الرئيسية / محاضرات / دور المثقفين العرب في التكوين النهضوي (الفلسطينيون في العراق )

دور المثقفين العرب في التكوين النهضوي (الفلسطينيون في العراق )

محاضرة ألقاها الدكتور سيّار الجميل
في منتدى مؤسسة عبد الحميد شومان / عّمان – الأردن يوم 17 تموز / يوليو 1994
وقّدمه الدكتور اسعد عبد الرحمن المدير العام لمؤسسة شومان
( نشر ملخصها في ملحق جريدة الرأي الاردنية يوم 18 تموز / يوليو 1994)

سيداتي سادتي
ايها الاصدقاء
اسعدتم مساء والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته واشكر الاخ الدكتور اسعد عبد الرحمن المدير العام لمؤسسة شومان على استضافة مؤسسته لي وعلى تقديمه الكريم لمحاضرتي اليوم .. واسمحوا لي ان اوّضح لكم الدور الذي كان للمثقفين الفلسطينيين في العراق في النصف الاول من القرن العشرين .
تكشف لنا الوثائق والاوراق التاريخية بأن العراق كان محجا وقبلة للمثقفين الفلسطينيين قبل أي بلد عربي آخر نظرا للسياسة القومية التي اتبعها العراق منذ تأسيس كيانه عام 1921 وحتى اليوم .. ويتبلور دور الفلسطينيين بالذات قبل المرحلة التاريخية التي سبقت احداث 1941 سواء على عهد الملك غازي 1933-1939 ، او المرحلة التالية التي شهدت مداخلات الحرب العالمية الثانية وصراعات القوى السياسية الداخلية في العراق 1939-1941.. وعدت بغداد عاصمة قومية للزعماء والمثقفين والسياسيين الذين وصفوا بالمجاهدين والمناضلين المضطهدين العرب ولا سيما الفلسطينيين منهم ، وكانت قضية فلسطين هي الشغل الشاغل على الساحة السياسية والثقافية العربية في المشرق العربي .
فوزي القاوقجي في العراق :
ضابط ومناضل سوري له تاريخه وشخصيته وكان قد عمل في الموصل منذ العهد العثماني رفقة المجاهد اللبناني احمد مختار الطرابلسي عام 1912 . فر من سوريا بعد ان حكم الفرنسيون عليه بالاعدام بسبب مواقفه الوطنية ، فوصل بغداد واتصل بالملك فيصل الاول وعين استاذا للفروسية والطوبوغرافيا في المدرسة الحربية العسكرية الملكية العراقية برتبة رئيس . كتب يلخص سياسة فيصل في العراق قائلا : ” كان العراق مستقرا في سياسته ، ويتقدم في نواحيه تقدما محسوسا ، فاصبح بوجود فيصل على عرشه رمزا للعروبة وملجأ لمضطهدي العرب السياسيين ، وكانت ميول عديدة تتجاذب سياسة العراق منها : العربية العامة والاقليمية والشعوبية كذلك ، ولكن دفة السياسة وهي في يد الملك فيصل الاول تتجه دوما باتجاهها العربي العام ” . ويكتب القاوقجي عن الحوار الذي دار بينه وبين فيصل في الاعداد لثورة في سوريا ضد المستعمرين الفرنسيين .. ولكن وفاة فيصل أجلت مشروعه في الثورة ، وكان يرى العراق منطلقا لتحرير سوريا التي لم يحالفه الحظ في تنفيذ امانيه . ولما انفجرت حوادث فلسطين ، بدأ بتنفيذ خطة ثانية ولكن باتجاه فلسطين هذه المرة ، اذ اخذ يؤسس مفرزة من جيش نظامي باشتراك الثوار السوريين والمقاتلين العراقيين وقد ساعده الشيخ نوري بن مشعل باشا من قبيلة شمر الجربا في نقل اتباعه والسلاح والمؤن عبر مسافة تقدر بـ 800 كم وبكتمان وسرية تامة . ولقد اتسعت التشكيلات العسكرية في العراق من المجندين ، وكانت التدريبات تجري في جزيرة بنهر دجلة ، وقد ضلل الانكليز باساليبه الخفية .. وانطلقت مفارزه عبر الصحراء نحو فلسطين وادار هناك عدة عمليات قتالية مشرفة كان للعراقيين دورهم الكبير فيها .. ورجع الى العراق وبمعيته 45 مجاهدا فلسطينيا وعراقيا فاستقبله الملك غازي مع رفاقه ، وتلقى التعاطف من الحكومة والناس ولكن انقلاب بكر صدقي عام 1936حال دون مواصلته العمل ، اذ نفي الى كركوك بضغوط انكليزية كما يصف ذلك في مذكراته كما وقف ضده حكمت سليمان رئيس حكومة الانقلاب بسبب مطالبة القاوقجي بالاسكندرون السليب ، وكان حكمت يتعاطف مع الاتراك .. وعبثا ذهبت محاولات رجالات العراق ومنهم : جميل المدفعي وسعيد ثابت رئيس لجنة الدفاع عن فلسطين للتوفيق بينه وبين الانقلابيين .. ثم ذهبت جهوده سدى .
