة التي رسمت مصر عبد الناصر من خلالها مستقبل العراق حتي تلك اللحظة التاريخية المريرة؟ انصدّق ان كل ذلك يجري تحت ما اشيع وما زال يشاع، تحت مظلة القومية العربية؟ اتسمح القومية العربية بهكذا تدخلات سافرة؟ وبقي الامر مستمرا، وبقيت اللعبة قائمة.. وسوف لن تهدأ ابدا، فستبقي مصر تعمل من اجل ان يكون العراق (منسجما) ــ كما وصفوه ــ ولا اقول (تابعا) ــ كما اتهموه ــ مع سياسة مصر، وبقيت مصر تحلم بمجيء الناصريين فقط الي حكم العراق، ولكن ذلك لم يتحقق ابدا، اذ نجحت رهانات اخري ومن نوع آخر كانت لها اصحابها ومخططاتها ونزعاتها وعملياتها.. وعليه فلقد ذهب العراق في طريق آخر العام 1968 الي ايدي البعثيين فاسقط بيد عبد الناصر، وبدأ صراع سياسي واعلامي شديد الصيغة واللهجة بين مصر والعراق لم ينته الا بوفاة عبد الناصر العام 1970.
لعبة جديدة
ولابد لنا ان نسأل اذن نحن ابناء العراق من المختصين والمؤرخين بشكل خاص: ماذا كان عبد الناصر يتطلع من وراء لعبته الجديدة؟ انها رهان سياسي جديد علي العراق! وماذا كان يرمي من وراء محاولته تنصيب عبد الرحمن عارف رئيسا؟ واذا كان الرجل مثار سخرية عبد المجيد فريد وامين هويدي منذ اللحظة الاولي، وان مصر تدرك اذن حجم العراق وثقله وتعقيداته كالتي وصفه هويدي في مذكراته، وتدرك مصر بالوقت نفسه من يكون عبد الرحمن عارف! فهل يا تري ان مصر عبد الناصر ادركت بأن الرجل يصلح لأن يقود العراق؟ ام انها كانت تخطط لمرحلة انتقالية تضعف فيها الدولة بشكل أكبر يؤهلها لأن يتسلم الناصريون حكم العراق ويتحقق حلم عبد الناصر!! وصدق عبد الرحمن البزاز في تبريكاته الوفد المصري عند وداعه انهم جاءوا ليوطدوا الحكم العسكري اثناء حدوث الفراغ السياسي اثر مصرع الرئيس العراقي عبد السلام عارف.. واذا كان هناك من يقول: واين كان العراقيون من هذا كله؟ اين كان المجلس الذي ضم العديد من العسكريين العراقيين رفقة عبد الرحمن البزاز باعتبارها اعلي هيئة تشريعية في البلاد؟ ولماذا وافق العراقيون علي كل الاملاءات المصرية التي فرضها عبد الحكيم عامر عليهم؟
أقول: ثمة أسباب كانت وراء ذلك كله، منها: الصدمة المفاجئة التي ألمت بجميع العراقيين الذين فقدوا رئيسهم فجأة من دون اية توقعات، كما ان نظام الحكم لم يستقر ابدا مع غياب المؤسسات الدستورية وغياب الدستور الدائم لحكم البلاد في ظل حكم عسكري انفرادي.. وسواء كان العراقيون مع عبد السلام ام انهم كانوا ضده، فان اسم الرجل كان قد اقترن بيوم خلاصهم من الملكية الهاشمية التي وصفوا عهدها باشنع الصفات! فهو ثاني اثنين قاما بالثورة علي العهد القديم، وهو اول من دخل بغداد علي رأس اللواء التاسع عشر واللواء العشرين وهو اول من اذاع البيان رقم (1) وهو اول من دعا الناس للهجوم علي قصر الرحاب وهو اول من دعا الي ان يستبيح الثوار كل ما انجزه العهد السابق. وهو اول من اطلق علي العهد الملكي تسمية (العهد المباد) مستعيرا هذه العبارة من عبد الناصر وصوت العرب.. وهو أول من وضعه القوميون في العراق علي رأسهم بمختلف اتجاهاتهم مذ بدأ الخلاف بينه وبين عبد الكريم قاسم.. ولقد اختلف الزعيم قاسم عن الرئيس عارف في واحدة من اهم قضايا العراق السياسية ، فالزعيم قاسم لم يقبل على نفسه ابدا ان يجعلها العوبة بايدي الاخوة المصريين امثال الاخ امين هويدي والذين يحركهم الرئيس جمال عبد الناصر ، في حين غدا عبد السلام عارف منذ الايام الاولى للثورة العوبة بايدي الناصريين ومن ثم البعثيين والحركيين .. حتى احس على نفسه بعد محاولة عارف عبد الرزاق الانقلابية عليه .. اذ يقول أحد الذين عرفوه في ايامه الاخيرة انه كان قد تعّلم عن تجاربه العاطفية مع كل الفئات القومية .. واذا كان قاسما عراقيا قحا في هويته وانتمائه وكان فوق كل الميول الدينية والطائفية والمحلية التي يحتاجها العراق ، فان عبد السلام عارف لم يكن كذلك ابدا ، اذ اضاع نفسه بين عواطفه وميوله والقومية خصوصا ، وكان ضحيتها ! ويبدو لي كمؤرخ عراقي متواضع – وربما كنت مخطئا – بأن عبد الكريم كان قد تعلم كل ذلك عن مدرسة نوري السعيد ، فقد كان من مدرسته العراقية الصرفة ، في حين كان عبد السلام قد خلط الدين بالسياسة بالقومية بالوطنية بالمذهبية وكان جمال عبد الناصر مثله الاعلى حتى محاولة عارف عبد الرزاق الانقلابية ، لينقلب على كل ما آمن به ولكن بعد فوات الاوان !! المهم تاريخيا ، ان الاثنين عبد الكريم وعبد السلام كانا من ضحايا سوء العلاقات العربية العراقية التي ادارها الرئيس جمال عبد الناصر بكفاءة عالية .. فهل يمكن للعراقيين ان يتعلموا من هذا الدرس في ايامنا هذه الاشياء والمعاني الكثيرة .. فالعراق يمر اليوم بمخاض تاريخي يشابه الى حد كبير المخاض الذي عاشه اثر ثورة 14 تموز / يوليو 1958 التي نحرها سوء التوجهات العربية اعلاميا وسياسيا !
وماذا ايضا ؟

سبب آخر يمكننا رصده في قبول العراقيين بالاملاءات المصرية عليهم في تلك اللحظة الحرجة انهم كانوا منقسمين علي انفسهم، انقسام بين العسكريين والمدنيين، وانقسام في صفوف العسكريين.. فالعسكريون العراقيون الذين كان العراق بايديهم لم يقبلوا ان يأتي رجل مدني مثل الدكتور عبد الرحمن البزاز كي ينصّب رئيسا للدولة، وسعيد صليبي رجل بغداد المؤتمن من قبل عبد السلام لا يميل ابدا لوزير الدفاع عبد العزيز العقيلي الذي كانت له جماعته القومية واغلبها من المدنيين.. ولقد حدثني الاخ الصديق الدكتور محمد رشيد الفيل استاذ علم الجغرافية وكان واحدا من اعضاء جماعته بأن العقيلي كان رجلا عسكريا مثقفا صلدا وقويا وكانت له سمعته كواحد من اعضاء الضباط الاحرار في الاجتماع الذي عقد لانتخاب الرئيس، ولكن لم يحصل علي الاصوات بفعل تأثير عبد الحكيم عامر اولا واشاعة ان العقيلي ضد القومية العربية واتهم بالشوفينية العراقية علما بأن الاكراد لا يريدونه لأنه صاحب مشروع عسكري قاس ضد توجهاتهم وحركات تمردهم.. وهناك من يضيف سببا أخر يكمن في موصليته التي لم يكن مرغوبا بها في اوساط المجتمعين واغلبهم من غربي العراق! وعليه، فلقد تمت الموافقة علي التصويت لعبد الرحمن عارف والذي فاز بالكعكعة الرئاسية لوحده علي حساب من كان يتمتع بالقدم العسكري والتاريخ السياسي والسمعة العربية والدولية!

عارف عبد الرزاق والانقلاب الثاني

يؤكد اولئك الذين احبطوا المحاولة الانقلابية الاخري لعارف عبد الرزاق علي عهد الرئيس عبد الرحمن عارف بأن مصر قد قطعت علي العراقيين اي مشروع للحكم المدني اثر مصرع عبد السلام عارف واتت بأخيه عبد الرحمن من اجل ان يغدو الوضع ضعيفا جدا يسهل جدا حدوث اي انقلاب يأتي هذه المرة بعارف عبد الرزاق علي رأس الحكم في العراق بطريقة سهلة.. ولدي تفصيلات تاريخية واسرار من المعلومات التي زودني بها بعض الضباط العراقيين القدماء الذين احبطوا الانقلاب الفاشل الاخر لعارف عبد الرزاق ومنهم الاخ العميد المتقاعد صديق اسماعيل الكتبي الذي قبض علي عارف عبد الرزاق في مطار الموصل واعتقله وارسله مع جماعته الي بغداد، ولكنني أؤجل الحديث في التفاصيل عنها الي حين تبرز معلومات اخري عن مصر، وهي تحدد دورها الذي استمر بالتدخل في الشؤون الداخلية العراقية، وساقصر معلوماتي علي ما هو مختصر.

