الرئيسية / افكار / الحداثة وما بعد الحداثة… كيف يؤدلجون التفكير ؟ كيف يغلقون العقل العربي ؟

الحداثة وما بعد الحداثة… كيف يؤدلجون التفكير ؟ كيف يغلقون العقل العربي ؟

الحداثة .. ومعنى ما بعد الحداثة ؟
غدت قضية الحداثة وما بعدها مسألة سجالية لم تزل الثقافة العربية منشغلة بها انشغالا ساذجا يوصلنا الى الاوهام والاخيلة بعيدا عن الفهم الحقيقي خصوصا اذا ما علمنا بأن نزعتين اساسيتين تسودان التفكير العربي المعاصر اليوم : نزعة واسعة مؤدلجة بالانغلاق ونزعة مصّغرة ليبرالية الانفتاح ، وكثيرا ما تحّمل ظواهر فكرية معاصرة في حياة الغرب باكثر مما يمكن تحمّله سياسيا من قبل البعض من كتابنا العرب المؤدلجين ، في حين لا نلمس مثل هذا النزوع في ثقافات اخرى في العالم وخصوصا ما يتعلق بفلسفة الحداثة والعقل والحرية وكل معطيات ومنتجات الغرب على امتداد القرنين التاسع عشر والعشرين .. أما ” ما بعد الحداثة ” ، فلقد ورد مفهوما جديدا على لسان المعماريين منذ عقد الستينيات في القرن الماضي ، وعكس نوعا من تأزم الحداثة نفسها وقام على ثلاث ركائز : الوعي بالذات بتحريرها ، وتجاوز أكذوبة المركزية وعقلها التسلطي ، وبالتحول من معقولية التوحيد إلى معقولية التنوع. وبرغم ما يكمن فيها من فوضوية وجماليات معا ، إلا أنها نظريات غدت مفاهيم مفعمة بالمتغيرات لمجتمعات الوفرة ، فكان لذلك ردود فعل قوية ، فمن اجل إنقاذ الحداثة من أزمتها ، اقترح العودة إلى وحدة العقل بتمظهراته في الثقافات المختلفة : «التآنس» و «الحرية» و «التعقلية» وكركائز جغراسية تجعل المجتمعات – كما تزعم – في حالة توازن.
ما الذي يقولونه ؟ وكيف يفسّرون التفكير الحديث ؟
لقد وصل الامر بألاخ الدكتور عبد الوهاب المسيري ( في كتابه رفقة الاخ الدكتور فتحي التريكي ، 2003) ان يعزو بداية ظهور اللاعقلانية الفلسفية الغربية وتاريخ مولد ما بعد الحداثة ، إلى كتاب السحاقية ريفيو سوزان سونتاج «ضد التفسير» التي أفضت إلى ظهور أدب «الأرض الخراب» والتنميط السلعي، فهل يعقل ان تنطلق ظاهرة كبرى عن كتاب كهذا ؟ وعني صاحبنا بكل من مصطلحي المادية القديمة الصلبة و المادية الجديدة السائلة لتشخيصها فلسفيا. فماذا قال ؟ قال : بأن العقلانية المادية القديمة «الصلبة» ترجمت نفسها عبر فلسفة الانوار أو حركة الاستنارة المضيئة، – كما اسماها – التي جعلت الانسان ممركزا في الكون وزوّدته بأنساق معرفية وجمالية شاملة، وكديانة عالمية حسب افكار ماكس فيبر. من هذا المنطلق يفّسر بأن ذلك قد قضى على الأساس الديني للمعرفة ، وغدت الفلسفة مطوّرة في التفكير : رؤية ميتافيزيقية شاملة للحياة ، لكن ما لبث أن تم ضرب الإنسان انتولوجيا بتشكيك بعض الماديين في ثبات الطبيعة أو الذات أو المجتمع، بالقول أنّ المادة في حالة حركة وصيرورة مما أدى إلى ما يسميّه بـ «الاستنارة المظلمة» التي تنزع القداسة عن الإنسان وترده إلى قوانين الطبيعة ملغية أي شكل من أشكال الصلابة ومنكرة الأصل الإلهي والحدود والكليات والثوابت والسببية والثنائيات كالذات والموضوع، والخير والشر، والدال والمدلول ومستبدلة إياها بصفات يهوه اله اليهود، الثابت المتغير، المطلق النسبي… وفي عصر الحداثة يعربد الجنس واللذة الديونيزية الجسدية كما في الوثنية البدائية العابدة لأعضاء التناسل، هو الصورة المجازية للسائلة ولما بعد الحداثة. ويضيف الى كل هذا وذاك ، أسباب ظهور الانتقال من «الصلابة» إلى «السيولة» واختلال إشكالية الدال والمدلول الفلسفية وتقويض