أكرم زعيتر : الموجه القومي الفلسطيني
من يقرأ مذكرات السياسي الفلسطيني المعروف أكرم زعيتر ، ويتأمل في المعلومات التي سجلها ، سيجد كم كان ثقل العراق ازاء المسألة الفلسطينية وكم كان حجم ارتباط الفسطينيين من ساسة ومثقفين ومناضلين بالعراق . وكانت لاكرم زعيتر أكثر من مهمة في العراق ، وقد غدا في ما بعد عالما ومؤرخا وكان خطيبا مفوها وكاتبا معروفا له العديد من المؤلفات وقد زاول التعليم والصحافة في فلسطين واشترك في عصبة العمل القومي ، ومثل حزب الاستقلال في حفل تأبين الملك فيصل الاول سنة 1933 في بغداد ، وفيها استبقاه ياسين الهاشمي للعمل في معاهد العراق موجها قوميا .
عمل اثناء وجوده بالعراق في الجمعيات القومية ، ولكنه رجع الى فلسطين اثر نداءات تلقاها من رفاقه هناك من اجل ارجاع نشاط حزب الاستقلال .. ثم عاد الى بغداد عام 1935م بدعوة من د. سامي شوكت ، وعمل زعيتر في دعم القضية الفلسطينية في العراق الذي كانوا يسمونه ” محط آمال العرب ” ، ولكنه عاد الى فلسطين ايام ثورة المجاهدين عام 1936م ، ولعب دورا مشهودا في ” يوم العراق بفلسطين ” في 12 آذار / مارس 1936م . وكان يصرح بأن فلسطين تعقد اعظم الامال على العراق في استقلالها . وقد وقف ضد انقلاب بكر صدقي . عاد الى العراق عام 1938م تلبية لدعوة ” لجنة الدفاع عن فلسطين” المركزية في بغداد ، وحضر احدى جلسات المجلس النيابي العراقي التي تحولت الى أشبه بمؤتمر سياسي خطابي عاصف تأييدا للثورة الفلسطينية .. وكتب زعيتر يقول : ” ان روح الثورة الفلسطينية تنعكس على كل عراقي ” . واتضح له ذلك من زيارات قام بها الى عدد من المدن العراقية ، وكانت من ابرز زياراته للموصل والبصرة وبعقوبة وخانقين وديالى . وفي معرض رده بؤتمر صحفي عقده بالموصل التي احتفى به اهلها ، قال : ” قضية فلسطين تشغل كل عراقي ، اننا نتلمس هذا في المدرسة وفي المسجد وفي الكنيسة والشارع والمقهى والاندية والصحف ، انها حديث الشعب ، وموضع عنايته ، وهذه لجان الدفاع عن فلسطين تؤلف في كل بلد عراقي ، والحكومة العراقية تولي القضية الفلسطينية جانبا عظيما من اهتمامها ” .
كانت تلك هي الحلقة الاولى من نشاطه في العراق وقد غادره . أما الحلقة الثانية ، فكانت عام 1939، عندما كتب اليه كل من د. سامي شوكت مدير المعارف العام و د. فاضل الجمالي مدير التربية والتدريب العام يطلبان عودته ، فلبى الدعوة وطار الى العراق وحل ضيفا وبدأ بنشاطه حال وصوله فالقى محاضرة في نادي المثنى ببغداد حلل فيها الكتاب الابيض .. الى جانب قضايا سياسية اخرى . وسيغدو له دوره ايام الحرب العالمية الثانية .