حدثني الاخ صديق اسماعيل الكتبي وكان من خيرة الضباط العراقيين وحوكم امام محكمة المهداوي عقب فشل حركة عبد الوهاب الشواف بالموصل العام 1959 وحكم عليه بالاعدام الذي خفض الي الاشغال الشاقة المؤبدة، وكان أبوه الشيخ اسماعيل الكتبي صديقا حميما للرئيس عبد السلام عارف. قال لي الاخ صديق بأن المحاولة الثانية قد انطلقت في مطار الموصل وحاول عارف عبد الرزاق مع جماعته ان يسيطروا علي المطار بعد وصولهم اليه خلسة من مصر، من اجل ان يقود سربا من الطائرات ويقصف بغداد، ولقد قمنا في اللواء الخامس المتمركز في الموصل بتطويق المطار، وقد استسلم لي عارف عبد الرزاق واقتدته مع جماعته والتفت الي قائلا بأنني لو نجحت في محاولتي اليوم لعلقتك مشنوقا يوم غد في قلب بغداد، ولقد ارسل الانقلابيون الي بغداد بسيارات عسكرية واحتجزوا هناك في غرفة واحدة، وتدخل عبد الناصر بشكل مباشر وسافر وسريع من اجل تسفيرهم الي مصر، فوصلوها واعلن في راديو بغداد عن محاولة انقلابية فاشلة بطلها عارف عبد الرزاق من دون ان يتم التعريف بمن كان وراءها.

وربما يقول قائل: واين دور العراقيين انفسهم؟ اقول، نعم لابد من ادانة اولئك الذين اخطأوا كثيرا بحق تاريخ العراق المعاصر.. وقد قال الدكتور عبد الرحمن البزاز عن هذا الموضوع لواحد من اصدقائه رجال القانون في العراق بأن دور الرئيس جمال عبد الناصر كان كبيرا في احداث العراق، وكانت مصر وراء اقصائي من رئاسة الجمهورية وعن ابعاد العراقيين عن اي حكم دستوري ومدني. وان عبد الناصر كان يعرف البزاز منذ ان عمل سفيرا للعراق في مصر، واكتشف كفاءته في مباحثات الوحدة اذار (مارس) ــ نيسان (ابريل) العام 1963. ولم يذكر امين هويدي كل ذلك، ففي الوقت الذي كان فيه هويدي سفيرا لمصر في العراق، كان البزاز سفيرا للعراق في مصر، فكيف يأتي هذا السفير وهو من ابرز رجال القانون في العراق كي يشكل حكما مدنيا مستقرا في العراق؟


استنتاجات آخر المطاف: هل من صفحة جديدة من اجل المستقبل؟

لقد اطلعتنا مذكرات الاستاذ امين هويدي في ما يخص العراق علي معلومات غاية في الاهمية، وبرغم انه اكتفي بسرد ما يعرفه، ولكنه ــ كما اعتقد ــ قد أخفي المزيد من المعلومات التاريخية الغاية في السرية عن العراق وحجبها عنّا لأسباب هي معروفة لنا كونها معلومات تخص دور مصر علي عهد جمال عبد الناصر في العراق الجمهوري، وخصوصا تلك المعلومات التي تتعلق باسرار مصرع عبد السلام عارف واخبار تتعلق بالانقلاب الناصري الاول الذي قاده عارف عبد الرزاق ضد عبد السلام عارف.. كما انه اخفي بعض اسماء الشخصيات العراقية التي كانت علي صلة وثيقة به ولم يوضح ابدا علاقة الناصريين العراقيين ابان تلك الفترة بالسفارة المصرية، ودور تلك (السفارة) في السياسة العراقية سواء قبيل محاولة الانقلاب المذكور ام بعيد حدوثه؟ وكم اتمني علي الرجل ان يوضح بكل صراحة، تفصيلات ما كان يراه عبد الناصر في الشخصيات العراقية التي كان يتعامل معها بدءا بعبد السلام عارف وانتهاء باولئك الذين كان يستقبلهم في مكتبه وبيته من العراقيين الذين أحبوه حبا جما لا يقدر بثمن.. ودخلوا من اجل الرئيس جمال عبد الناصر في نضال سياسي وصراع ايديولوجي ضد بقية التيارات السياسية الاخري في العراق بدءا بالشيوعيين وانتهاء بالبعثيين علي امتداد عشر سنوات كاملة.
دور مصر السياسي
كم كنت اتمني ان يسجل الاخ امين هويدي لنا العلل والاسباب لمعظم ادوار مصر السياسية في العراق علي غير ما جاءت ونشرت عليه، فكم يا تري نحن بحاجة الي المزيد من الصراحة والامانة في توضيح ما الذي كان يريده جمال عبد الناصر من العراق بالذات بعد ان اطلعنا بما فيه الكفاية علي الاحداث والادوار وخفايا تلك التدخلات السياسية السافرة. انني عندما احلل بعض الكتابات والتحليلات والمذكرات التي يكتبها بعض الساسة والمحللين والمؤرخين، فليس هناك عندي الا التوصّل الي المزيد من الحقائق بعيدا عن اي تكريس لتوجهات سياسية او ايديولوجية.. وعندما نتكلم عن احداث وادوار وشخوص ووقائع.. فلابد ان نستفيد من تجارب عاشت وانتهت من اجل ان نستفيد منها. وبرغم كل ملاحظاتي النقدية وتعليقاتي فاننا نشيد بمذكرات امين هويدي كثيرا وعلي عواطفه ازاء العراق الذي احبه فعلا من اعماقه واحب اهله وارضه، اذ لابد ان نذكر ذلك ونشيد به فالرجل يرعي المعروف وله ذكرياته الخصبة في كل مكان من العراق وهناك حتي الان من يزجيه التحيات من بغداد لأنه يذكر ايامه معه التي لا تنسي ابدا.. متمنين عليه ان يكون متسعا صدره لما كان قد قرأه من تعليقات وملاحظات ونقدات من حقنا ان نكتبها وننشرها بحثا عن حقائق التاريخ مع تمنياتنا له بالصحة والتوفيق. (وملاحظة أخيرة أود تسجيلها للقاريء الكريم، ذلك انني استخدمت في كتابة هذا النقد التاريخي العديد من الوثائق التاريخية المهمة والنادرة ستكون مرفقة لاحقا بالموضوع عندما يجد طريقه قريبا للنشر في كتاب بحول الله). ودعوني في الحلقات القادمة اعالج ردود الفعل وتشريح بعض الروايات التاريخية في الرد على امين هويدي ..

( جريدة (الزمان) — العدد 1545 — التاريخ 2003 – 7 – 1 )

غياب البروتوكولات الدوبلوماسية :
هويدي وعارف على ظهر دبابة
لقد قرأت مؤخرا في كتاب جديد اصدره د. علي كريم سعيد بعنوان : ” العراق : البيريّة المسلحة ( حركة حسن سريع وفطار الموت 1963 ) ، ط 1 ( بيروت : الفرات للنشر والتوزيع ، 2002 ) أنه عندما اشتعلت الحركة الانقلابية المسلحة التي قادها احد عرفاء الجيش العراقي من الشيوعيين والمتعاطفين مع عهد عبد الكريم قاسم ضد سلطة عبد السلام عارف والبعثيين يوم 3 تموز / يوليو 1963 اي بعد انقلاب البعثيين واعدام عبد الكريم قاسم بقرابة 5 اشهر والتي جرت عملياتها في معسكر الرشيد قرب بغداد وكان نصيبها الفشل ومصرع بين 15- – 200 جندي وضابط صف في معسكر الرشيد واعتقال العشرات من الشيوعيين ومؤيدي نظام عبد الكريم قاسم ثم باعدام قادة منفذي العملية وعلى راسهم مخطط الحركة حسن سريع وموت العشرات تحت التعذيب ونفي عشرات اخرين الى معتقل نقرة السلمان . يقول علي كريم سعيد في هامش رقم (1) ص 101 : ” كتبت وسائل الاعلام وتفاخرت بمرافقة السفير المصري لعبد السلام عارف في دبابته عند اقتحامها لمعسكر الرشيد . ولم يكن ذلك صحيحا ، وعلى الاغلب انه صعد معه الى الدبابة خلال استعراض النصر ، أو لأخذ صورة صحفية لنشرها في وسائل الاعلام وارسال نسخة منها الى القاهرة . وكان السفير المصري لدى العراق أمين هويدي (وفيما بعد وزيرا ومديرا للمباحث العامة ) ، وكان قبلها أحد ضباط المخابرات العامة المصرية ومكلف شخصيا من قبل الرئيس جمال عبد الناصر بالملف العراقي المهم ، وقد أساء صعوده الدبابة الى جانب عبد السلام عارف ، احتفالا بالنصر على حركة معسكر الرشيد ، الى شعبية جمال عبد الناصر والحركة الناصرية في العراق ، فقد تعاطف عراقيون كثيرون مع حركة الرشيد ، رغم عدم معرفتهم برجالها ، وأتصور الى ذلك ربما يعود الى عدم ميلهم لبعض ممارسات السلطة والحرس القومي الفوضوية في المدن والاحياء . وأظن ان ركوب السفير للدبابة كان واحدا من اخطر تدخلات واخطاء عبد الناصر الكثيرة في العراق . اذ ملأت تلك الصورة ذهن المواطن البسيط بفكرة استعداد مصر الناصرية لنصرة ، او كسب الانصار والاصدقاء رغم معرفتها التامة بأعمال القمهع الظالمة التي ما انفكت بعض الاجنحة الحكومية من ممارستها ، وان عبد السلام عارف نفسه يقف على رأس قائمة المطالبين بسفك الدماء ، لأسباب سياسية لا تستوجب القتل في مطلق الاحوال . وبسبب التدخلات غير الموفقة لبعض المحسوبين على الناصرية هنا وهناك من الوطن العربي ، اصبح للناصرية أعداء كثيرون اسهموا بافشال مشروعها لقيادة الامة نحو الوحدة تحت الراية المصرية ، وأسوأ ما في تلك الصفحة كان سكوت مصر على اخطاء انصارها ” .
