الرئيسية / النقد السياسي والتاريخي / رؤية نقدية مختزلة في ذكريات امين هويدي عن العراق

رؤية نقدية مختزلة في ذكريات امين هويدي عن العراق

حظينا قبل أيام بقراءة ذكريات أمين هويدي التي نشرتها جريدة «البيان» الإماراتية الغراء على حلقات، فوجدت من الضرورة بمكان أن اكتب بعض ملاحظاتي النقدية ومكاشفاتي لجزء مما كتبه عن العراق خصوصا أيام إقامته فيه سفيرا على عهد الرئيس الراحل عبد السلام عارف إبان الستينيات من القرن العشرين ولمدة ثلاث سنوات قضاها معززا مكرما وهو يذكر بأنها كانت من أحلى أيام حياته.
ولكن ليكن معلوما أن ما سأكتبه من ملاحظات وانتقادات سيتناول بالتحليل والنقد والمساجلة بعض ما سجله الرجل من معلومات مهمة أصبحت اليوم تاريخية في عداد الزمن، ولابد من مناقشتها باستقلالية تامة بعيدا عن أية ضغوط أو عواطف أو انتماءات من اجل التوصل إلى مقاربة للحقائق بدل البقاء في حالة من التهويم وإيجاد المبررات والمسوغات التي لم تعد تنطلي سذاجتها على جيل اليوم خصوصا ونحن نعلم بأن العراق كانت له علاقاته المتأزمة دوما مع مصر على امتداد القرن العشرين، ونريدها اليوم أن تكون علاقات يسودها الاحترام والتكافؤ والانسجام بعيدا عن التدخلات في الشئون الداخلية التي أضرت كثيرا بشئوننا العربية خصوصا عندما كانت تجري بها الأهواء وكما كانت تلهبها العواطف الساخنة في القرن العشرين.
والحق يقال انني كنت ولم أزل اكن احتراما ومحبة وتقديرا كبيرا لـ أمين هويدي الذي وجدت سواء في شخصيته أم في علاقاته أم في كتاباته ومداخلاته الصحفية والتلفزيونية.. انه من اكثر الناس مقاربة للحقائق وعرض الأمور بصراحة وجدية وجرأة من دون أية مواربات أو مفبركات واكذوبات كما يفعل الآخرون.

بادئ ذي بدء، أقول بأن العلاقات السياسية بين البلدين مصر والعراق مرت خلال عقدي الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين بأسوأ الظروف والتعقيدات والمشاكل والحرب الباردة، وشغل ذلك عهد الرئيس جمال عبد الناصر، وبالرغم من سوء العلاقات في السبعينيات على عهد الرئيس السادات، ولكن بوادر التحسن السري بدأت مذ انفجرت الثورة الإيرانية العام 1979، إذ أخذت العلاقات تأخذ لها مسارا من نوع آخر وصولا إلى عهد الرئيس محمد حسني مبارك..
إن ما يعنينا بالذات هو مغزى التموج في العلاقات الثنائية العلنية والخفية على عهد عبد الناصر. لقد مرت العلاقات الثنائية بأزمات ساخنة بين البلدين في العهدين العراقيين الملكي والجمهوري، فلقد راهن الرئيس عبد الناصر على سقوط النظام الملكي في العراق منذ تسلمّه السلطة وليس بعد العام 1956 كما تثبت الوثائق، وكانت هناك حرب سياسية وإعلامية ونجح عبد الناصر في رهانه على أمل أن يقوم نظام حكم عراقي ناصري منسجم مع طموحاته.. وفي الأيام الأولى للانقلاب الدموي العراقي في 14 يوليو 1958 تّعرف جمال عبد الناصر على عبد السلام عارف أحد زعيمي الانقلاب وتوثقت العلاقة بين الطرفين في العلن كصديقين شخصيين، ولكن بدا بكل وضوح بأن أحدهما لم يكن يثق بالآخر أبدا..
واختلف زعيما الانقلاب العراقي عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف اختلافا أوصلهما إلى حالة الصراع نتيجة ما سمي بمؤامرة عبد الناصر على قاسم واقصي عبد السلام عن السلطة وحوكم وتقرر إعدامه ولكن لم ينفذ الحكم به فبقي مسجونا..