اثر الحرب الثانية على النخبة العربية في العراق :
يعلمنا أكرم زعيتر في يومياته بأن وضع العرب في العراق قد تأثر اثر اندلاع الحرب العالمية الثانية ، ومع تطور الاحداث وعمليات الحرب ، أخذ المجاهدون والمناضلون الفلسطينيون والسوريون يتوافدون تباعا الى العراق ، افرادا وجماعات ، فوصل بغداد في 23 – 24 ايلول/ سبتمبر 1939 السادة : الشيخ حسن أبو السعود واسحق درويش وجمال الحسيني وموسى العلمي .. وسرى خبر سري تدبير الحاج أمين الحسيني لأمر قومه الى العراق ، وتم ذلك التدبير على درجة من الكتمان مع علي جوت الايوبي وزير الخارجية الذي اعطى اوامره سرا لسلطات الحدود ، وبأوامر من الوصي عبد الاله ونوري السعيد لتسهيل أمر دخول المفتي برغم أنف الانكليز ، اذ ينقل زعيتر قول الايوبي : ” نحن احرار في استقبال اخواننا المجاهدين ، ولا نسمح بأن يعترض علينا أحد ” .
وصلت بغداد جماعات اخرى من المناضلين الفلسطينيين ، ومنهم : ممدوح السخن وبهاء الدين الطباع ( تقرر ان يكون مدرسا في الكلية العسكرية ) ، ثم المجاهد عبد القادر الحسيني ، والاستاذ راسم الخالدي ود. داود الحسيني والمجاهد سليم الحسيني ، ثم وصل واصف كمال ، ثم الشيخ حسن سلامه . وقد أوجد العراق لجميعهم وظائف محترمة .. ويعلق زعيتر قائلا : ” كما أخذ قواد الثورة يتسللون الى العراق ، ةهكذا لا يجد شبابنا العامل في الثورة وقادتها ملاذا لهم الا العراق ” . وكان وزير الخارجية الايوبي قد ارسل مبلغ الف دينار عراقي الى المفتي بوساطة اكرم زعيتر من أجل تأمين وصوله الى العراق . وانتقد زعيتر تصرف المفتي الذي تسلم المبلغ المذكور فارسل قصاصة صغيرة جدا بمساحة اصبع ، كتب عليها ( تسلمت ألف دينار أمين ) ليطلع عليها علي جودت ، ولما أطلع عليها ضحك الايوبي واندهش الاثنان من اسلوب المفتي ! وثمة تفصيلات لا يمكنني معالجتها هنا في هذا الكتاب عن الدور الذي قام به المفتي الحاج أمين الحسيني في العراق بعد أن وصله معززا مكرما من قبل السلطات العراقية . ويكتب علي جودت في مذكراته : ” ولعلاقتي الشخصية بالمفتي والذوات المحترمين ، الذين رافقوه كانت الحكومة العراقية وعلى رأسها نوري السعيد تقدم اليه بواسطتي مبالغ متواضعة لسد النفقات الضرورية لهم ، ومع هذا فان الرجل على الرغم من المامه بظروف العراق الخاصة ، وعلى الرغم من الخدمات التي أسدتها الحكومة العراقية اليه ، فانه سعى حثيثا لجمع الكثيرين من البسطاء حوله ، ثم ما لبث أن أتصل ببعض الضباط الوطنيين المتحمسين فجذبهم الى جانبه ، وزجهم في أتون السياسة ، وهم لا يقدرون نتائجها .. وقد تمكن المفتي ومن معه من السير في سياسة متطرفة ، اوقعت العراق فيما لم تكن له قدرة على الخروج منه بسلام ” ( علي جودت ، ذكريات ، ص 241) .
الفلسطينيون والشأن العراقي :
لقد شارك العدد الغفير من الفلسطينيين في الشأن العراقي بعد ان سمحت السلطات العراقية نفسها لهم بعد انفجار الحرب العالمية الثانية بالترحاب بهم على أحسن ما يكون فضلا عن سماحها لهم بالعمل السياسي وبأوامر من الامير عبد الاله ونوري السعيد ، اذ ساعدا على استقبالهم وتخصيص أموال لهم وممارستهم لادوار سياسية وثقافية متنوعة .