البعثيون وعبد السلام عارف :
كنت اتمنى على الاخ امين هويدي ان يعالج في ذكرياته مثل هذا الذي حدث ، لأن صعود سفير دولة مثل مصر الى جانب رئيس دولة مثل العراق على ظهر دبابة له اكثر من تفسير ودلالة .. والاسئلة تثار دوما عن المناسبة ولماذا بالذات في تلك اللحظة التاريخية ؟ واذا كانت وسائل الاعلام المصرية قد روجت تلك الصور ، فماذا كانت تبغي من ورائها ؟ وما هو رد فعل جمال عبد الناصر ازاء ذلك ؟ وكيف سمح عبد السلام عارف نفسه في ان يكون الى جانبة سفير دولة على ظهر دبابة ؟؟ لا الاعراف الدبلوماسية تقبل حصول مثل هذا كله بين دولتين كل منها ذات سيادة وخصوصا بين رئيس احدها وسفير ثانيها .. ولا العلاقات الشخصية تقبل حصول مثل هذا الانحلال في التقاليد الدوبلوماسية والبروتوكولات الدولية بين زعيم دولة وسفير دولة ثانية وعلى الملأ من دون ان يدان كل هذا ادانة ثقيلة ! هذا ما كنا نود سماعه من الاخ امين هويدي ..
وفي مكان آخر ، يكتب علي كريم سعيد بما كان حازم جواد قد حدّثه به في لندن ، يقول : ” كنا في قصر زنزونة ( عبد السلام عارف وحازم جواد وطالب شبيب ) وهو مقر اقامتنا في آخر زيارة رسمية للقاهرة ( في شهر آب / اغسطس 1963 ) جاء جمال عبد الناصر لزيارتنا وكان معه امين هويدي وآخرون ، فكانت لنا جلسة مراجعة لوضع اللمسات الاخيرة على حصيلة زيارتنا لمصر ، وخلالها وعد عبد الناصر بزيارة العراق قريبا واكد على أهمية تحقيق الوحدة لكنه أشار قائلا : ان الشعب المصري طيب وبسيط وليس مفيدا ان يفاجأ كل يوم عندما يفتح الجريدة صباحا فيقرأ انباء عن اعدام ما لا يقل عن خمسة من خصوم الحكومة العراقية السياسيين لا سيما الشيوعيين ” ، وهنا وجد حازم جواد ان الفرصة مواتية ليقول للرئيس جمال عبد الناصر : ياسيادة الرئيس ان حديثك بمحله وهذا أبو احمد ( = عبد السلام عارف ) أمامك فأقنعه ان يخفف من حماسه هو وبعض الضباط الى تصفية الشيوعيين ” . ( المرجع نفسه ، ص 193 ) . وكم كنت أود من امين هويدي وهو شاهد على اهم ما دار من حوارات بحضور الرئيسين عبد الناصر وعبد السلام عارف ان يوضح لنا بشكل واضح وبكل امانة وموضوعية معرفته بالرئيس عبد السلام عارف ومسألة مسلسل التصفيات وحمامات الدم التي عرفها العراق منذ خمسين سنة !
الرواية التاريخية للفريق الركن ابراهيم الداود :
تضارب في المعلومات التاريخية
دعونا نننقل الى رواية تاريخية برغم اضطرابها وعدم ثقتي التاريخية الكاملة بها لكنها تلقي الضوء على تلك المرحلة وتخالف في بعض معلوماتها ما كتبه امين هويدي .. انها رواية جاءت على لسان الفريق الركن ابرهيم الداوود الذي شارك في انقلاب 17 تموز / يوليو 1968 بالاشتراك مع كل من عبد الرزاق النايف والبعثيين ونّصب عضوا في مجلس قيادة الثورة وقائدا عاما للقوات المسلحة ووزيرا للدفاع .. وفي يوم 30 تموز / يوليو 1968 انقلب البعثيون على الاثنين اللذين عاشا في المنفى ، وكان ان اغتيل عبد الرزاق النايف في لندن في ما بعد وبقي ابراهيم الداوود على قيد الحياة ، وقد تابعت بعض تصريحات الاخير وذكرياته السياسية التي حررها الصحفي المعروف غسان شربل في جريدة الحياة اللندنية ومن خلال اسلوب حوار جرى بينه وبين ابراهيم الداوود ( انظر : الاعداد المتأخرة من جريدة الحياة ، الاعداد المنشورة : 9 / 6/ 2003 ، 10/ 6 / 2003 وايضا : 12/ 6/ 2003 ) ، قال الفريق الركن إبراهيم الداود وهو يتحدث عن ايام عبد السلام عارف إنه كان بين الضباط الذين حرضوا الرئيس عبدالسلام عارف على حسم الموقف وطرد البعثيين من السلطة في العام 1963. وأضاف انه زار “قصر النهاية” ذات يوم ورأى “جثثاً وسجناء يئنون وفتيات مغتصبات”، ونقل الصورة إلى عارف الذي قال له تمهل قليلاً، ما دفعه إلى استنتاج أن الرئيس يعد للحسم.
الناصريون العراقيون وعبد السلام عارف : المؤامرة والانقلاب
وفي 18 تشرين الثاني (نوفمبر) 1963 تخلص عارف من شركائه البعثيين بضربة قاضية . وبعد ضرب البعثيين ، اعتمد عبدالسلام عارف على الناصريين، أي على عارف عبدالرزاق وجماعته. كان عبدالرزاق طيار الوصي عبد الاله في العهد الملكي، لكنه كان رفيق دراسة لعبدالسلام الذي عيّنه رئيساً للوزراء. ولقد غدر الناصريون بمن جاء بهم الى السلطة ، اي بعبد السلام عارف . اذ نّصب عارف عبدالرزاق رئيسا للوزراء ووزيرا للدفاع وهو أصلاً قائد القوة الجوية. وتولى صبحي عبدالحميد حقيبة الخارجية وهو ضابط. وعّين رشيد محسن مديراً للأمن العام. واصبح هادي خماس مدير استخبارات، اما محمد مجيد فنصّب معاوناً لرئيس أركان الجيش. هؤلاء ناصريون أو هكذا يحسبون في هذا الخط القومي الناصري. وعندما عقدت قمة عربية في مدينة الدار البيضاء بالمغرب وحضرها جمال عبدالناصر وعبدالسلام عارف والزعماء العرب ، تنبه الناصريون العراقيون إلى أن معظم المواقع الحساسة بيدهم باستثناء الحرس الجمهوري الذي توليت قيادته – كما يقول الداوود -. ويتابع الداوود ذكرياته ويذكر : التزمت قاعدة، وهي أن لا أسافر مع رئيس الجمهورية ( وانني هنا اسأل ما الصفة السياسية العليا التي يحملها الداوود للمشاركة مع سيده في اعمال القمة العربية بالدار البيضاء ) ، وهنا يخبرنا الداوود بأنه هو الرجل الذي قضى على محاولة انقلاب الناصريين العراقيين بقيادة عارف عبد الرزاق ، ويستطرد قائلا : كنت أنام في المقر وأعلن ما يشبه حال الانذار في غياب الرئيس. كان عبدالرحمن عارف رئيساً لأركان الجيش يوم ذاك وكان في زيارة رسمية لموسكو. هنا لعبت الصدفة دورها. رن الهاتف العسكري في مكتبي وهو هاتف سري. رفعت السماعة وإذ على الجهة الأخرى ضابط من كتيبة الدبابات في معسكر أبو غريب اتصل خطأ بمكتبي، وقال: “أبو حميد أبو حميد هؤلاء يريدون أن انضم إليهم وأنا لا اوافق بماذا تنصحني؟”، فقلت له: “أمش معهم ولا تتردد”. كان الضابط وهو من آل الجبوري يريد التحدث إلى رشيد محسن فطلب الرقم خطأ. اقفلت السماعة وأدركت انهم يجهزون الدبابات للسيطرة على العاصمة. تحركت على الفور وأخرجت مدافع مضادة للدبابات نشرتها على جانبي الطريق التي يمكن أن يسلكها الانقلابيون. وأصدرت أوامري بقصف أي دبابة تتقدم وبمنع أي شخص من دخول مقرات الإذاعة كائناً من كان واطلاق النار على من يرفض الامتثال للأوامر. وتوجهت شخصياً وجلست عند مدخل الإذاعة. علموا بوجودي هناك وبأن قوات الحرس الجمهوري ستقاتل. تخوفوا ولجأوا إلى سعيد صليبي قائد موقع بغداد الذي لم يكن مشاركاً معهم، لكنه مجامل لا يتخذ مواقف حادة. طلبوا منه التوسط فقلت له: “سأذبحهم. عينهم عبدالسلام ويغدرون به”. كانت خطتهم الاستيلاء على الحكم وعلى أمل أن يطلب عبدالناصر من عارف البقاء في القاهرة. استمرت المفاوضات حتى الفجر. تمسكت بضرورة قتلهم، لكن معاون مدير الاستخبارات عبدالرزاق النايف وآخرين مارسوا ضغوطاً عليّ بذريعة ان الانقلابيين رفاق. وافقت على عدم ألمس بهم شرط مغادرتهم إلى القاهرة. اتصلت بالقاعدة الجوية في بغداد. اصعدوا إلى باصين واقتيدوا إلى الطائرة. الحقيقة أن عارف عبدالرزاق كانت تربطني به علاقة صداقة. ولو استدرجني في ذلك اليوم إلى فنجان قهوة وأحاطوا بي قبل أن أعرف لنجحت المحاولة. هنا يسجّل الداوود فضل فشل الانقلاب لنفسه ، واذا كان يصف سعيد صليبي قائد موقع بغداد بالمجامل ، فان الذي اعرفه بأن الاخير كان على عكس ذلك ، وكما قيل لي من اكثر من شخص يعرفه انه كان شرسا وهو الذي حما بغداد من محاولة انقلاب عارف عبد الرزاق ضد عبد السلام عارف ! وتعلمنا المناصب والمواقع العسكرية الحساسة على عهد الاخوين العارفيين انها كانت من نصيب ضباط غربي العراق ، بمعنى ان عبد السلام عارف لم يكن يطمئن الى غيرهم ، فكان نفوذهم كبيرا للفترة بين 1963- 1968 الى حين استلام البعث مقاليد الحكم لتنتقل الجهوية من الرمادي غرب العراق الى تكريت والدور في وسط العراق ! يعلمنا ابراهيم الداود ايضا كيف انه اقتاد الانقلابيين في باصين الى المطار ليرسلهم الى مصر .. وايضا نسأل الداوود : هل كان بمقدوره ان يتخذ هكذا قرار من دون حصول موافقة سيده عبد السلام عارف على ذلك !