وتؤكد الوثائق التي درسناها في كتابي الموسوم «تفكيك هيكل» بأن عبد الناصر احبط إحباطا شديدا نتيجة مجيء البعثيين للسلطة في العراق العام 1963وعدم تسلم الناصريين لها وكان الصراع مشتدا بين البعثيين من طرف وبين الفئات القومية الأخرى كالناصريين والحركيين. نعم تنبؤنا الرسائل التي كتبها عبد الناصر بخط يده إلى المشير عبد الحكيم عامر وكان الأخير في رحلة طويلة بأن أمله قد خاب من مجيء البعثيين إلى السلطة في العراق برغم تنصيبهم عبد السلام عارف رئيسا للجمهورية العراقية من دون أي انتخابات تشريعية، ولأول مرة يتسلم عراقي مقاليد الرئاسة من دون انتخابات ليغدو ذلك عرفا سياسيا في العراق وعلى نفس الأسلوب الذي جرى في مصر بعد العام 1952. لقد تبين لعدد من المؤرخين بأن عبد الناصر لم يكن مستعدا أبدا للانسجام مع البعثيين في مباحثات الوحدة، خصوصا وان البعثيين قد ناصبوا عبد الناصر العداء أيضا.. ومرة أخرى يراهن على سقوطهم في العراق، وخاب ظنه مرة أخرى في الحركة الانقلابية التي نجح فيها عبد السلام عارف.
فرغم صداقة عبد الناصر وعبد السلام الشخصية، إلا أن عارف لم يكن ناصريا ولكنه اعتمد في حكمه على عناصر قومية متنوعة كان الناصريون من أقوى تلك المجموعات والعناصر. ولما دخل العراق على عهد عبد السلام في مجموعة صراعات سياسية وشخصية، فقد راهن عبد الناصر مرة أخرى على الناصريين العراقيين في الوصول إلى السلطة وإزاحة عبد السلام عارف.
قوات مصرية
ابدأ التعليق على رسالة أمين هويدي إلى عبد الناصر مقدما له خمسة عوامل من اجل إبعاد القوات المصرية عن شمال العراق وان تتمركز في بغداد، أو في أي مكان آخر خلاف التمركز في الشمال! وقبل أن أناقش العوامل الخمسة، لابد أن أوضح للقراء الكرام أن مسألة تواجد قوات عربية أي «مصرية» في العراق قد جاء بناء على المباحثات التي دارت بين العراقيين والمصريين كي تحل قوات مصرية بديلة عن قوات سورية كانت سوريا قد أرسلتها إلى العراق أيام حكم البعثيين من اجل المشاركة إلى جانب القوات العراقية في قمع التمرد الكردي الذي كان قد أشعله الزعيم الكردي الملا مصطفى البرزاني، ولما اختلف نظام الحكم في العراق واصبح عبد السلام عارف هو السيد المطلق للعراق، سحبت سوريا البعثية قواتها من الشمال العراقي، فجاء الطلب العراقي للقوات المصرية كي تحلّ بديلا عن القوات السورية، وكان موقف مصر حرجا للغاية،
فهي لا تستطيع رفض الطلب العراقي وإنها فرصة ممتازة لوجود قوات مصرية في العراق، ولكنها من طرف آخر لم تكن تود التورط في زج قواتها المصرية في أتون حرب عصابات جبلية وفي طبيعة تضاريسية صعبة المراس للغاية تجعل موقف عبد الناصر حرجا أمام الأكراد.
أريد القول ان مثل هذا «الموضوع» الخطير لا يمكننا أن نقبل التبريرات التي قدمها لنا الأخ هويدي على أساس أن سوريا وتركيا ستكون لهما ردود فعل إزاء مصر، علما بأن العلاقات العلنية بين مصر من طرف وبين سوريا وتركيا من طرفين آخرين لم تكن وطيدة أبدا، بل كان التنافر قد وصل أقصى مداه وقت ذاك. كما أريد أن أصحح بأن العلاقات التي كانت تربط العراق بكل من إيران وتركيا لم تكن قوية بالشكل الذي يتواجد هناك ضباط ارتباط لكل من البلدين ببغداد، ولم يكن لبغداد أي علاقة «بحلف السانتو». وعليه،
فان ما سجله أمين هويدي هو محض افتراء عار عن الصحة، إذ كيف سيجد المصريون ضباطا ومراتب وجنود في تعاون غير مباشر مع «حلف السانتو» إن مجرد طرح مثل هذا التوهم من قبل هويدي يجعلنا نعيد التفكير والبحث والتدقيق في صفحات العلاقات بان تلك المرحلة الصعبة، والتي تجعلنا نقول ان تلفيقا كهذا ما هو إلا وهم من الأوهام وإنني أطالب أمين هويدي أن يثبت ذلك للجميع وثائقيا! والحقيقة التي كان على هويدي تسجيلها بمنتهى الصراحة أن مصر عبد الناصر بكامل ثقلها لم تكن مطمئنة ولا مرتاحة من السياسة العراقية التي لم يكن لحلف السانتو أي دور مباشر أو غير مباشر معها!