لقد اتسع حجم النخبة الفلسطينية في العراق وكان الى جانبهم عدد من السوريين واللبنانيين والاردنيين وبعض الاساتذة المصريين والتوانسة والمغاربة ، وحتى عام 1941 نتوقف عند الاسماء التالية : الحاج أمين الحسيني ومحمد عزة دروزة وواصف كمال ود. أمين رويحة ورشاد الشوا وعزالدين الشوا وموسى العلمي وفوزي القاوقجي وأكرم زعيتر وكاظم الصلح وفخري البارودي وفريد زين الدين وراسم الخالدي وفريد يعيش وعبد القادر ومنيف وجمال وداود وسليم الحسيني والمقدم محمود الهندي ( ابو الصديق الاستاذ هاني الهندي الوزير السوري الاسبق واحد مؤسسي حركة القوميين العرب ) وصبحي الخضرا وابراهيم الشنطي واحمد حلمي عبد الباقي وعوني عبد الهادي وبرهان الدين العبوشي ومحمود خورشيد العدناني وخيري حماد ومحمود سليم الحوت وفريد السعد ومعين الماضي وعبد الرحيم محمود وحسني وخليل وصبيحة المقدادي ومحمد محمود نجم وممدوح السخن وأمين التميمي وجورج انطونيوس وسليم عبد الرحمن وجبرائيل كاثول وكامل القصاب وعجاج نويهض وابراهيم درويش وسعد طاهر العنبتاوي وسعيد شقير وعبد الرحمن الزعبي وبدوي الجبل ومحمد شفيق غربال وعلي ناصر الدين وعبد الرحمن الشهبندر وفؤاد زين الدين وفرحان شبيلات ومجيد هلسا وأديب وهبه النابلسي وعلي كمال والحاج علي حسين وسعيد حسن آل كاشف واحمد يوسف والشيخ حسن سلامه وخليل محمد عيسى ( أبو ابراهيم االكبير) وصبحي أبو غربية وعارف عبد الرزاق ومعين المهدي وفايز علي الغول وفؤاد نصار ومحمد اسحق درويش وابراهيم طوقان وجورج منصور ومحمد الزعبي وعبد المجيد محمود وتقي الدين الهلالي ومحمود المغربي واحمد المغربي وعبد الفتاح الامام ويحيى اللبابيدي وسليمان عبد االجبار ( أبو علي ) واحمد التوبه ومحمد العفيفي وابو محمود الصفوري وعارف الجاعوني والشيخ عبد الحي عرفه والشيخ حسن أبو السعود وتوفيق رأفت وحيدر الحسيني ومحمد سليم أبو اللبن وفرحان سلام وأبو القاسم محمد كرو ومحمد خليفه التونسي وحنا خلف وبهاء الدين الطباع ومصطفى الطاهر ودياب الفاهوم وعبد االله عمر ( ابو عمر ) ومحمد علي الغصين وفائق نجيب الحسيني واحمد زهير العفيفي وناصر عيسى عقال وعوني خليل الدجاني وحسين طاهر الدجاني وحمدي السخن ويوسف هيكل وحسن فخري الخالدي والشيخ فرحان السعدي وعبد العزيز الكنفاني والآنسة ارنستين الغوري واميل الغوري وزكي الارسوزي ومصطفى الوكيل ومنير الريس وعادل التميمي وموسى عبد الله الحسيني وفاطمة مراد وفهد الريماوي وثابت الدباغ وعادل ارسلان وسعد الله الجابري واسحق امين الحسيني ومنصور داود ورياض الصلح وعادل ونبيه العظمه واكرم الحوراني وعثمان الحوراني وشكري القوتلي وسعد الدين اللطيف وجميل مردم والطيب الناصر وغيرهم .
حركة 1941 ( القومية ) ومؤثراتها:
لعل من أبرز إنجازات المثقفين العرب في العراق عشية اندلاع الحرب العالمية الثانية انبثاق الحزب العربي القومي على أيدي نخبة من القوميين لتوجيه الحركة القومية سرياً على نمط الخلايا، كان من بينهم درويش المقدادي ود. كاظم الصلح وممدوح السخن، ود. فريد زين الدين، وانتخب المقدادي سكرتيراً للمكتب السياسي وبدأوا عملهم النضالي ببغداد رفقة مناضلين عراقيين كالمحامي يونس السبعاوي ود. سليم النعيمي وصديق شنشل، وأوكلت مسؤولية فصائل المناضلين السوريين والفلسطينيين للسيد فريد يعيش.