موقف عبد السلام عارف في مؤتمر القمة
يحدثنا الداوود قائلا : ارسلت له برقية ( بمعنى ان هناك من قام بارسال برقية رسمية بمعزل عن مساعدة السفارة المصرية ) وقلت له لا تعد في طائرة خاصة بل في طائرة ركاب. وإذا طلب منك عبدالناصر الذهاب إلى القاهرة الرجاء أن لا تقبل. وأبلغته ما جرى وانني ارغمت عارف عبدالرزاق وصبحي حديد ورشيد محسن وغيرهم على المغادرة. هنا سأروي ما قاله لي عبدالسلام شخصياً في وقت لاحق. قال إنه نام قليلاً بعد الظهر في المغرب فأبصر رؤية مفادها أن عارف عبدالرزاق ورفاقه نظموا مؤامرة وانكفأوا بعدها إلى القاهرة. ايقظه المرافق العميد زاهد فقال له عبدالسلام: لا تتكلم لقد ابصرت رؤيا تقول الآتي. أبلغه زاهد بما حدث فذهب عبدالسلام إلى مقر الاجتماعات في القمة وحمل بعنف على عبدالناصر، وقال له هؤلاء جماعتك ان كل الشعارات القومية التي ترفع مجموعة أكاذيب. ثم عاد في طائرة خاصة بعدما قال لعبدالناصر: “أنا أسعى إلى وحدة معك وأنت تتآمر علي مع هؤلاء الجبناء ليتسلموا الحكم وتأخذني إلى القاهرة” ( انتهت رواية الداود ) . اذن اين هذه الرواية من الذي كتبه وسجله امين هويدي في مذكراته ؟ وثمة رواية ساخنة تقول بأن عبد السلام عارف حمل حملة شرسة ضد جمال عبد الناصر وشتمه امام بعض الرؤساء والملوك العرب من دون ان ينبس عبد الناصر ببنت شفة ! ولما اردت ان اتأكد من هذه الرواية من الدكتور احمد الحسو وكان مرافقه ، نفى الحسو حصول اي شتيمة !
قصة مصرع عبد السلام عارف : المؤامرة الخفية
يتحدث ابراهيم الداوود ايضا : ” بعد وقت قصير وتحديداً في 13/4/1966 قام عبدالسلام بزيارة إلى البصرة. لازمت القصر الجمهوري كعادتي، توجهت إلى منزلي لتبديل ملابسي ومررت على قاض صديق لمدة عشر دقائق وتوجهت إلى وزارة الدفاع للمراجعة في شأن تجهيزات. اتصلت بالقصر سائلاً عن الأوضاع فأبلغوني أن رئيس الوزراء عبدالرحمن البزاز اتصل وقال إن من الضروري أن تكلمه. عدت إلى مقري وطلبته على الخط الخاص، وهو كان أستاذي في كلية الحقوق، فطلب مني الحضور إلى مكتبه. ساورتني الشكوك فقلت لضباط الحرس أن يجهزوا قوة للحاق بي إذا تأخرت كثيراً.
أبلغني ( عبد الرحمن ) البزاز أن طائرة الهليكوبتر التي يستقلها الرئيس غادرت البصرة في اتجاه قرية قريبة وانقطعت المعلومات عنها. وقال ان مستشارين له نصحوه بعدم اخبار أحد قبل اطلاعي على النبأ.عدت إلى مقري ورحت أوالي الاتصالات بالجهات المعنية حتى الفجر حين اتصل بي البزاز ليبلغني أنه تم العثور على الطائرة والجثث…
عندما تأكد مقتل عبدالسلام كان شقيقه عبدالرحمن في موسكو في زيارة بصفته رئيساً للأركان. أعددت بياناً يقول إن عبدالرحمن هو الرئيس الجديد. اتصلت بسعيد صليبي قائد موقع بغداد فقال: “لا يا أبو أركان، فلنعالج الأمور بطريقة أخرى. قادة الفرق مجتمعون في مكتبي وأرجو أن تشارك”. ذهبت وأنا في وضع من يده على الزناد. اتصلت بعبدالرزاق النايف واصطحبت حراسة وذهبنا إلى مقر الاجتماع. قال الصليبي: “هنا قادة الفرق وكبار ضباط الجيش. أتمنى عليك أن لا تتسرع. هناك سياسيون في البلد فلنذهب لزيارتهم ومعرفة رأيهم”. وقال لرئيس الاستخبارات شفيق الدراجي: “إبراهيم هنا اطلبا غداء ونحن سنعود”. ( انتهى النص ) .
العسكريون العراقيون و”السيطرة بالغدّارة” على الموقف
بعد ساعتين أو أكثر عادوا بعدما زاروا طاهر يحيى وأحمد حسن البكر وعارف عبدالرزاق وناجي طالب وغيرهم. قالوا توصلنا إلى القرار التالي: “تشكيل مجلس قيادة ثورة من 30 شخصاً”. ضم المجلس رئيس أركان الجيش وقادة الفرق وشخصيات مهمة وكان اسمي بين الأسماء. سألوني رأيي فقلت: “والله لو عرضنا أنفسنا على الشعب لما انتخبنا. نحن مسيطرون بالغدارة (بالرشاش) نحن هنا بالقوة”. أنا في الحقيقة لم اختر عبدالرحمن عارف من أجل كفاءته، بل لأنه أسلم من أحمد حسن البكر وطاهر يحيى وناجي وطالب وغيرهم لأن مجيء الحزبيين كارثة. طرحوا أيضاً تشكيل مجلس رئاسي من عبدالرحمن عارف وأحمد حسن البكر وناجي طالب. قلت لهم: في هذا المجلس سيعمل كل واحد لربعه وتكون النتيجة صفراً للشعب. على رأس السلطة في بريطانيا امرأة لكن من الحاجب الى الوزير الكل يعمل للدولة والمصلحة العامة. فلنأت بعبد الرحمن عارف فهو رجل طيب وتكريما لأخيه الراحل، وليأت أحمد حسن البكر وطاهر يحيى كنائبين لرئيس الوزراء وأنا أكون جندياً وأحرسهم. كانوا ضباطاً أرفع مني لكنني انفعلت. قلت لهم: “يا اخوان عبدالرحمن عارف هو رئيس الجمهورية ومن لديه حل آخر فلينزل الى الشارع”. خرجت حتى من دون تأدية التحية وعدت الى مقري وتبعني عبدالرزاق النايف. ( تابع النص الذي ادلى بروايته التاريخية ابراهيم الداود وقارن معلوماته اللاحقة مع النص الذي كتبه امين هويدي ، ولابد من التساؤل عن صحة الخبر والتأكد من قبل السيد عبد الرحمن عارف نفسه الذي اتمنى من سيادته ان يدلي بروايته الصحيحة ما دام على قيد الحياة اطال الله في عمره خدمة للتاريخ من بعده وانصافا للحقيقة المشوّهة .. ) .
اعتلاء عبد الرحمن عارف سدة الحكم
يتابع ابراهيم الداود مستطردا : ” طلبت منه الاتصال بعبدالرحمن عارف كي يجيء حتى ولو استلزم الأمر استئجار طائرة خاصة. وعد عارف النايف بالعودة سريعاً وهذا ما حصل. نشرت قوة في المطار ولدى وصول عارف وقفت جانباً مع النايف وإذ بقادة الفرق يقتربون مني ويشيدون بخياري. قلت للنايف ان يصعد مع عارف والبزاز في سيارة واحدة وان لا يسمح لأي شخص بالصعود معهم. عانق قادة الفرق عارف وعزوه بمقتل شقيقه. عرف عارف بما فعلت واتصل بي بعد يومين فذهبت اليه. قال: “أريد أن أاقبلك. أنت تعادل قيس (ابنه) عندي وأنت احسن منه فقيس ماذا يفعل لي، أنا أشكرك”. فأجبته: “لا تشكرني، أنا بصراحة لم أفعل ذلك من أجلك أو من أجل شخص محدد. فعلته لأنني رأيت في ذلك مصلحة للبلد. جربنا البعثيين والحزبيين ووجدنا انك الأسلم. ثم علينا واجب الوفاء لعبدالسلام قائد الثورة وأنت القادر على السير في هذا الخط”. شكرني. على مدى أيام اجتمع قادة الفرق والوزراء في اطار مجلس الدفاع الأعلى لانتخاب رئيس للجمهورية. وكلما اجروا انتخابات كانت الأكثرية تميل لمصلحة عبدالرحمن البزاز. وزير الدفاع العقيلي رشح نفسه ولم يفز الا بصوته. طالت القضية وعارف يطالبني بالصبر مفضلاً المسار الديموقراطي. عندها قررت حسم الوضع. جئت الى مقر الاجتماع وعندما وصل قادة الفرق قلت لهم هاتوا مسدساتكم لأن الوزراء المدنيين يعتبرون وجودها معكم بمثابة ضغط. اخذت المسدسات ووضعتها لدى الحرس. اعترضوا وقالوا نحن قادة فرق. فقلت لهم: “أنا ضابط ركن واخوكم الصغير، لا يعقل أن يقول الوزراء انكم هددتموهم بالمسدسات”. الحقيقة ان الضباط كانوا مع عارف في حين ايد الوزراء البزاز. حين وصل البزاز قلت له: “انت استاذي واحبك واحترمك. أنا اتطلع الى المسألة بمنظار خاص. لدى الجيش حساسية ضدك. انت لك علاقة مع المرحوم عبدالسلام وتعرف أن عبدالرحمن شخص طيب. لذلك اقترح ان تتنازل عن الرئاسة على أن تكون رئيساً للوزراء مع عبدالرحمن”. ورافقته الى ان دخل القاعة. اجريت دورة انتخابية ففاز عبدالرحمن البزاز. عندها وقف البزاز وقال انا أتنازل لعبدالرحمن عارف وهو خير خلف لخير سلف. وهكذا بات عبدالرحمن عارف رئيساً للجمهورية والبزاز رئيساً للحكومة. ويرى الداود في عبد الرحمن عارف ان شخصيته بسيطة، وهو رجل ضعيف جداً، فالمسافة بينه وبين شقيقه عبدالسلام كبيرة.وشتان ما بين الاثنين “.