ثنائية الذات والموضوع هو انتقال النظام الاقتصادي الأوروبي من المنفعة إلى اللذة، ومن تنافس المنتجين إلى تنافس المستهلكين، ومن الثورات ضد الإقطاع والرأسمالية إلى حركات الطلاب المنادية بالحرية الجنسية، ومن الدولة القومية إلى دولة المؤسسات والنقابات والمنظمات، ومن مرحلة الإمبريالية المستغلة الاستعمارية إلى العولمة المكوكلة بكوكا كولا العالم، ومن منظومة اخلاقيات التضحية إلى نزعة استهلاكية، ومن خدمة الغاية إلى خدمة الوسيلة ، وهو ما سيشييء الإنسان ويجعله دالا من غير مدلول وشكلا بلا معنى ، فيغدو مجرد أداة رمزية ورياضية وينتفي المضمون عن الإبداع والأسرة . هكذا ببساطة اذن نتفلسف نحن العرب ؟
وماذا عن الانتولوجيا ؟
ونبقى نفّكر ونتأمل هذا التفسير حول الانتولوجيا ، فلقد انعدمت الكليات، مادية أو روحية أو مبادىء معيارية أو واحدية وظهرت المابعدياتو ما بعد التاريخ وما بعد الإنسانية وما بعد السببية .. ! وغدا العالم يتشظى ويتعدد ويتقلص ولا حقيقة إنما مجموعة قصص صغرى – كما يقول دريدا-. وبدت اللغة وكأنها ليست أداة للمعرفة إنما أداة لإنتاجها ولا شيء خارج النص! والاساس في التناص والاختلاف والأرجاء ولا معنى للنص إنما تفسير يفرض على النص من خارجه بإرادة القوة. ، ولا مكان لخرافة الميتافيزقيا، ومنها أوهام الفلسفة الهيومانية التي تتحطم ويحل محلها التكيف البراغماتي وتظهر التسوية بين الكائنات. وفي المنظومة الأخلاقية تختفي المعيارية لتحل محلها الوظيفة والنتيجة والمصالح ويتحول التاريخ إلى زمان مجرد، وإلى «ذاكرة الكلمات المتقاطعة» !! هكذا ، اختتم الاخ المسيري بنقده كل الدنيا ، وكأن لا وجود للخير والجمال .. ولا وجود لأي ايجابيات هو نفسه يتمتع بها ! ولا ادري كيف يحّل اطلاق احكام وتسميات على مفاهيم وظواهر لم نشترك نحن اصلا في صنعها او انتاجها او حتى في اعادة تطويرها ، وليس من الانصاف ان نقوم بالتآمر على الافكار والمفاهيم المعاصرة تحت ذرائع ومقارنات لا اساس لها من الصحة ابدا . ولا يمكن ربط الصهيونية بـ «التفكيكية» والدليل هو تحويل اليهود إلى مستوطنين، والفلسطينيين إلى لاجئين. اذ لا يمكن الربط بين ما بعد الحداثة واليهودية خاصة ، ذلك لأن منظومة المفاهيم والافكار والنظريات المعاصرة هي حصيلة لتراكم واسع وكبير من المعرفة والثقافات المتنوعة .. فلا يمكن ابدا ان نجتزىء الحداثة وما بعدها لنردها الى المفاهيم القبالية «اله اليهود» المطلق ! أو نقول بأن مفهوم «تناثر المعنى» التفكيكي يشبه «شفيرات هكيليم» ومفهوم «التمركز حول المنطوق» هو صدى الثنائية الحاخامية المتضاربة وبأن اكثر التفكيكيين من اليهود بسبب تجربة النفي والإحلال والغربة ولكونهم منبوذين وفي الوقت نفسه شهود على عظمة الكنيسة وممتلكين للهوية وفاقدين لها، ويفرد صفحات ليهودية جاك دريدا السفاردي مستشهدا بأمثلة من تفكيكيته ومعاينته الشخصية له . وهنا نتساءل : هل من المعقول ان يتم الربط هكذا ببساطة وسذاجة بين ما بعد الحداثة والصهيونية والتعليل واه لا يستند الى اي قاع معرفي متنوع الاطراف ؟ ان التفكيكية تختلف عن الصهيونية ببحثها عن نقطة الأصل النهائية في فلسطين وسعيها لتكون المركز الوحيد «المدلول المتجاوز » في الشرق الأوسط.
نهاية التاريخ وصدام الحضارات