لقد انبثقت في العراق ثلاثة اتجاهات سياسية حيال الموقف من المعسكرين المتحاربين (الحلفاء والمحور)، اتجاه يقضي بالانحياز إلى جانب الحلفاء واتجاه يساوم الحلفاءواتجاه يقضي بإعلان الحرب ضدهم، وقد تزعم الاتجاه الأخير، فيما بعد، مفتي فلسطين الحاج أمين الحسيني الذي التجأ إلى العراق في 14 تشرين الأول / أكتوبر 1939 بعد هربه من الفرنسيين عبر سوريا متخفياً بمساعدة سرية من السلطات العراقية ، وقد رحب به العراقيون وتدفقوا عليه كضيف كبير، وكانت له شخصيته وزعامته الفلسطينية وثقافته وحيويته وقوميته المتطرفة وكراهيته للانكليز والصهيونية، كما كان له تاريخه النضالي ضدهم منذ سنة 1920 فغدت له شهرته ومكانته القومية، فوجد في العراق ذلك العرين القومي الذي تناط به الآمال، فبدأ عمله السياسي مع بعض الزعماء والضباط العراقيين، فكان له تأثيره في توجيه السياسة المضادة للحلفاء بعد أن اتجهت إليه الكتل القومية من مثقفين وساسة وتجمعات وضباط، وكان يحضر اجتماعاتهم حتى تم الاتفاق بينه وبين رشيد عالي والعقداء الأربعة وبعض الساسة المشاركين على التعاون الوثيق لتفجير الموقف قومياً كالذي ظهرت مداخلاته ونتائجه في أحداث حركة 1941 الشهيرة، تلك الثورة التي عدت حصيلة تاريخية لما تمخض عنه النضال القومي في مدى عشرين سنة، منذ تأسيسه عام 1921م، بل وبعد ثورة 1941م القومية التحررية في العراق أحد أبرز الأحداث السياسية في مجريات الحرب الثانية: والتي تأثر بها الشباب العربي إذ خلقت وعياً قومياً لديهم وتقول إحدى الروايات بأن كلاً من عزيز المصري وأنور السادات فكر بالالتحاق في الجيش العراقي من أجل الاشتراك في الحرب ضد الانكليز غير أن الأحداث تسارعت قبل أن تجد أفكارهما طريقهما إلى التنفيذ بل حتى جمال عبد الناصر ورفاقه من الضباط الأحرار في مصر، وكانوا شباباً، أرسلوا إلى وزير الشباب العراقي د. محمد حسن سلمان يطلبون التطوع في الحرب العراقية – البريطانية، وجاء في رسالتهم ” نرجو إعلامنا عن الطريقة التي يمكن أن نصل بها إليكم” ويقول أنور السادات في مذكراته أن ثورة رشيد عالي في العراق كانت نبراساً أنار الطريق لثورة يوليو في مصر وشجعنا على السير في طريق التحدي للانكليز، ولم يقتصر الأمر على مصر لوحدها، بل غدت أحداث العراق القومية ملهمة لأجزاء عدة من الأرض العربية، فضلاً عن أن أحداث عام 1941 في العراق كانت قفلة تاريخية لمرحلة قومية تأسيسية، ستبدأ بعدها مرحلة تاريخية جديدة، ولكن من نوع آخر. ويختلف تقييم الاحداث التاريخية في العراق عام 1941م من قبل الساسة والمؤرخين والمثقفين تقييما متباينا ، بين من يرى بأن الحركة الثورية التي تزعمها رشيد عالي ورفاقه بتشجيع من المفتي وأعوانه هي ثورة قومية ضد المستعمرين . وبين من يرى بأن الحركة ما كان لها أن تقوم ، ولكنها قامت بتأثير سياسة المحور وتنسيق القوميين مع المانيا بواسطة غروبا الوزير المفوض في العراق من قبل هتلر ، وجعل العراق ساحة حرب ضمن عملية الصراع الدولي الذي كان مشتعلا ححين ذاك !
الأربعينات : المثقفون الزائرون : المازني وآخرون
قصد الأديب المصري الشهير إبراهيم عبد القادر المازني العراق في ثلاث زيارات قصار حافلة بالنشاط والدراسة والاطلاع وكرّم في الزيارة الثالثة، وكتبت عدة مقالات عنه في الصحف العراقية، زاره لأول مرة في شتاء 1936 بصحبة صديقه الصحفي العربي اسعد داغر، وحضرا اجتماعاً في نادي المثنى، وألقى كلمة فيه دعا فيها إلى وحدة العرب، وأقيمت له عدة حفلات لتكريمه ألقيت فيها عدة قصائد للزهاوي والجواهري، وعاد المازني ليكتب سلسلة من المقالات الرائعة عن العراق في جريدة البلاغ المصرية.