ما مدى صحة الروايتين لكل من هويدي والداود ؟
ثمة اسئلة مهمة لابد ان نوجهها للفريق الركن ابراهيم الداوود لأنني اعتقد انه قد غالى كثيرا في رواياته وحاله هنا حال امين هويدي في مغالاته وبدا كل منهما لنا على طرفي نقيض ، اذ اعتقد ان كليهما قد شوّه الحقيقة ، ذلك ان امين هويدي يريد اقناعنا بأن مصر وراء تنصيب عبد الرحمن بالطريقة التي شرحها لنا ، في حين ان الداود ينسب لنفسه الفضل كل الفضل ليس في تنصيب عبد الرحمن عارف فقط ، بل في صناعة تاريخ العهد العارفي برمته !! لقد وجدنا ان الداود اختلف اختلافا جذريا في روايته عن رواية هويدي .. صحيح ، ان الداود كان قائدا للحرس الجمهوري ، والحرس الجمهوري في عهد عارف لم يكن قوة ضاربة كالتي غدا عليها في ما بعد .. اذن ، هل كان موقع الداود يسمح له ان ينّصب رئيسا للجمهورية العراقية ؟؟ وهل كان العراق بيده حتى يفرض عبد الرحمن عارف لأنه اسلم واطيب من غيره ؟؟ نعم ، قد تكون له كلمة في ” الموضوع ” باعتباره واحدا من كتلة الضباط المحسوبين على عبد السلام عارف والذين كانت مصلحتهم جميعا في يرث عبد الرحمن سدة الحكم من اخيه عبد السلام ! وكيف يا ابراهيم الداود تتحدى الجميع بأن ينزلوا الى الشارع ؟ معنى ذلك انك كنت تسيطر على العراق ! ولماذا تحاشيت ذكر وصول المشير عبد الحكيم عامر والوفد المرافق له الى بغداد ، وبيدهم اوامر صارمة فرضها عامر عليكم ايها الضباط العراقيون بتنصيب عبد الرحمن عارف رئيسا من اجل اقصاء كل من العدوين اللدودين لعبد الناصر : الاستاذ المدني ( العاني الاصل ) عبد الرحمن البزاز والوزير العسكري ( الموصلي الاصل ) عبد العزيز العقيلي ! وأسأل ايضا : ما الذي اوجد عارف عبد الرزاق بين المجتمعين من العسكريين العراقيين ؟ هكذا بكل بساطة ، يعود من مصر على وجه السرعة من اجل سلطة يعتقد انها تنتظره في بغداد ؟ ولكن كيف سمح له العسكريون العراقيون ان يجالسهم ؟ ونسأل الاخ هويدي : هل عاد عارف عبد الرزاق الى بغداد على نفس طائرتكم وبرفقتكم وبمعيتكم ؟ هذا ما نريد الكشف عنه من اجل ان تتوضح المزيد من الحقائق .
من استقبل عبد الرحمن عارف في المطار ؟
وتجدون رواية مختلفة في استقبال عبد الرحمن عارف ( رئيس اركان الجيش العراقي بالوكالة ) الذي نصّبوه رئيسا والقادم من موسكو ! فأين وجه الصواب بين رواية امين هويدي الذي كتب انه استقبل عبد الرحمن عارف وكان هويدي بمعية عبد المجيد فريد وكيف يصف هويدي عبد الرحمن الذي جعله عبد المجيد فريد اضحوكة وهو يستهزىء به وكيف اركبوه السيارة وجلسوا معه .. وبين رواية ابراهيم الداود الذي أمن الاستقبال من قادة الفرق وفرض على عبد الرزاق النايف مرافقة كل من البزاز وعبد الرحمن فقط في سيارة اتت به من المطار ؟؟ وكيف استقبل قادة العراق العسكريين عبد الرحمن عارف وعانقوه بعد ان قدموا له التعازي بوفاة شقيقه ! ان الذي يهمنا هنا مدى صحة رواية واحدة من الروايتين .. ولقد تأكدت من اكثر من مصدر ان عبد الرحمن عارف استقبل من قبل ضباط عراقيون رافقهم عبد الرحمن البزاز وبعض الوزراء .. ولكن ان يجعل الداود نفسه من وراء تنصيب عبد الرحمن عارف حتى يقول للتاريخ بأن الذي اطاح بعبد الرحمن عن سدة الحكم هو نفس الرجل الذي نصّبه في تلك السّدة ! والحقيقة ليست كذلك ابدا ، اذ كانت هناك طبخة ناصرية اعدت ليس على عجل ، بل اعدت بكل هدوء في القضاء على عبد السلام عارف والاتيان بعارف عبد الرزاق والناصريين من حوله ، ولكن اللعبة لم تنجح ، فكان مجيىء عبد الرحمن بقرار من عبد الناصر .. ولكن الاخير لم يصمت ، فثمة طبخة مؤامرة من نوع آخر ضد عبد الرحمن عارف ، كما سنرى في ادناه .
محاولات الانقضاض الناصري على عهد عبدالرحمن عارف :
يكمل الداوود حديثه بالقول : ” الناصريون الذين طردناهم الى القاهرة بدأوا في التآمر من القاهرة. عبر عارف عبدالرزاق الى سورية، وثمة من قال عن طريق اسرائيل، ولا أدري إن كان بعلم حكومتها، وأقام هناك ورتب مؤامرة تنطلق من القاعدة الجوية في الموصل. تسلل الناصريون الى بغداد وانحاء أخرى من العراق. كانوا اصدقائي وزملائي في الكلية العسكرية وقد تآمرنا معاً على عبدالكريم قاسم. كان رشيد محسن العقل المدبر لهم وهو كان مديراً للأمن العام قبل أن نطردهم. كان ذلك في 30 حزيران (يونيو) 1966. آخر الشهر توزع الرواتب. في الحرس الجمهوري يأتي الضباط لتسلم رواتبهم ومن كان لديه دوام يأخذ الراتب الى عائلته ويعود. اختار عارف عبدالرزاق، وهو زميلي، يوم الثلاثين من حزيران وفترة الظهر تحديداً. تسللوا الى معسكر أبو غريب واحتلوا كتيبة الدبابات وسيطروا على اذاعة هناك وبدأوا بث البيانات. ذهبت الى المنزل وتناولت الغداء ونمت قليلاً. وأنا نائم رأيت لصوصاً يشقون سياج المنزل كأنه قماش. طبعاً أنا لا آخذ بما يجري في المنام لكن هذا ما حدث. بعد قليل رن الهاتف السري وإذ بضابط استخبارات يبلغني بما يجري وأن الحرس الجمهوري يتعرض للقصف من الجو وأن سيارات احترقت. طلبت ان يرسل اليّ سيارة بلا علم واقترحت سائقاً محدداً لأنه يقود كالمجنون ويفيد في مثل هذه الظروف. بيتي في دور الضباط في اليرموك أي غير بعيد. جاء السائق فطلبت منه أن لا يسلك الطريق العام خوفاً من أن يكون تحت سيطرة الانقلابيين أو الحرس القومي. توجهت إلى أقرب فوج وما أن هممت بدخول المقر حتى استهدفتني قنبلة لكنني نجوت. دخلت وإذ بمعظم الجنود في اجازة بعدما تسلموا رواتبهم. جمعت الموجودين وسألتهم عن رأيهم فقالوا انهم على استعداد للموت. وزعنا الأسلحة وطلبت الاتصال بالضباط وأن يحضروا في ثياب مدنية تفادياً لاعتقالهم. بعد وقت جاءني مدير شرطة النجدة وقد ارسله الرئيس عارف الذي كان لا يزال في منزله. طلبت منه أن يتوجه الرئيس فوراً الى القصر فتجاوب عارف. أعددت خطة لمواجهة الدبابات التي يمكن أن تتقدم الى بغداد. يضاف الى ذلك ان قيادة الحرس الجمهوري تعرف مسائل أمنية لا يعرفها الآخرون. مثلا نعرف تغذية الكهرباء لاذاعة أبو غريب من أين فإن قطعت تتوقف الاذاعة. وهناك مولد للكهرباء لتشغيل الاذاعة في حال انقطاع الكهرباء. أنا ومن باب الاحتياط أخذت فحمة المولد ووضعتها في القصر في تاريخ سابق أي ان المولد يعمل لكن الكهرباء لا تصل والاذاعة لا تعمل. ذهبت مع مرافق لي الى مصدر الطاقة الكهربائية وقلت له: يا حسين انبطح على أرضك واطلق النار على الأسلاك، فانقطعت وسكتت الاذاعة. استقدموا ضابطاً لتشغيل المولد فلم تعمل الاذاعة فعرفوا انني وراء تعطيلها.
