الرئيسية / مؤتمرات / المعلومات والمعرفتاليا وأهمية التكوينات المعاصرة

المعلومات والمعرفتاليا وأهمية التكوينات المعاصرة

مقدمة : أهمية الثورة المعرفية في هذا العصر
لا جدال أبدا في أن ثورة فكرية يمر بها عالم اليوم من اجل بناء ركائز جديدة لتفكير الأجيال القادمة في القرن الواحد والعشرين بعد ان تجاوزت البشرية حدود الحداثة التي عاشتها في القرن العشرين ، كما انها تخطّت حواجز وموانع عدة كانت تتقاطع مع المفاهيم السياسية والأيديولوجية دوما . وبدت العلوم وتحصيل المعرفة حاجة ملحة في تكوين ثقافات الشعوب والمجتمعات الحديثة والمعاصرة على طرفي العالم شرقا وغربا ، وخصوصا المعارف الحديثة التي تعد أرحاما ذكية او غبية للتكوينات المعاصرة اليوم . وان فلسفة هذا ” العصر ” بدا مؤكدا وبشكل لا مواربة فيه انها مستمدة من التاريخ وعلى أيدي ابرز المفكرين والفلاسفة المعاصرين . وخصوصا بعد ان انتهت حقبة الأيديولوجيات عند نهايات القرن العشرين !
ولما كان العرب والمسلمون من أهم شعوب الدنيا المركزيين في هذا العالم ، اي الذين يتبيؤون في قلب العالم ، ولما كان لهم شأنهم ومواريثهم الضخمة في العلوم والمعارف الحضارية ، فلابد ان يكونوا اليوم في مقدمة من يتقّن العلوم والاداب والفنون ، اي يسيطر على المعرفة ويبني من خلالها جملة من الوظائف في تكوين الأجيال القادمة . ولا يمكن أن تنضج اية دراسات وبحوث ومناهج وفلسفات عربية في الشأن المعرفي من دون العناية الأساسية والارتكازية في تدريس العلوم والاداب والفنون وتطوير مجالات التعلم والتعليم من اجل خلق جيل جديد يتمثل فيه الوعي المعرفي بالماضي والحاضر والآتي من اجل هندسة المستقبل والمصير الذي ينتظرنا في عالم يتحرك سريعا جدا بكل منجزاته ومتغيراته واختراقاته ليس السياسية والاقتصادية حسب ، بل الثقافية والإعلامية . ولابد ان يبتعد العرب والمسلمين عن الخيالات والطوباوية والاوهام والخرافات .. وان لا يزج بالماضويات كي يتشبع عقل الانسان وتفكيره بها .. فالعلم نقيض الوهم ، كما هي الواقع نقيض الخيال .
وعليه ، فالحاجة الماسة تدعونا مليا ان نتوقف عند هذا ” الموضوع ” وقفة مطولة ومدروسة ولأكثر من مناسبة ولأكثر من جلسات ورشات عمل نتجاذب فيها الوسائل والأدوات ونتعلم من الطرق والمناهج الحديثة التي تعيننا الى حد كبير في بناء أجيالنا من خلال أجهزتنا التربوية ومؤسساتنا التعليمية العربية حتى يمكننا التوصل الى مجموعة من المرتكزات التي ستخدم بالضرورة مستقبلنا وأجيالنا القادمة بعد العقد الاول من هذا القرن .
اشتراطات تحديث التدريسات التربوية ( المعرفيتاليا نموذجا ) :
لابد من التركيز أولا على جملة من الاشتراطات العملية في مسألة تحديث التدريسات التربوية في التكوينات المعرفية ، وهي :
1. ان المسارات من المألوفات والتقاليد العادية ، يجب ان تذهب من دون رجعة الى حيث التجديد ولكن بعيداً عن التداخل الهائل بين المألوف والمستحدث نظرا للتغير الهائل الحاصل وأساليب معرفته موصلاً إلى تداخل الاتباع والذي يساهم بإيجاد مناهج علمية او طرق دراسية جديدة أو إنشاء حقول جديدة من البحث ، وهذا يمكن ان يحدث في مجالات مختلفة من النتائج المتداخلة المتزايدة. ان المعيار اللغوي (من أفكار وكلمات) مهم بين الأعضاء المختلفين مقتصراً بمجموعات (متعلمة)، والمتخصصون عادة ما يعزلون (يحددون) مشكلة العمل. وعليه ،فان هذه المداخل المتكاملة يجب ان تتداخل مع بعضها لتوضيح الصورة الواسعة لقواعد المجتمعات العربية المتأهلة لكي يبحث ابناؤها فيها مطورين بذلك اساليب تفكيرهم وثقافتهم ( بالتخلص من الافات والانطلاق من ذهنية جديدة الى جانب ما تحتاجه من علوم ومعارف وثقافات اخرى .وعادة ما يستوجب على المنهج الجديد ان يوضح الطريقة لغيره من العلماء او طلبته او تلامذته من الباحثين والدارسين ، وان يكون اكثر دقة لتزويد كل من المجتمع والدولة معا بعناصر الاكتشاف الجديدة وعناصر الاستكشاف المخفية .