وزار المازني العراق ثانية في سنة 1939 للمشاركة في تأبين الملك غازي في زيارة قصيرة ثم زاره ثالثة في أواخر سنة 1944 دامت سبعة أسابيع حافة بالنشاط والسياحة والكتابة والتكريم ” وأحدثت هذه الزيارة في البلد حركة أدبية واجتماعية” إذ قدم بدعوة من مديرية الدعاية العامة لإلقاء أحاديث إذاعية وتأليف كتاب عن ” العراق الحديث”. أقام الرجل في ريجنت بالاس أرقى فنادق بغداد، واستقبله رئيس الوزراء حمدي الباجه جي واحتفى به نادي القلم العراقي، واهتمت به الصحافة العراقية اهتماماً كبيراً، وعلى الأخص أخباره التي كان يغطيها صديقه العراقي روفائيل بطي، وبعد أن قضى سبعة أسابيع حافلة، احدثت محاضراته بالراديو وخطبه وأحاديثه حركة أدبية وانتعاشاً فكرياً.
نشر المازني بعد عودته إلى مصر سلسلة مقالات في جريدة البلاغ عن العراق، وكتب كتاباً عنه أيضا، وباشرت بطبعه دار إحياء الكتب العربية بمصر، ولكن توقف طبعه بفعل غضب الملك فاروق على مؤلفه كونه كتب كتاباً يمدح فيه العراق وحكومته إذ لم تكن العلاقات بين البلدين على ما يرام، فخاف المازني غضب الملك فاروق ولم يشهد كتابه النور الذي كان بعنوان “العراق الحديث” وهو سفر ممتع بأسلوب بارع فيه وصف للشخصيات العراقية وتعليقات وخواطر ووقائع، ويرى الأستاذ نجدت فتحي صفوت الذي اطلع على مخطوطة الكتاب أن ليس هناك عمق كبير أو أصالة أو جديد في تحليل الحياة السياسية والاجتماعية العراقية ولكنه حافظ بمحبة العراق والإشادة بكرم أبنائه وما زلنا ننتظر صدور الكتاب بعد مضي قرابة نصف قرن على كتابته.
ولا بد لي أن أذكر بعض الشخصيات الأخرى التي زارت العراق في الأربعينات مثلها كل من علي الطنطاوي ناثراً وأنور العطار شاعراً. فمما كتبه الأول كان غزيراً عن العراق: يقول واصفاً شباب بغداد ” أن غضبوا الإعصار الجارف والبحر الطاغي، وإن رضوا النسيم الرخي والربيع الطلق”، ومن قصائد أنور العطار قصيدة ” تحية بغداد” التي ألقاها في الحفلة الكبرى التي أقامتها دار المعلمين العالية ببغداد احتفاء بالوفد الثقافي السوري في آذار 1947م، ولقد قصد العراق العشرات من الطلبة العرب الذين تثقفوا في معاهد وكليات بغداد، برز فيما بعد منهم عدة شعراء وأدباء ومفكرين ومؤرخين، اذكر منهم : حسين مروة وسليمان العيسى ونزار قباني وغيرهم وقد شارك أغلبهم في الحياة الثقافية العراقية بنتاجاتهم إبداعاتهم، ولم يقتصر الأمر على الكليات والمعاهد المدنية، فقد تخرج في الكلية العسكرية العراقية عدد من الطلبة والضباط العرب وعلى الأخص اليمنيين ومنهم عبد الله السلال الذي قاد الثورة في اليمن عام 1962م وتولى رئاسة الجمهورية فيها.


استمرار دور المثقفين العرب : رجالات عرب ونسوة عربيات في العراق:
لقد استوطن العراق في هذا القرن عدد من الرجال العرب الذين أثروا في حياته الفكرية والسياسية، مثل : انستاس ماري الكرملي وساطع الحصري وعبد المسيح وزير ورستم حيدر وعلي كمال وعارف معروف وجبرا إبراهيم جبرا وخالد علي مصطفى وغيرهم، كما واستقدمت الحكومة العراقية البعض من الأساتذة اللامعين من خريجي الجامعة الأمريكية ببيروت لتدريس الأدب والتاريخ والتربية للتدريس في الثانويات العراقية الشهيرة، مثل أنيس زكريا النصولي وعبد الله المشنوق وإسكندر حريق ودرويش المقدادي وعبدا لكريم عسيران وجلال زريق ورفيق عشا وغيرهم وكانوا من المثقفين القوميين العرب الذين تربى على أيديهم جيل قومي عراقي رائع، وقد أثار بعضهم مشاكل قومية في العراق، كما واستقطبت دار المعلمين العالية أدباء كبار، أمثال : زكي مبارك وعبد القادر المازني، وأحمد حسن الزيات وعبد الحميد العبادي وأمين المعلوف وأكرم زعيتر وعلي الطنطاوي وغيرهم.