دشاديش الهرب
يستطرد الداوود قائلا : تقدمت الدبابات وعلي كل واحدة ثلاثة أو أربعة ضباط يقودهم عرفان وجدي آمر الكلية العسكرية ومعه كيس يحوي دشداشة للهرب في حال فشل المحاولة. شجاعة هؤلاء الناصريين مضحكة. اصطحبوا الدشاديش سلفاً. عندما صارت الدبابة الأولي في مرمي نيراننا سألني الضابط ان كنت أريد اطلاق النار عليها، فقله له اطلب منهم ان يدخلوا. كان ذلك قرب الفوج الثاني. اصطفت دبابات الانقلابيين وراء بعضها. تقدمت من ضابط الدبابات الأولي وسألته الي أين تتجه، فقال الي معسكر الرشيد سيدي. فسألته عن السبب فقال: لاستقبال رئيس الجمهورية عارف عبدالرزاق. انتابني غضب جديد فصفعته وأمسكته من قميصه وانتزعته بيدي. أشار ضابط رفيق له الي آخر ان يطلق النار عليّ فسارع حراسي الي قتله. أمرتهم ان ينزلوا من الدبابات وكانوا في حدود 56 ضابطاً، وأخذتهم الي السجن مع عدد من الجنود بعدما توجهت الي الاذاعة وسيطرت عليها. طلبت احضار عارف عبدالرزاق فجاؤوا به الي القصر ووجدته جالساً علي الأرض. قلت له: (لماذا يا أبو رافع؟ نحن يجب أن نلتقي في فلسطين وليس هنا. في المرة الأولي اخرجتكم وارسلتكم الي عبدالناصر. ماذا تفعل؟ هل تراهن علي هؤلاء الجبناء الذين اصطحب كل واحد منهم تحت إبطه دشداشة للهرب في أول فرصة). قبل أن ينتصف الليل كان جميع المتورطين في الانقلاب في السجن. في الواحدة ارسل عبدالرحمن عارف ورائي فذهبت اليه وكان رئيس الوزراء البزاز معه. شكرني، فقلت انني قمت بواجبي، لكنني يئست لاحقاً من عبدالرحمن وكنت قائد 17 تموز (يوليو) 1968 التي اطاحته) (انتهي نص ما قاله الداوود).
تحليل النص وجملة تساؤلات
مهما كانت رواية ابراهيم الداود في افشال مؤامرة عارف عبد الرزاق ومحاولته الانقلابية الناصرية، فان فيها قدرا كبيرا من الصحة بدليل عدم اعتراض عارف عبد الرزاق عليها حتي الان وهو حي يرزق، واعتقد ان ليس هناك اي مصلحة للداود في ان يختلق اية معلومات، ربما يزيد فيها او ينقص، فما ذكره هو جزء لا يتجزأ من عمليات تدخل سافرة من قبل نظام جمال عبد الناصر في الشؤون الداخلية العراقية وتصل تلك التدخلات الي اشعال مؤامرات وعمليات انقلاب عسكرية.. ويؤكد الداود علي ان التآمر كان قد انطلق من القاهرة ووصل عارف عبد الرزاق الي العراق لاشعال انقلابه، ولكن السؤال المهم: هل عبر الرجل فعلا عبر اسرائيل وسوريا؟ اننا نعرف انه وصل الموصل عن طريق سوريا، ولكن بأية وسيلة ومن الذي اوصله؟ ويبقي السؤال الاهم: هل انه وصل سوريا من مصر برا ام بحرا؟ فاذا كان قد وصل برا، فهل عبر الاراضي الاسرائيلية ام لا؟ واسأل ايضا عن الحرس القومي الذي ذكره الداود.. هل ثمة وجود لحرس قومي من البعثيين في الشارع السياسي علي عهد البعثيين؟؟ وان امين هويدي نفسه قد ذكر هو الاخر (الحرس القومي) علي ايام عبد السلام عارف! ولدينا اسئلة اخري حول حسم الموقف لصالح نظام عبد الرحمن عارف، ذلك لأن المعلومات التي يزودنا بها الداود جديدة وخصوصا في ما يتعلق بمرسلات اذاعة ابو غريب، ودوره في قطع القوة الكهربائية عنها، ولكن هل حسمت الاحداث لصالح النظام في بغداد ام الموصل؟ واذا كان في بغداد كما ذكر الداوود، فهل كان من خلال ايقاف زحف الدبابات ام اسكات بيانات الانقلابيين من الاذاعة؟ وهل ان العمليتين قد جرت باشرافه وانه هنا يسجل من جديد دالة علي ابقاء عبد الرحمن عارف في كرسي الحكم! ولكنه لم يتحدث لنا ان كان ثمة دور سياسي في المشكلة الانقلابية التي يحاول عارف عبد الرزاق اشعالها من قبل السفارة المصرية ببغداد؟؟ ولا ندري هل قام ابراهيم الداود فعلا باعتقال الانقلابيين وعلي رأسهم عارف عبد الرزاق؟ ولا نريد من الاخ عارف عبد الرزاق اليوم ان يكتب لنا شهادته التاريخية ليحكي لنا عن كل الذي حصل، لأننا واثقون بأن تلك (الشهادة) سوف لن تفصح عن الحقيقة ابدا، وسوف لن يحكي لنا ابو رافع الوقائع كما جرت بدءا بالاسباب والدوافع وصولا الي المؤامرة واعدادها وطباختها في المطبخ المصري وصولا الي عملية الانتقال عبر دول مختلفة الي العراق ووصولا الي محاولة الانقلاب نفسها وكيفية فشلها!!
المسألة الوطنية أكبر من الامجاد الشخصية
وأخيرا أقول حول كل الذي سجله ابراهيم الداود في الحوار عن ذكرياته التاريخية: ان من يكتب مذكراته السياسية وقد اصبح في عداد التاريخ اليوم، عليه ان يدرك بأن المسألة الوطنية أكبر من الامجاد الشخصية، وعليه ان لا يغّيب معلومات علي حساب تسويق معلومات معينة! وعليه ان يعالج الاسباب والدوافع بشكل مفصّل قبل كتاباته عن الذات واقحامها في كل الجبهات.. ونحن نعلم بأن تاريخا عقيما ومظلما وسقيما عاشه العراق وابنائه في العقود الثلاثة الاخيرة من القرن العشرين بسبب خيانة كل من ابراهيم الداود وعبد الرزاق النايف لسيدهما عبد الرحمن عارف الرئيس العراقي.. وكان الذي فعلاه صبيحة 17 تموز (يوليو) 1968 قد كلف الشعب العراقي اثمانا باهضة لا يمكننا تخيلها أبدا.. وأسأل : ما الذي قبض عليه كل منهما؟علي المستوي الشخصي، خسر النايف حياته بعد نفيه في لندن سنوات طوال، اما الداوود، فلقد عاش منفيا منذ خمس وثلاثين سنة.. واذا كان النايف قد ذهب في رحاب الله، فيبدو انه والداود يتحملان مسؤولية خطيرة سوف لن يرحمهما التاريخ ابدا في الذي جنته ايديهما يوم 17 تموز (يوليو) 1968. وليسمح لي الاخ الداود ان احمّله هذه المسؤولية من دون ان اتهّمه باية تهمة في التعاون مع جهات اجنبية لأن ليس لي ما يؤكد لي ضلوعه معها من اجل ازاحة عارف والاتيان بالبعثيين.. انه يتحّمل مسؤولية كبري حول كل ما جر اليه العراق منذ ذلك الانقلاب في 17 تموز (يوليو) 1968 وانتهاء بـ9 نيسان (ابريل) 2003!! واذا كان الداود يدّعي انه وراء تنصيب عبد الرحمن عارف، فانه كان جزء من منظومة عسكرية عراقية دمّرت العراق عندما سيطرت عليه سيطرة غبية مبعدة المدنيين عن السلطة العليا بأي ثمن!
شهادة البكار: وقفة لابد منها
كان لابد لي ان اكتب هذا (الملحق) في نهاية هذه الدراسة مستندا فيه الي ما كتبه السيد عبد الهادي البكار في كتابه (المأزق: مصر والعرب الآخرون) والمنشور بدمشق: دار طلاس، ط 1، 1987. ومن اجل التثبت والتحليل والمقارنة لبعض المعلومات التاريخية.. وان عبد الهادي البكار كان واحدا من ابرز الاعلاميين الناصريين ابان عقد الستينيات، وكانت له حكايته في العراق مع كل من الرئيسين العراقيين الاخوين العارفيين . وكان قد استقدم من مصر الي العراق علي عهد عبد السلام عارف ليذيع من اذاعة بغداد برنامجه السياسي اليومي (صرخة الثوار) ضد نظام الحكم في سوريا . وعليه، فإن شهادته لها قيمتها في هذا المجال.. وسأتوقف عند بعض أهم مروياته من المعلومات التي تؤكد جميعها ما توصلنا اليه من استنتاجات في دراستنا للرهانات المستحيلة: العراق وعبد الناصر في مذكرات امين هويدي:
1 ــ يقول عبد الهادي البكار: (في الفترة ما بين آب (اغسطس) عام 1964 وايلول (سبتمبر) 1966 عشت في بغداد بطلب من الرئيس عبد السلام عارف رحمه الله، وبتعليمات من الزعيم الراحل جمال عبد الناصر.. وقد اقمت في العاصمة العراقية، بجواز سفر مصري، مراقبا لبرامج اذاعة بغداد، في الوقت الذي كانت فيه (الجماهير العربية) كلها تظن عن حسن نية ان العلاقة بين جمال عبد الناصر وعبد السلام عارف هي علاقة انسجام كامل، بينما كان الواقع الموضوعي يؤكد لي يوما بعد آخر، خلال تلك المرحلة، ان العلاقة في ما بينهما كانت علي عكس ذلك تماما) (المرجع نفسه، ص 15).