يبدو لأي مؤرخ ومحلل خبير بتلك المرحلة أن عبد الناصر كان له هدف خفي في إرسال قوات مصرية إلى العراق، والتي أرادها أن تكون في منأى عن حركات الشمال، واختار لها اما أن تكون في الموصل أو الحبانية نظرا لخطورة كل من الموقعين. ولنا أن نسأل اذن: لماذا ارسلت مصر تلك القوات إلى العراق؟ وكان عارف يرمي من وجود القوة المصرية كما حددت سوريا للإطاحة بالبعثيين خصوصا إذا كانت تلك القوة موجودة في الموصل. إذن كان كل من عبد الناصر وعارف يرميان إلى ابعد من وجود قوة عسكرية مصرية للزج بها في قمع التمردات الكردية ـ كما كانت الحكومة العراقية تسميها ـ في الشمال. وتتضح هنا أيضا الأسباب الحقيقية غير المباشرة وراء كل هذه العملية التي أرادت مصر فيها التحكم في عسكرة قواتها اللوجستية في أماكن محددة ومسماة من العراق وبطلب شخصي من قبل عبد الناصر نفسه.
أزمة 65
يحلل أمين هويدي أوضاع العراق للعام 1965 وأزمة نظام حكم عبد السلام عارف ضمن التغيرات السريعة، ويعلق بأنه قد تكون تلك الأزمة والظروف الضاغطة عاملا في إجبار مصر على تغيير سياستها الحيادية. معنى ذلك أن تساعد مصر أعوانها الناصريين العراقيين في الانقضاض على السلطة في العراق وهذا ما كان عبد الناصر ينتظره بفارغ الصبر منذ زمن طويل، وعمل من اجله ضد كل من: نوري السعيد وعبد الكريم قاسم وضد البعثيين.. وها هو ينتظر ما ستسفر عنه الظروف الضاغطة التي صنعها الناصريون العراقيون ضد عبد السلام عارف وهم تحت أسماء وواجهات مختلفة. ومهما قال هويدي واعاد وكرر بأن مصر كانت حيادية إزاء الشئون العربية وبالأخص في العراق، فلا يمكننا أن نطمئن أبدا بدليل كل ما حدث على عهد الرئيسين الأخوين العارفيين. يقول هويدي انه اجتمع بطاقمه في السفارة المصرية ببغداد واقترحوا على القاهرة سحب تلك القوة العسكرية لاسباب أوضحها هويدي في مذكرة رفعها إلى الرئيس عبد الناصر.
وضع هويدي أمام زعيمه عبد الناصر ثلاثة احتمالات يمكن أن تحدث في المستقبل القريب. ويبدو هنا رهان القاهرة على الجماعات الناصرية في العراق واضحا، وهي: أولا: احتمال تخلص عبد السلام عارف من جماعة صبحي عبد الحميد مدنيين وعسكريين.
ثانيا: احتمال التركيز من قبل الرئيس عبد السلام عارف للتخلص من عارف عبد الرزاق! ثالثا: احتمال قيام عارف عبد الرزاق بمواصلة سعيه للتخلص من عبد السلام عارف مهما كانت النتائج! وهنا أتساءل: هل يعقل أن يتخلص زعيم دولة من أحد فينصبه رئيسا للوزراء؟؟ أتساءل أيضا: كيف قرأ هويدي المستقبل ليضع هذا الاحتمال أمام عبد الناصر في مذكرة يقول انه ضمنها ذلك قبل حدوث انقلاب عارف عبد الرزاق على رئيسه المشير عبد السلام. يبدو واضحا للعيان ولكل من يفكر ويتأمل في النصوص أن رهان القاهرة كان على الاحتمال الثالث الذي سيبدأ العمل به، وستتهم القاهرة بتنفيذه. وهذا ما سيفرد له هويدي اهتماما كبيرا به في الدفاع عن تدخل سافر من قبل عبد الناصر في الشأن العراقي ودورها في أزمة مايو 1965، وكأن هويدي قد كتب مذكراته هذه التي جاء لينشرها اليوم من اجل الرد على هذه التهمة، ولكنني اعتقد انه لم يوفق أبدا في مهمته بقدر ما كان عليه أن يفتح أوراقه كاملة ويتحدث بكل صراحة وجرأة عن حقيقة علاقة مصر وقت ذاك بأحداث الستينيات التي شهدها هو نفسه في العراق.
ويمنحنا نص المذكرة انطباعين اثنين: الأول أن القوة المصرية هي من المكانة والقوة والحجم بحيث تشكل قوة معادلة للقوات العراقية في العراق نفسه، وهذا لا يمكن تخيله أو تصديقه طبعا، فهي قوة رمزية إزاء الجيش العراقي. والثاني أن مصر كانت فعلا تعّول على تلك القوة في السيطرة على الموقف لصالحها طبعا، وهذا ما فات تقديره ربما حتى على الزعماء العراقيين. لا ادري! لقد قدم أمين هويدي آراءه التي أظنها صائبة في الرئيس العراقي عبد السلام عارف، كما قدم ملخصا لوضعية نظام الحكم وظروفه عهد ذاك.. ولكن لا ادري هل كان هذا رأيه في الرجل خلال أيام العمل معه سفيرا لبلاده عنده، أم جاء رأيه متبلورا بعد مضي هذه السنوات الطوال من تجارب السفير هويدي السياسية.