واستمر استقدام العراق للعديد من العلماء والأدباء العرب ابان الأربعينات والخمسينات في اختصاصات شتي، أمثال : عبد الرزاق السنهوري ومصطفى كامل حسين وتقي الدين الهلالي والبير نصري نادر ومحمود الحوت وفهد الريماوي وزهدي جار الله وحسن إبراهيم حسن وجبرا إبراهيم جبرا وغيرهم، إضافة إلى عدد من الأساتذة الغربيين في علوم الفلسفة والآثار واللغات الأجنبية.
أما الجيل النسوي – العراقي المثقف، فقد تربى على أيدي سيدات عربيات فضليات كانت لهن ثقافتهن العربية الأصيلة، وهن الأوانس السوريات واللبنانيات والفلسطينيات : ألز قندلفت وامت سعيد ووداد المقدسي وسلمى المقدسي ورضا جرديني ومديحة تحسين والنور قمر وسليمه زيتون وملفينا غرزوزي وأوجين أبو شديد ونجلا طنوس ورضا النعماني والشاعرة سلمى الخضراء الجيوسي والاديبة دعد الكيالي وغيرهن، وقد وقفت إلى جانب دار المعلمين العالية كلية رصينة أخرى للبنات تأسست عام 1946م، هي : كلية الملكة عالية ( التحرير فيما بعد ثورة 1958م، ثم البنات لاحقاً). وساهمت هذه الكلية مساهمة فعالة في تطوير المجتمع العراقي وثقافة نسوة العراق على مدى زمني طويل. كما ساهمت الاستاذة المصرية نظله الحكيم مديرة دار المعلمات بدور تربوي وثقافي كبير سواء بمحاضراتها في بهو الثقافة بالثانوية المركزية ، ام بمقالاتها التحليلية في الصحف العراقية .
حدثتني السيدة الامريكية التي تعتز بالزمن الذي عاشت فيه بالعراق وهي المسز سارة باول عندما التقيت زوجها د. فاضل الجمالي بتونس عام 1986، وكانت قد كبرت ولكنها تتمتع بذاكرة حادة أنها بدأت جهودها التربوية ببغداد تحت ادارة الست ألز قندلفت مديرة الثانوية المركزية ببغداد ، اذ اوكل لها تدريس اللغة الانكليزية والمسرحية والفن ايام كان زوجها الجمالي المشرف العام للمعارف العراقية .. وكانت الى جانب تدريساتها الصفية لها انشطة لا صفية في تدريب الفتيات العراقيات على فن الاتيكيت وسماع الموسيقى والعناية بالنبات وقد شاركتها نخبة من المدرسات العراقيات والعربيات .. كما واعتنت المسز جمالي كما غدا اسمها في العراق بتأسيس مدرسة للاطفال العراقيين من ذوي العاهات تعاطفا معهم لأن ولدها البكر ليث كان مريضا بعاهة .. وكانت تقضي اوقاتها نهارا في التربية ومساء في الشؤون الاجتماعية بمعية نخبة من النسوة العراقيات المثقفات .
لقد برزت أنشطة نسوية في العراق شاركت النسوة العربيات فيها ، ومن أشهرها : نادي النهضة النسوية الذي تأسس ببغداد سنة 1924 وكانت من أبرز مؤسساته ماري عبد المسيح وزير ، وتترافق نشأة هذا النادي مع تأسيس الاتحاد النسائي المصري في نفس السنة برئاسة هدى شعراوي . ويعد هذا النادي أول هيئة نسوية عراقية نجحت في تحقيق مبدأ الرعاية الاجتماعية في العراق .. وركز النادي جهوده في فتح دورات لمحو الامية وخياطة ملابس للفقراء مجانا وتربية وتعليم عدد من البنات اليتيمات . وشارك النادي في انشطة عربية منها اسهامه في مؤتمر الاتحاد النسائي العربي الذي انعقد ببيروت سنة 1929، ومشاركته في مؤتمر الاتحاد نفسه الذي انعقد بدمشق سنة 1930 . كما تأسست جمعية بنات الضاد في الموصل من قبل مدرسات عراقيات وعربيات سنة 1927، وغايتها دعم اللغة العربية . ومن أبرز عضواته مدرسات عربيات مثل : المديرة أنيسه روضه تلك اللبنانية المتحمسة للعروبة ، وروز غريب اللبنانية الاخرى التواقة للتحرر والنهضة ، فضلا عن سلوى نصار وجورجيت مبارك وفكتوريا بحوش وماركريت شويري وسيليا مالك ( أخت الوزير اللبناني الشهير شارل مالك ) .