2 ــ يقول البكار : (أؤدي في العراق مهمة مزدوجة، وهي ان ادير اذاعة بغداد وان اشرف علي حملة اذاعية موجهة ضد نظام الحكم في دمشق خلال تلك المرحلة.. وهو ازدواج في المهمة لم امارسه عمليا قط، واكتفيت بمهمة قيادة الحملة الاعلامية الاذاعية ضد نظام الحكم الذي كان قائما في دمشق..) (نفسه، ص 15 ــ 16) . وأود ان أعلق مصححا ذلك ان ادارة اذاعة بغداد لم تسند الي البكار ابدا، فقد صدق بقوله انه لم يمارس الازدواج .
3 ــ يقول عبد الهادي البكار: (كان برنامجي الاذاعي السياسي اليومي (صرخة الثوار) متوجا بصوت عبد الناصر. كنت اقتطف من تسجيلان إحدي خطبه المرتجلة جملة يحرض فيها الجماهير بصوته علي حماية المسيرة الوحدوية، ويحرض جماهير شبه الجزيرة والخليج علي التحرر والتحرير.. خلال شهر رمضان من عام 1964 وبعد تناول الافطار علي مائدة الرئيس عبد السلام عارف.. ما كدت أجلس الي جانبه حتي فوجئت به يصرخ : (بن بركه) هذا الذي قتلوه اليوم وخطفوه في باريس (يقصد: المهدي بن بركة الزعيم المغربي المعارض) بن بركه هذا جاءني منذ ايام في زيارة لم تعلن.. وقد أمرت انا بعدم الاعلان عنها بعدما اكتشفت ان المهدي بن بركه هذا شيوعي ابن شيوعي، واعتقد ان جده شيوعي ايضا!! ثم استدار نحوي وصرخ بصوت عال وهو منفعل جدا : هل تعرف شيئا عن بن بركه الذي تمتدحه اذاعات القاهرة؟.. كم اذاعة يمتلك عبد الناصر في القاهرة الآن يا بكار؟… ان عبد الناصر يمتلك في مصر وفي غير مصر اكثر من ثلاثين اذاعة سرية وعلنية.. وهو حين يريد ان يذيع بصوته خطبه انما يذيعها من احدي اذاعاته التي يمتلكها في القاهرة.. هذه اذاعة بغداد يا بكار وليست اذاعة عبد الناصر..) (نفسه، ص 21 ــ 22).
موقف عارف من ناصر
واريد ان أتساءل فقط: اذا كان هذا موقف عبد السلام عارف من جمال عبد الناصر العام 1964، فكيف سيكون اذاً موقفه بعد محاولة الانقلاب الناصرية عليه والتي قام بها رئيس وزرائه عارف عبد الرزاق بتشجيع وترتيب من عبد الناصر في مارس العام 1965؟؟؟ واعتقد بأن عبد السلام عارف الرئيس الهاديء في الستينيات هو غير عبد السلام عارف الضابط الاهوج في الخمسينيات! وكما قال لي واحد من الذين كانوا بقربه انه قد عقل كثيرا بعد ان كان متسرعا وأحمقا! ولنا ان نسأل : كيف كان شعور عبد السلام بعد ان غدا اكثر ادراكا من خلال تجاربه ازاء العلاقة التي كانت بين اثنين من الزعماء العراقيين الذين سبقوه (نوري السعيد وعبد الكريم قاسم) وبين جمال عبد الناصر والتي قاتلهم من اجلها؟
4 ــ يقول البكار: (حاولت الخلاص مما انا فيه من حرج عظيم، فتقدمت باستقالتي من منصبي.. ولم يكن امامي سوي واحد من ثلاثة حلول: اما ان اتصل بجمال عبد الناصر لأوضح له ما حدث، أو بالسفير امين حامد هويدي، وبذلك سأتسبب في دلق مزيد من البنزين علي (النار المشتعلة سرا) بين القاهرة وبغداد.. واما ان اغادر مستقيلا بلا استئذان.. واما ان اجد مخرجا) (نفسه، ص 23 ــ 24). اذن ما يعنينا، هي تلك النار المشتعلة سرا، فاذا علمنا أن آخر حلقة اذاعها البكار من برنامج (صرخة الثوار) كانت مساء يوم 15/12/1964، ادركنا ان بين ثلاثة شهور فقط تفصل بين هذه الحلقة التي اختفي صوت جمال عبد الناصر من اذاعة بغداد ومحاولة الانقلاب الناصرية الاولي ضد عبد السلام عارف في مارس 1965! وعلينا ان نقدر حجم اللعبة بعد ان تكشفت حقائق الاشياء.
توجهات وحدوية
5 ــ يكتب البكار نصا خطيرا بوعيه او من دون وعيه، فيقول: (وبعد شهور من المضايقات المقصودة.. زارني في داري في عمارة اليرموك في منطقة المنصور في بغداد، الاستاذ عبد الرزاق شبيب العربي القومي الناصري نقيب المحامين في العراق يومئذ، وهو متزوج من سيدة من عائلة (الفحام) السورية الدمشقية، وأخذنا، كرفيقين في الدرب الواحدة، بمناقشة الاحوال التي انتهي اليها عبد السلام عارف في العراق، بحيث أصبح مؤكدا أنه قومي غير صادق بإيمانه بالقومية، ووحدوي غير أمين علي التوجهات الوحدوية، ورجعي حقيقي يتمسح بالاسلام ويتطلع الي ان يكون أميرا جديدا للمؤمنين.. وبحيث اصبح مؤكدا ايضا ان احد الفصائل الشعبية والتجمعات السياسية السرية والعلنية، لم يعد موافقا علي استمرار عبد السلام عارف بقيادة دفة الحكم في العراق.. وكنا متفقين، عبد الرزاق شبيب وأنا، علي ان ايام عبد السلام عارف في الحكم باتت معدودة، وان من الواجب الا ابقي اساعده حتي ولو بمجرد استمرار تواجدي في بغداد، لأن تواجدي في العراق يومئذ، وأنا قادم اليها بأمر من جمال عبد الناصر في القاهرة، كان يوحي للجماهير العربية بأن العلاقة بين القاهرة وبغداد العارفية، هي علاقة طيبة، والامر كان غير ذلك، وبأن عبد السلام عارف، وحدوي، قومي، متحالف مع جمال عبد الناصر بينما العكس كان هو الصحيح…) (نفسه، ص 26ــ 27).
ولا اريد أن اعلق هنا علي (نص) واضح جدا بكل ابعاده، وان تآمرا ناصريا واضح المعالم لا يعمل به القوميون الناصريون العراقيون ضد عبد السلام عارف بمعزل عن ناصريين مصريين كانوا موجودين في العراق نفسه! وعلي صعيد نقيب المحامين العراقيين عبد الرزاق شبيب! انني لست عارفيا بحيث اساند موقف عارف ضد الناصريين، فلقد كان عبد السلام عارف نفسه قد جر علي العراق جملة من المصائب والكوارث من خلال اخطائه.. ولكن لا يمكن أبدا ان يكون العراق مستودعا للمؤامرات مهما كان نوعها! ويبدو واضحا لنا اليوم وبعد مرور وانقضاء عهد البعثيين 1968- 2003 بأن عبد السلام عارف افتقد كل القوى السياسية ولم يعد عنده الا البعض من الضباط العسكريين الموالين بعد ان الصراع على السلطة قد وصل اعلى مداه بين القوى القومية العراقية المفككة والمتنازعة ، وخصوصا بين البعثيين والناصريين ، واثبتت الايام بأن الناصريين قد فشلوا فشلا ذريعا في الوصول الى السلطة برغم محاولاتهم التي لا تعد ولا تحصى ، في حين كان البعثيون يشتغلون بمنتهى السرية سواء على مستوى الداخل ام على مستوى الخارج وخصوصا في عهد عبد الرحمن عارف .. وبرغم كل ما اذيع وكتب واعلن من نضالات سياسية سرية تحت الارض ، فان البعثيين ما كانوا ليصلوا الى استلام العراق بمنتهى السهولة لولا خيانة الداود والنايف ، وهنا اسقط بيد جمال عبد الناصر اذ بدأت العلاقات العراقية المصرية تتخذ لها منحى آخر ، اذ لم تمض عدة شهور على انقلاب 17 تموز/ يوليو 1968 حتى اندلعت الحرب الكلامية والاذاعية القبيحة بين الطرفين العراقي البعثي والمصري الناصري خصوصا وان نظام البعث الذي تزعمه احمد حسن البكر ومجموعة من القيادات البعثية قد بدأ منذ الثلاثين من تموز / يوليو 1968 يمارس منذ تسلم الحكم الاعتقالات والتحقيقات والمطاردات والسجون والاغتيالات والاعدامات بحق كل القوى السياسية العراقية : العسكرية والمدنية العارفية والليبرالية السياسية ومختلف القوى القومية وفصائل الناصريين والحركيين والاشتراكيين وجماعات المنشقين البعثيين اليساريين والقوى الاسلامية وبدأت الملاحقات ضد الشيوعيين قبل انبثاق ما سمي بـ ” الجبهة ” .. وذهبت قوافل من الناس من دون رجعة تحت تهمة التجسس والعمالة والرجعية للاستعمار.