واذا اعتبرت اطروحات مابعد الحداثة الفلسفية الاميركية: نهاية التاريخ والإنسان الأخير لفوكوياما وصراع الحضارات لهنتنغتون دعوات إمبريالية وأيديولوجية النظام العالمي الجديد، فانها لم تبشّر بأحداث 11 سبتمبر 2001 ، ولكنها رجّحت حدوث صدام للحضارات من كفة هنتنغتون على نهاية التاريخ عند فوكوياما ، وبالرغم من تناقضهما فانني لا اعتقد بأنهما يشتركان في إلغاء التاريخ وإلغاء الانسان. اننا بقدر ما يستوجب منا التأمل في مضامينهما الاساسية التي تبلورت عن فهم وادراك لما يجري في العالم وخصوصا في عالمي الشمال والجنوب ، اي في عالمين مختلفين اثنين : منتجات الحضارة المعاصرة وموروثات الحضارة الاسلامية .. فلابد ان يدرك المفكرون العرب بحجم التناقضات الهائلة بين كل من الاثنين والتي لم تستطع تلك التناقضات من البقاء في عالم الجنوب ، بل بدأت تنتج وتثمر بلاياها على العالم كله ! ولكن هل تسلم الحضارة المعاصرة نفسها من العفونات والمثالب؟ وعليه ، لابد من التأكيد على تمنهج ثقافتنا وقطيعة معرفتها وصقل اخلاقياتها العالية باعتبارها ينبوعا للتعالي على الثقافوية والتمجيد النرجسي للتصدي، وسدا منيعا للطقوس المقصية للآخر ! ان الذهنية المركبة لابد من أقلمتها مع إحداثيات العصر ودمجها بالمعرفة المعاصرة ، فالهوية ليست تأصيلا لكيان أومجرد تجريد ذهني ميتافيزيقي كما في هوية دولة اسرائيل «السردية»، فالحضور في العالم يمثل كنه الحداثة باستكمال الدورة الجدلية للتفاعل الحضاري ومجموعة العمليات التراكمية التي تطور المجتمع اقتصادا وإبداعا وتعبيرا، بجدلية العودة والتجاوز . هنا ، لابد من الاقرار مع فوكوياما بوجوب إحلال الديمقراطية محل الاستبدادية مع ملاحظة أنّ الحل الأميركي ليس الأوحد والافضل ، فثمة ما يخالفه في بيئاتنا ومجتمعاتنا .. ولقد انتقد الكتاب العرب المفكّر هنتنغتون ، ليس لأنهم تعمقوا في ما جاء به ، بل لكونه واضح العنصرية في تقسيمه للثقافات إلى سبع حضارات، وقالوا : ما الجامع بين عالم آسيوي وعالم إسلامي مثلا، فالنظريتان «نهاية التاريخ وصراع الحضارات» لا تلبيان مطلب التآنس الإنساني ، اذ لابد من طرح التثاقفية كحل لأنها لا تستوعب ولا تلغي، وتخفف من الصراع دون أن تلغيه. فكان الحل هو في الجمع ما بين استيعابية لفوكوياما وصدامية هنتنغتون.
وأخيرا : ماذا نقول ؟
واخيرا ، لابد من القول بأن اغلب الكتاب العرب الذين تناولوا هذا ” الموضوع ” كانوا ينطلقون ايديولوجيا برغم اعتراف بعضهم بقراءاته الممتعة والموسوعية أيضا .. ولكنني اختلف معهم في بعض الكليات والجزئيات معا ، ونأخذ عليهم التعميم فالمادية السائلة لا تفسر كل ظواهر الغرب الحضارية التي اغفلوا إيجابياتها واختصروها في ثنائيات، ويؤخذ عليهم ايضا اعتبار احدهم نيتشه العاشق ديانات الشرق ماديا ورائدا العدمية، كما ولا يمكن ابدا جعل فلسفة دريدا ومفاهيمه الدقيقة استتباعا لليهودية ! ان ذلك تحريف عن النهج العلمي .. فليس كل يهودي في هذا العالم ليس له الا مزاميره وسفر تكوينه .. والا لما كانت الدنيا لتستفيد مثلا من نسبية انشتاين ولا موسيقى غوستاف مالر .. ان اصدار الاحكام العمومية تودي الى التحريف ، فهل من العقل ان نقول بأن ثمة علاقة بين التفكيك واليهودية، وكأن الاديان الاخرى لا تفكيكية تنوعية فيها ؟ اذا كانت الصهيونية عدوة لنا ، فليس من الانصاف ان نلصقها بكل ما لا نستسيغه ، ونطلق على فلسفة الحداثة «بفلسفة الهامشيين» والتي يشكر لها تشهيرها بالهيمنة المطلقة خاصة من خلال تفكيك فوكو لمركزية السلطة وقوله بمبدأ القطيعة .
( الزمان ، 31 مايو 2004) .

شاهد أيضاً

مطلوب لائحة اخلاق عربية

تعيش مجتمعاتنا العربية في حالة يرثى لها، لما أصابها من تفكك سياسي جعلها تتمزق اجتماعيا، …