ويمكنني أن أضيف لما كان السفير هويدي قد تناسى تسجيله ضمن عرضه للأوضاع آنذاك الانشقاقات في التيار القومي وولادة جماعات وكتل من العسكريين والمدنيين في الداخل، وأيضا، فشل السياسة الاقتصادية التي جازفت بإصدار القرارات الاشتراكية في العراق على النسق المصري تماما من دون معرفة أخطار ذلك ومن دون معرفة اختلاف الأوضاع الاقتصادية في العراق عن مصر.. وقد سببت تلك القرارات والتطبيقات أزمة سياسية حادة في كل من الدولة والمجتمع، فقاد إلى تباينات واسعة في التيار القومي، أو بالأحرى بين الناصريين من طرف وبين القوى القومية الأخرى! ولا ادري لماذا استثنى هويدي دور مصر في الأحداث العراقية السياسية والاقتصادية.. وصولا إلى قيام محاولة انقلابية فاشلة سيقوم بها الناصريون كما سيأتي تحليل ذلك بعد قليل.
إنني افهم جيدا واعتقد ان القراء الكرام جميعا يدركون أيضا لماذا لا يستطيع امين هويدي أن يقدم التبريرات ويخالف حقائق الأمور بعض الأحيان.. انه يفعل ذلك أساسا كونه جزءاً من نظام سياسي لا يريد أحدا أن يكيل ضده الاتهامات.. وأنا بدوري أقول: ما أشجع السياسي عندما يقول الحقيقة ويعترف بها، والرئيس عبد الناصر نفسه كان قد اعترف بالخطأ بعد الهزيمة العام 1967 وتنازل عن السلطة مسجلا موقفا رائعا للتاريخ. وعليه، فلابد أن تتعلم طواقم عبد الناصر من معلمها درسا وتكتب الحقائق مهما كانت!
ارجع لأقول برغم كل انتقاداتي في أعلاه، فالحق يقال بأن أمين هويدي رجل يذكر المعروف في أهله وليس كغيره من الذين يتكتمون على الحقائق وجميل الأعمال. إنني أشيد به لما ذكره في مذكراته من فضل للعراق على مصر عندما احتاجت إلى رصيد من العملة الصعبة، وبادر العراق لإنقاذ الشقيقة الكبرى. ويقول بأنه فاتح محافظ البنك المركزي العراقي وقت ذاك وهو د. خير الدين حسيب وكان من ابرز الاقتصاديين الناصريين، فاتم الأخير الإجراءات بعد أيام قليلة بدفع الملايين من العملة الصعبة لمصر.. ولكن هويدي يستطرد قائلا بأن العراق لم يطالب برد هذا المبلغ إلا بعد أن توّلى شكري صالح زكي وزارة المالية في وزارة د. عبد الرحمن البزاز.
واقول أيضا إن العراق لم يطالب مصر بأمواله ويجعلها من أولوياته إلا بعد أن أدرك عبد السلام عارف وطاقمه الجديد برئاسة د. عبد الرحمن البزاز بأن مصر كانت تقف وراء انقلاب عارف عبد الرزاق الفاشل! وعليه، فيا أخي هويدي لا يمكننا أن نلقى بالتهمة جزافا على البزاز وشكري صالح زكي انهما أرادا استرداد الأموال من دون أن يأذن لهما الرئيس عبد السلام عارف الذي شعر بأنه خدع خدعة لا يمكن نسيانها.
انقلابات وانشقاقات
يحلل أمين هويدي طبيعة الانشقاقات السياسية التي ولدت في العراق من قبل التيارات القومية والتي أدت الى هزات متعددة، ولكن لم يذكر لنا هويدي اسباب تلك الهزات والخلافات المحتدمة التي وصفها لنا وزاد من تخوفاته منها.. وانه لم يقرنها لنا بوثائق رسمية يمكننا التأكد من حدوثها وبأي كيفية كانت تدخلات عبد الناصر من اجل حلها؟ ومع من وقف؟ هل وقف مع عبد السلام عارف ام وقف مع جماعاته من القوميين الناصريين؟ ويمضي هويدي في توصيف محاولة انقلاب عارف عبدالرزاق بـ «المبتور» ولم يسمه بـ «الفاشل» ابدا.