(جريدة (الزمان) — العدد 1548 — التاريخ 2003 – 7 – 5 )
انقلاب الجبناء : دشاديش الهرب
تقدمت الدبابات وعلى كل واحدة ثلاثة أو أربعة ضباط يقودهم عرفان وجدي آمر الكلية العسكرية ومعه كيس يحوي دشداشة للهرب في حال فشل المحاولة. شجاعة هؤلاء الناصريين مضحكة. اصطحبوا الدشاديش سلفاً. عندما صارت الدبابة الأولى في مرمى نيراننا سألني الضابط ان كنت أريد اطلاق النار عليها، فقله له اطلب منهم ان يدخلوا. كان ذلك قرب الفوج الثاني. اصطفت دبابات الانقلابيين وراء بعضها. تقدمت من ضابط الدبابات الأولى وسألته الى أين تتجه، فقال الى معسكر الرشيد سيدي. فسألته عن السبب فقال: لاستقبال رئيس الجمهورية عارف عبدالرزاق. انتابني غضب جديد فصفعته وأمسكته من قميصه وانتزعته بيدي. أشار ضابط رفيق له الى آخر ان يطلق النار عليّ فسارع حراسي الى قتله. أمرتهم ان ينزلوا من الدبابات وكانوا في حدود 56 ضابطاً، وأخذتهم الى السجن مع عدد من الجنود بعدما توجهت الى الاذاعة وسيطرت عليها. طلبت احضار عارف عبدالرزاق فجاؤوا به الى القصر ووجدته جالساً على الأرض. قلت له: “لماذا يا أبو رافع؟ نحن يجب أن نلتقي في فلسطين وليس هنا. في المرة الأولى اخرجتكم وارسلتكم الى عبدالناصر. ماذا تفعل؟ هل تراهن على هؤلاء الجبناء الذين اصطحب كل واحد منهم تحت إبطه دشداشة للهرب في أول فرصة”. قبل أن ينتصف الليل كان جميع المتورطين في الانقلاب في السجن. في الواحدة ارسل عبدالرحمن عارف ورائي فذهبت اليه وكان رئيس الوزراء البزاز معه. شكرني، فقلت انني قمت بواجبي، لكنني يئست لاحقاً من عبدالرحمن وكنت قائد 17تموز 1968 التي اطاحته ” ( انتهى نص ما قاله الداوود ).
تحليل النص وجملة تساؤلات :
مهما كانت رواية ابراهيم الداود في افشال مؤامرة عارف عبد الرزاق ومحاولته الانقلابية الناصرية ، فان فيها قدرا كبيرا من الصحة بدليل عدم اعتراض عارف عبد الرزاق عليها حتى الان وهو حي يرزق ، واعتقد ان ليس هناك اي مصلحة للداود في ان يختلق اية معلومات ، ربما يزيد فيها او ينقص ، فما ذكره هو جزء لا يتجزأ من عمليات تدخل سافرة من قبل نظام جمال عبد الناصر في الشؤون الداخلية العراقية وتصل تلك التدخلات الى اشعال مؤامرات وعمليات انقلاب عسكرية .. ويؤكد الداود على ان التآمر كان قد انطلق من القاهرة ووصل عارف عبد الرزاق الى العراق لاشعال انقلابه ، ولكن السؤال المهم : هل عبر الرجل فعلا عبر اسرائيل وسوريا ؟ اننا نعرف انه وصل الموصل عن طريق سوريا ، ولكن بأية وسيلة ومن الذي اوصله ؟ ويبقى السؤال الاهم : هل انه وصل سوريا من مصر برا ام بحرا ؟ فاذا كان قد وصل برا ، فهل عبر الاراضي الاسرائيلية ام لا ؟ واسأل ايضا عن الحرس القومي الذي ذكره الداود .. هل ثمة وجود لحرس قومي من البعثيين في الشارع السياسي على عهد البعثيين ؟؟ وان امين هويدي نفسه قد ذكر هو الاخر ” الحرس القومي ” على ايام عبد السلام عارف ! ولدينا اسئلة اخرى حول حسم الموقف لصالح نظام عبد الرحمن عارف ، ذلك لأن المعلومات التي يزودنا بها الداود جديدة وخصوصا في ما يتعلق بمرسلات اذاعة ابو غريب ، ودوره في قطع القوة الكهربائية عنها ، ولكن هل حسمت الاحداث لصالح النظام في بغداد ام الموصل ؟ واذا كان في بغداد كما ذكر الداوود ، فهل كان من خلال ايقاف زحف الدبابات ام اسكات بيانات الانقلابيين من الاذاعة ؟ وهل ان العمليتين قد جرت باشرافه وانه هنا يسجل من جديد دالة على ابقاء عبد الرحمن عارف في كرسي الحكم ! ولكنه لم يتحدث لنا ان كان ثمة دور سياسي في المشكلة الانقلابية التي يحاول عارف عبد الرزاق اشعالها من قبل السفارة المصرية ببغداد ؟؟ ولا ندري هل قام ابراهيم الداود فعلا باعتقال الانقلابيين وعلى رأسهم عارف عبد الرزاق ؟ ولا نريد من الاخ عارف عبد الرزاق اليوم ان يكتب لنا شهادته التاريخية ليحكي لنا عن كل الذي حصل ، لأننا واثقون بأن تلك ” الشهادة ” سوف لن تفصح عن الحقيقة ابدا ، وسوف لن يحكي لنا ابو رافع الوقائع كما جرت بدءا بالاسباب والدوافع وصولا الى المؤامرة واعدادها وطباختها في المطبخ المصري وصولا الى عملية الانتقال عبر دول مختلفة الى العراق ووصولا الى محاولة الانقلاب نفسها وكيفية فشلها !!
المسألة الوطنية أكبر من الامجاد الشخصية
واخيرا اقول حول كل الذي سجله ابراهيم الداود في الحوار عن ذكرياته التاريخية : ان من يكتب مذكراته السياسية وقد اصبح في عداد التاريخ اليوم ، عليه ان يدرك بأن المسألة الوطنية أكبر من الامجاد الشخصية ، وعليه ان لا يغّيب معلومات على حساب تسويق معلومات معينة ! وعليه ان يعالج الاسباب والدوافع بشكل مفصّل قبل كتاباته عن الذات واقحامها في كل الجبهات .. ونحن نعلم بأن تاريخا عقيما ومظلما وسقيما عاشه العراق وابنائه في العقود الثلاثة الاخيرة من القرن العشرين بسبب خيانة كل من ابراهيم الداود وعبد الرزاق النايف لسيدهما عبد الرحمن عارف الرئيس العراقي .. وكان الذي فعلاه صبيحة 17 تموز / يوليو 1968 قد كلف الشعب العراقي اثمانا باهضة لا يمكننا تخيلها ابدا .. وما الذي قبض عليه كل منهما ؟على المستوى الشخصي ، خسر النايف حياته بعد نفيه في لندن سنوات طوال ، اما الداوود ، فلقد عاش منفيا منذ خمس وثلاثين سنة .. واذا كان النايف قد ذهب في رحاب الله ، فيبدو انه والداود يتحملان مسؤولية خطيرة سوف لن يرحمهما التاريخ ابدا في الذي جنته ايديهما يوم 17 تموز / يوليو 1968 . وليسمح لي الاخ الداود ان احمّله هذه المسؤولية من دون ان اتهّمه باية تهمة في التعاون مع جهات اجنبية لأن ليس لي ما يؤكد لي ضلوعه معها من اجل ازاحة عارف والاتيان بالبعثيين .. انه يتحّمل مسؤولية كبرى حول كل ما جر اليه العراق منذ ذلك الانقلاب في 17 تموز / يوليو 1968 وانتهاء بـ 9 نيسان / ابريل 2003 !! واذا كان الداود يدّعي انه وراء تنصيب عبد الرحمن عارف ، فانه كان جزء من منظومة عسكرية عراقية دمّرت العراق عندما سيطرت عليه سيطرة غبية مبعدة المدنيين عن السلطة العليا بأي ثمن !
ملحق الرهانات المستحيلة
شهادة عبد الهادي البكار : وقفة لابد منها !
كان لابد لي ان اكتب هذا ” الملحق ” في نهاية هذه الدراسة مستندا فيه على ما كتبه السيد عبد الهادي البكار في كتابه ( المأزق : مصر والعرب الاخرون ) والمنشور بدمشق : دار طلاس ، ط 1 ، 1987 . ومن اجل التثبت والمقارنة لبعض المعلومات التاريخية .. وان عبد الهادي البكار كان واحدا من ابرز الاعلاميين الناصريين ابان عقد الستينيات ، وكانت له حكايته في العراق مع كل من الرئيسين العراقيين الاخوين العارفيين . وكان قد استقدم من مصر الى العراق على عهد عبد السلام عارف ليذيع من اذاعة بغداد برنامجه السياسي اليومي ” صرخة الثوار ” ضد نظام الحكم في سوريا . وعليه ، فان شهادته لها قيمتها في هذا المجال .. وساتوقف عند بعض أهم مروياته من المعلومات التي تؤكد جميعها ما توصلنا اليه من استنتاجات في دراستنا للرهانات المستحيلة : العراق وعبد الناصر في مذكرات امين هويدي :
1/ يقول عبد الهادي البكار : ” في الفترة ما بين آب ( اغسطس ) عام 1964 وايلول ( سبتمبر ) 1966 عشت في بغداد بطلب من الرئيس عبد السلام عارف رحمه الله ، وبتعليمات من الزعيم الراحل جمال عبد الناصر .. وقد اقمت في العاصمة العراقية ، بجواز سفر مصري ، مراقبا لبرامج اذاعة بغداد ، في الوقت الذي كانت فيه ( ا

شاهد أيضاً

الجامعة العربية.. اشتراطات التغيير في القرن الحادي والعشرين

سّيار الجميل جامعة الدول العربية أشتراطات التغيير في القرن الواحد والعشرين جامعة الدول العربية معلومات …