جبرا ابراهيم جبرا :
ويبرز اسم جبرا ابراهيم جبرا من العراق ، ذلك المثقف الفلسطيني الذي عشق العراق وتجنس به وقدم خدماته الثقافية الناضجة فيه على مدى يقرب من نصف قرن ، وتزوج بعراقية على غرار الشاعر نزار قباني ، وزوجة جبرا هي السيدة لميعة برقي العسكري .. فقد كان قد ولد في بيت لحم عام 1920 بفلسطين وترعرع في القدس ودرس في الكلية العربية بها ، ثم تلقى علومه العليا بجامعة كيمبردج بانكلترا ، وأصبح مدرسا للادب الانكلبزي في الكلية الرشيدية بالقدس ، ثم استقدمه الى العراق عام 1948 الاستاذ عبد العزيز الدوري اثناء توليه عمادة كلية الآداب والعلوم ببغداد لكي يدرس اللغة الانكليزية فيها . عمل جبرا مديرا للمطبوعات في شركة نفط العراق ، ثم رئيسا لمكتب الاعلام والنشر والترجمة في شركة النفط الوطنية العراقية حتى سنة 1977، ثم نصب خبيرا في اللجنة المركزية للترجمة بوزارة الثقافة والاعلام حتى تقاعد عام 1984، ولكنه ظل متواصلا مع دار المأمون للترجمة والنشر كواحد من خبرائها حتى وفاته عام 1994. ولما كانت زوجته قد توفيت من قبله ، وكان لا يفارقها ، وآثر أن يدفن الى جانبها في العراق . ويعد مأثور جبرا الثقافي والفني والنقدي في العراق اكبر حجما واثقل وزنا من كل مناصبه التي تقلدها .. فلقد كان وثيق العلاقة مع أبرز الفنانين والادباء والشعراء العراقيين ، كما وأثرى الرجل المكتبة العراقية بعدد كبير من الكتب والتآليف .. فضلا عن آثاره الادبية وخصوصا رواياته وقصصه وبقية صنوف ادبياته .
آخرون :
وكانت ثانويات العراق ومعاهده وكليته العسكرية قد فتحت أبوابها أمام الطلبة العرب فساهم العراق في تأهيل العشرات من الشباب العربي منذ الثلاثينات كاليمنيين والفلسطينيين والتوانسة والجزائريين والمغاربة والسوريين واللبنانيين، وقد أبدع البعض منهم واشتهر في حقول وتخصصات عدة، اذكر منهم ، مثلاً : عبد الله السلال ( اليمن ) حسين مروه وموسى الصدر( لبنان)، سليمان العيسى، ونزار قباني ( سوريا)، عبد الجليل التميمي ( تونس ) وغيرهم.
استنتاجات وحصيلة الدور :
اعتقد ان نخب المثقفين العرب وبالاخص الاخوة الفلسطينيين لم يدركوا طبيعة المجتمع العراقي وتكويناته والوانه .. وان الفكرة القومية ربما كانت ستمضي برتابة في دوامة التباينات العراقية ، ولكن الضغط عليها بشكل يصل الى حد الشوفينية قد اضر ضررا كبيرا بالمجتمع العراقي الذي يفهم بعضه بعضا من خلال المواريث التي عاش عليها وان ثمة احترام كبير بين انساق المجتمع العراقي بعروبته وكل تكويناته القومية والاقلياتية والدينية .. ولكن ترسيخ الشعور المتطرف قد اثر كثيرا في بنية المجتمع العراقي . وهذا ما لم يدركه المثقفون العربي لطبيعة نسيج المجتمع العراقي ، فاسهموا من جيث لا يعرفون باذكاء التطرف والتعصبات والتشرذمات والتكتلات .. لمسنا ما اثمر عليه في النصف الثاني من القرن العشرين .

شاهد أيضاً

انقسام العالم الإسلامي والتصدعات الاجتماعية في الشرق الاوسط… 2007 جواز مرور صعب

مختصر مترجم للمحاضرة التي القاها الاستاذ الدكتور سّيار الجميل في منتدى دراسات المستقبل المنعقد في …