ويعلمنا هويدي ان كلا من عبد السلام عارف وعبد الرحمن البزاز قد اتصلا به تلفونيا كل على انفراد ليعلمانه بالتغيير وبتكليف عارف عبد الرزاق قبل ان يصدر اي مرسوم جمهوري؟! فما علاقة سفير الجمهورية العربية المتحدة بموضوع داخلي في العراق؟ وما معنى اتصال كل من عبد السلام عارف وهو رئيس الدولة وعبد الرحمن البزاز وهو سفير العراق في لندن لابلاغه بتشكيل الوزارة العراقية قبل ان تصدر مراسيم التشكيل؟ معنى ذلك ان مصر لها ضلعا في ذلك! انني كمؤرخ ابحث عن العلل والمسببات، كنت اريد ان يكون الرئيس عارف حيا ليسمع مثل هذا الكلام على لسان هويدي، اذ لا ينفعنا اليوم اي تأييد او نفي من قبل عارف عبد الرزاق وهو حي يرزق حتى اليوم.. ويبدو انه كان على علاقة سيساسية وشخصية غير عادية مع هويدي عندما يسميه هذا الاخير بـ «ابي رافع». ولكن لماذا اخالف هويدي هنا؟ ملاحظات تحليلية:
لماذا يتوقع هويدي في هذا التعديل الوزاري اذا لم يكن قد اتخذ طرفا الى جانبه من الطرفين، فهل كان هويدي الذي يمثل سياسة عبد الناصر في العراق الى الجانب الشخصي ممثلا بعارف عبد الرزاق ام كان يحترم الجانب الرسمي ممثلا بعبد السلام عارف؟ يظهر جليا انه يتخذ الجانب الشخصي بدليل العلاقات العائلية التي تربط الجانبين! كيف يتساءل هويدي عن اختيار ابو رافع بالذات رئيسا للوزراء وفي هذا الوقت غير المتوقع؟ هل انه لا يدري، فان كان لا يدري وهو سفير عبد الناصر في العراق فتلك مصيبة، وان كان يدري فالمصيبة اعظم! اما ما يكتبه هويدي من ان عبد السلام قد أخبره «انه كان على علم تام بنيات عارف عبد الرزاق في القيام بانقلاب لصالحه اذا اصبح رئيسا للوزراء حيث يكون التنفيذ اسهل وايسر، فاراد الرئيس عبد السلام بتكليفه بتشكيل الوزارة في ذلك الوقت تمهيد الطريق امامه للقيام بحركته بسرعة قبل ان يكمل استعداده وتتعمق وتتمكن خطته» «المصدر نفسه، العدد نفسه». وهنا أقول مخاطبا أمين هويدي: هل من المعقول تصديق ذلك؟ هل من المعقول ان يفضح رئيس دولة مثل العراق اسراره امام سفير عبد الناصر وهو يعرف ما علاقة ذلك السفير بعارف عبد الرزاق؟ هل ان عبد السلام عارف غبي الى هذه الدرجة التي تسمح له ان يكشف خططه وما سيتمخض عن تلك الخطط؟ وكل ذلك قبل صدور اية مراسيم!
أريد ان أشير قبل تحليل ملابسات المحاولة الانقلابية الناصرية الى ان هويدي أعاد وكرر بأن عبد الناصر هو اول من أخبر الرئيس عبد السلام عارف بتفصيلات ما حدث في بغداد.. اعادها وكررها خمس مرات، من اجل ان يؤكد بأنه لا علاقة لعبد الناصر بالموضوع كاملا. وهنا لابد ان اشير الى حكاية غير معروفة ابدا قّصها عليّ في عمّان بالاردن يوم 10/8/1999 صديقي القديم الدكتور احمد الحسو الذي كان يحتل منصب المستشار الصحفي للرئيس عبد السلام عارف، وكان الرجل يرافق الرئيس في رحلته الى الدار البيضاء وقد عاد معه على متن نفس الطائرة المصرية التي أقلّته من المغرب الى العراق مرورا بمصر..
حكى لي ما حدث بكل تفصيلاته وماذا كان رد فعل الرئيس عبد السلام عارف، قال: علمنا بما حدث في بغداد من محاولة انقلابية وبما كان يحدث في الساعات الاولى من فجر يوم 14 سبتمبر ومن قبل رجل نثق به كثيرا، علما بأن فارق التوقيت بين العراق والمغرب قرابة 3 ساعات. وقمت توا باخبار مرافق الرئيس عبد الله مجيد، فدخل توا الى غرفة نوم الرئيس عبد السلام عارف الذي كان يغط في نوم عميق، فأيقظه من منامه ويخبره بما حدث في بغداد، فنهض عبد السلام عارف سريعا ليستفهم المزيد من الاخبار من دون ان يصاب بأي ذعر، وقد اخبرناه بأن المحاولة احبطت وان الوضع مستقر لصالحه، فبدأ يمهد للعودة مباشرة.
وفعلا، عدنا على طائرة مصرية، فطرنا الى العراق وهبطنا ليلا في احد مطارات مصر العسكرية وليس المدنية، وكان الجميع في حالة من القلق باستثناء الرئيس عارف الذي لم يعرف طعم النوم.. كنا جميعا في حالة من الاعياء والجهد النفسي خصوصا عندما بقيت طائرتنا جاثمة في ذلك المطار الموحش وعبد السلام قوي الارادة وثابت الجنان ولكنه كان متألما جدا لما اصابه من خيانة وغدر القريبين منه والبعيدين عنه. وأريد ان اعتمد ايضا على ما رواه لي الدكتور احمد الحسو وكان من اقرب المقربين الى الرئيس عبد السلام عارف وكان بمعيته على نفس الطائرة:
لم يعد عبد السلام عارف الى القاهرة اولا ليعمل على ترتيب سفره الى بغداد اذ نزلت الطائرة للتزود بالوقود في مطار مصري لا يعرف اين هو لأن المطار كان موحشا في الليل ولم يكن في القاهرة بأي حال من الاحوال.. ولم تبق الطائرة الا وقتا قصيرا بقي الجميع على متنها، فلم ينزل احد منها الى ارض مصر.. وقد حدثني د. الحسو بأن هناك من كان يتوجس خيفة من التوقف في مصر. وكان عبد السلام ساكتا ولم يتكلم ابدا!
يقول الاخ د. الحسو بأن الموقف في بغداد كان واضحا وان رجال عبد السلام هناك قد احكموا السيطرة على الوضع كاملا.. ولا ندري من اين اتى هويدي بخبر ان هناك طائرات في انتظاره بسماء بغداد لاسقاط طائرته عند الوصول! ان هذا مجرد اختلاق لا اساس له من الصحة. فلقد قام سعيد صليبي الرجل العسكري القوي الذي اعتمد عليه عبد السلام عارف، وكان صليبي برفقة اخو عبد السلام واسمه عبد الرحمن عارف رئيس اركان الجيش وكالة بالسيطرة التامة على الموقف. ولم تكن تلك المحاولة الغبية الا مجرد مؤامرة لم يعرف منفذوها فن ادارتها السريع فسقطت منذ الساعات الاولى.. ويتهكم العديد من الكتاب والمحللين كيف ان رجلا مثل عارف عبد الرزاق بيده مقاليد البلاد وكالة ولم يستطع النجاح اثناء غياب رئيسه!
تسجيلات
يقول هويدي: «لم اكن اعلم حينما اتصلت بأبي رافع ان عجلة الانقلاب دائرة، وانه كان في ذلك الوقت بالذات يقود عملية انقلاب خطيرة من مكتبه في رئاسة الوزراء، وقد استغل هذا الاتصال المسجل اسوأ استغلال في الايام التالية في الوقيعة بين الرئيس عبد السلام عارف والقاهرة دون تقدير للمصلحة القومية» «المصدر نفسه».
وأنا اقول لو لم تكن التسجيلات خطيرة والمحادثة بين الاثنين خطيرة لما كان هناك اي اتهام يوجه من قبل المسئولين العراقيين الى السفير المصري! فاذا كنا نحاكم ذلك يا اخي هويدي من وجهة النظر الرسمية، فهل يحق لك وانت سفير ان تخاطب رئيس وزراء دولة من دون اية ضوابط مهنية او بروتوكولات دبلوماسية؟ وحتى ان هاتفته لأمر ما، فلابد ان يكون لأمر سياسي خطير! ولماذا لم تأت مكالمتك اثناء الدوام الرسمي وقد أتت مساء، او بالاحرى والصحيح اتت بعد العاشرة والنصف ليلا!
اما اذا اردنا ان نحاكم النص يا اخي هويدي من وجهة النظر السياسية، فانني لا اعتقد ابدا ان حدثا سياسيا يتعلق بمصير العراق سيقوم في قلب العاصمة بغداد ومن قبل ابو رافع الذي يبدو ان الكلفة مرفوعة بين الاثنين من دون علم السفير المصري حتى وان لم تكن هناك اية تسجيلات او مكالمات هاتفية بين قائد المحاولة والسفير المصري عشية الانقلاب! فمن ذا الذي هو بالفعل يقدر المصلحة القومية؟
وأنني أسأل: هل عرف أمين هويدي بالانقلاب الساعة العاشرة صباحا يوم 15 سبتمبر؟ ومن هو الشخص من الاصدقاء الذي خاطر بحياته وحضر الى مكتب السفير المصري ليخبره بما حدث؟ ماذا لو كشف الاخ السفير عن اسم صديقه «المغامر» بعد مرور قرابة اربعين سنة على الاحداث من اجل ان نسأله ونتثبت من صحة ما يقوله هويدي؟ واذا كان هويدي يقول بأنه قد عرف بأمر الانقلاب ضحى يوم 15 سبتمبر، فان عبد السلام نفسه قد ايقظوه من منامه فجر يوم 15 سبتمبر، وبرغم فارق الوقت فان عملية الاتصال على حسب ما ادعاه هويدي سيستغرق وقتا طويلا! وهنا اشكك جدا بما سجله هويدي من معلومات غير صحيحة ويكتنفها الغموض.
اعتقد ان السفير امين هويدي لم يقل الحقيقة التاريخية كاملة في مذكراته عن العراق، اذ ان مصير عارف عبد الرزاق الذي ستحتضنه القاهرة بعد محاولته الانقلابية، لا يمر من دون ان تقف عنده لتمحيصه قليلا: لا يمكن للقاهرة ابدا ان تستقبل عارف عبد الرزاق على اراضيها من دون ان تعلم ما قد جرى في بغداد.
لا يمكن ابدا ان تجري هكذا أحداث خطيرة في بغداد وتحتضن القاهرة بطلها، وتسكت بغداد الا في حالة من حالتين اثنتين، اولاهما ان عارف عبد الرزاق قد هرب من بغداد بالتنسيق مع السفارة المصرية فيها. او ان القاهرة قد ضغطت على بغداد لتسفيره اليها من دون ان يحصل له اي أذى.. وفي كلتا الحالتين، لا يمكن للقاهرة استقباله من دون علم وموافقة الرئيس عبد الناصر، ولا يمكن لبغداد تسفيره من دون علم وموافقة الرئيس عبد السلام عارف! ومحور كل هذه العمليات هو السفير المصري امين هويدي الذي يعترف بأن «علاقاتنا العائلية قوية» مع عارف عبد الرزاق وعائلته.
مصرع عبدالسلام عارف
يقول امين هويدي انه غادر العراق وهو يحمل عنه اجمل الذكريات التي لم تزل مغروسة في اعماقه، غادر بغداد ولم يعد اليها الا بعد ذلك بشهور عضوا في وفد اختاره الرئيس جمال عبد الناصر برئاسة المشير عبد الحكيم عامر وكان معه كل من عبد المجيد فريد وامين هويدي وعبد الحميد السراج «الذي لا يعرف هويدي لماذا اختاره عبد الناصر ان يكون معهم وكان السراج لاجئا عند عبد الناصر».
الحقيقة، ان المعلومات المهمة التي سجلها امين هويدي في مذكراته، كنت انتظرها منذ زمن طويل اذ تقول الوثائق والتقارير والمعلومات السياسية العراقية ان عبد الناصر كان قد تدخل تدخلا سافرا في شئون العراق عندما قتل الرئيس عبد السلام عارف ومن معه عندما سقطت طائرته الهيلوكبتر اثر هبوب عاصفة رملية قرب البصرة كما كان قد اذيع وقت ذاك، ولم يستطع احد حتى يومنا هذا من كشف لغز سقوط تلك الطائرة، ويشاركني أمين هويدي ايضا بقوله لا احد يعرف سر سقوط طائرة عبد السلام عارف! ولكن هويدي اول من تحدث سواء في كتاباته او في لقاءاته التلفزيونية بأن عبد الناصر هو اول من عرف بخبر سقوط الطائرة قائلا لهم بأن عبد السلام قتل وشبع موت! المهم في المعلومات التي كنت قد سجلتها في بعض كتاباتي التاريخية نقلا عن الاوراق العراقية ان وصول عبد الحكيم عامر من القاهرة الى بغداد على عجل وتدخلاته السافرة في تنصيب خلف لعبد السلام قد غيّر مسار تاريخ العراق برمته في تلك اللحظة التاريخية..
لقد عمل جهده من خلال تنفيذ رغبة الرئيس جمال عبد الناصر في عدم وصول المرشحين الاثنين اللذين كان ضدهما للرئاسة في العراق: المدني الدكتور عبد الرحمن البزاز رئيس الوزراء والعسكري عبد العزيز العقيلي وزير الدفاع، وفرض بدلهما اخو عبد السلام الفريق عبد الرحمن عارف رئيس اركان الجيش وكالة، وقد ضرب بالدستور عرض الحائط، ولأول مرة يرث رئيس دولة جمهورية اخاه في الحكم، كان في العراق!
نعم، انني اثني على امين هويدي تسجيله التفصيلات من المعلومات المهمة التي حدثنا فيها عن دور مصر في تنصيب عبد الرحمن عارف، والاكثر من ذلك انه يشرح لنا بكل صراحة هذه المرة عن دور مصر في اعداد مؤامرة لتنصيب عارف عبد الرزاق رئيسا للجمهورية اثر مصرع عبد السلام عارف.. وهنا اريد ان اغتنم هذه الفرصة كي أدعو مخلصا كل الباحثين والمؤرخين والساسة القدماء وكل من يمتلك معلومات يدلي بها من اجل الكشف عن اسرار مصرع الرئيس العراقي عبد السلام عارف، ومن يقف وراء التخلص منه! ان الحاجة باتت ماسة الآن لمعرفة كيفية سقوط الطائرة الهيلوكبتر التي كانت تقله فقط، ونزول الطائرتين المرافقتين بسلام على ارض مطار البصرة. انني واثق شديد الثقة بأنه ليس هناك وجود لأية عاصفة رملية اسقطت الطائرة، بل ان مؤامرة حيكت بمنتهى السرية للقضاء على عبد السلام عارف..
وان طائرته قد انفجرت وهي تطير في السماء وتلاشت اجزاؤها في الليل البهيم! ماذا نسّمي اذن كل هذه الصورة التي رسمت مصر عبد الناصر من خلالها مستقبل العراق حتى تلك اللحظة التاريخية المريرة.. وسوف لن تهدأ ابدا، فستبقى مصر تعمل من اجل ان يكون العراق منسجما ولا اقول تابعا مع سياسة مصر، وبقيت مصر تحلم بمجيء الناصريين فقط الى حكم العراق، ولكن ذلك لم يتحقق اذ ذهب العراق في طريق آخر.. ويؤكد اولئك الذين احبطوا المحاولة الانقلابية الاخرى لعارف عبد الرزاق على عهد الرئيس عبد الرحمن عارف بأن مصر قد قطعت على العراقيين اي مشروع للحكم المدني اثر مصرع عبد السلام عارف واتت بأخيه عبد الرحمن من اجل ان يغدو الوضع ضعيفا جدا يسهل جدا حدوث اي انقلاب يأتي بعارف عبد الرزاق على رأس الحكم في العراق..
ولدي تفصيلات تاريخية واسرار من المعلومات التي زودني بها بعض الضباط العراقيين القدماء الذين احبطوا الانقلاب الفاشل الاخر لعارف عبد الرزاق ومنهم صديق اسماعيل الذي قبض على عارف عبد الرزاق في مطار الموصل واعتقله وارسله مع جماعته الى بغداد، ولكنني أؤجل الحديث عنها الى حين تبرز معلومات اخرى عن مصر، وهي تحدد دورها الذي استمر بالتدخل في الشئون الداخلية العراقية،.
وربما يقول قائل: واين دور العراقيين انفسهم؟ اقول، نعم لابد من ادانة اولئك الذين اخطأوا كثيرا بحق تاريخ العراق المعاصر.. وقد قال الدكتور عبد الرحمن البزاز عن هذا الموضوع لواحد من اصدقائه رجال القانون في العراق بأن دور عبد الناصر كان كبيرا في احداث العراق، وكانت مصر وراء اقصائي من رئاسة الجمهورية وعن ابعاد العراقيين عن اي حكم مدني. وان عبد الناصر كان يعرف البزاز منذ ان عمل سفيرا للعراق في مصر، واكتشف كفاءته في مباحثات الوحدة العام 1963. ولم يذكر امين هويدي كل ذلك، ففي الوقت الذي كان فيه هويدي سفيرا لمصر في العراق، كان البزاز سفيرا للعراق في مصر، فكيف يأتي هذا السفير وهو من ابرز رجال القانون في العراق كي يشكل حكما مدنيا في العراق؟
وأخيرا:
هل من صفحة جديدة من اجل المستقبل؟ انني عندما احلل بعض الكتابات والتحليلات والمذكرات التي يكتبها بعض الساسة والمحللين والمؤرخين، فليس هناك عندي الا التوصّل الى المزيد من الحقائق بعيدا عن اي تكريس لتوجهات سياسية او ايديولوجية.. وعندما نتكلم عن احداث وادوار وشخوص ووقائع.. فلابد ان نستفيد من تجارب عاشت وانتهت من اجل ان نستفيد منها. وبرغم كل ملاحظاتي النقدية وتعليقاتي فاننا نشيد بمذكرات امين هويدي كثيرا وعلى عواطفه ازاء العراق الذي احبه فعلا من اعماقه واحب اهله وارضه.

ملاحظة : ثمة استشارات مهمة لبعض الوثائق والمعلومات التاريخية الاساسية اعتمدنا عليها في كتابة هذا النقد التاريخي .

( نشرت في البيان الاماراتية ، العدد 168 ، في 22 يناير 2003 )

شاهد أيضاً

على المشرحة.. لا مواربة سياسيّة في الحوار العلمي (الحلقتان الثالثة والرابعة)

ثالثا : الاحرار العرب : مستنيرون لا خونة ! 1/ اخطاء تاريخية وتحريف للتاريخ ويستكمل …