2. انني أدعو من هذا المكان جميع السياسات التربوية في البلاد العربية الى اعتبار مادتي ” التاريخ ” و ” الجغرافية ” من المواد الاساسية في تربية وتكوين اجيالنا في جميع المدارس والجامعات ، نظرا لأن كليهما تكونان في الانسان مرجعية الثقافة العامة التي يحملها باعتزاز في مجتمعه وفي العالم اجمع . فليس من المعقول ابدا ان يكون العرب المسلمون هم أول من عرف التدوين التاريخي وخرج على الدنيا بفلسفة التاريخ ، وأول من اهتم بالجغرافية الإنسانية في التاريخ .. ويكون نصيب كل من هذين العلمين القديمين الرائدين كسيحا واعتبارهما من العلوم التربوية المساعدة . علينا ان ندرك كم تعتني بقية المجتمعات المتطورة وحتى التكنولوجية منها بمثل تدريس كل ممن التاريخ والجغرافية !
3. ولكن لابد من ثمة مشترط أساسي ثالث يقول باحداث ثورة فعلية كبرى عربيا بتجديد المهام وتوظيف المناهج الجديدة المعاصرة التي دخلت فيها الحواسيب الالكترونية والصور والخرائط الفضائية .. الخ من مستحدثات العصر ضمن تدريسات كل من التاريخ والجغرافية . ان احداث اية تطورات عملية لابد ان ترافقها اجراءات براغماتية بهدف التحولات ولابد ان تجرى دورات تدريبية لكل القائمين على تدريس العلوم التاريخية يقوم بها علماء ومشرفون واصحاب نظريات حديثة ومناهج .. بحيث يرفدون التفكير السائد لدى مدرسي هذه العلوم بكل جديد في ميادين المناهج سواء على مستوى التدريس ام الدراسة .
4. ان هكذا تحول في التفكير من السائد الى المتحرك ، سيظهر للاجيال القادمة ، ان المشاكل العامة المتعلقة بالوسائل والمناهج يمكنها ان تحل وان تجد لها اتجاهات جديدة يمكننا التنبيه لها ، وخصوصا ، بالنسبة للدراسات المتعلقة بالمجتمعات العربية والإسلامية التي دخلت القرن الحادي والعشرين وهي لم تزل متعبة في علومها وهشة في مناهجها ، ومغتربة في تفكيرها العلمي ، وبعيدة كل البعد عن استخدام آخر التقنيات الجديدة والتلاؤم في فهم الافكار المعاصرة والمستقبلية .
5. ان البدء بالاستخدام المباشر لتحديث المناهج في التفكير والعمل معا .. وبهذه الطريقة المتطورة ومحاولات المعرفة مثلاً في الاتصال بين مختلف المنظومات التخصصية سيساعد لا محالة في غرس تفكير جديد يؤهل الجيل الجديد للعمل ضمن مناهج علمية مستحدثة ترقى الى ان تساهم في رفد المعرفة البشرية ، ويتم الاعتراف بها من قبل العالم كله .
6. بالإضافة إلى ذلك ، وبعيداً عن جهود الدراسات القديمة المقاربة والبحث في التداخل والتقاطع من اجل تكريس الاهتمام بما هو مبدع وجديد وأصيل وتجاهل ما هو تقليدي ومألوف فان ذلك من الضروري توجيه النتائج التي تم الحصول عليها لاغراض التطور في ظاهرة عربية موازية لظواهر علمية متقدمة أخرى فكرياً وجغرافياً واقتصادياً وعلمياً وتكنولوجياً، ذلك لان الاختلاف في تفسير الظواهر ونقدها ، انما يقود إلى فهم اكثر إلى مظاهرها ومسلكياتها. ان هذه الاختلافات الواسعة والمعقدة هي الحارس الأول للعلوم الانسانية والاجتماعية وغيرها من العلوم عربيا من أي تهديد فكري، ثقافي، أو أي رد فعل خارجي ازاء ظاهرة العولمة الجديدة .
مدخلات لفهم المناهج التدريسية الحديثة للعلوم التاريخية المعاصرة :
لقد حاولنا من خلال الاشتراطات السابقة الإيضاح من خلال التنوع للنظرات الفكرية بان مجتمعاتنا العربية والإسلامية المعاصرة ترنو بمختلف توجهات أبنائها التربوية المعرفية ( لا غيرها ) إلى هدف أساسي وهو المواجهة مع مجموع التأثيرات المحيطة بالعالم المعاصر .. وهذا لا يمكن حدوثه الا بوجود عنصر كفوءة وعلى درجة عالية من الكفاءة والمرونة والثقافة العليا والتخصصات الدقيقة .. ان المناداة بتطبيق أية مناهج جديدة تلائم روح هذا العصر لا يمكن إجراؤها الا بواسطة تلك العناصر وتقنياتها ليس فقط لانجاح التطبيقات عشوائيا ، وانما لقياس مخرجات العمل بصناعة مبدعين متميزين .. ولابد لي ان اقدم هنا شيئا مختزلا عن المناهج الحديثة المعاصرة التي تتربى عليها اجيال مجتمعات عدة في العالم ليس لصناعة شهادات عامة ، بل لانتاج عناصر معرفة عالية المستوى :
اولا : منهج الجغرافية التاريخية وأهميته التربوية والتعليمية :
لا ابالغ ان قلت بان هذا ” المنهج ” ان احكم العمل به والسيطرة عليه ، فانه يزيد التفكير ثراء ، ويبني المعرفة الاولية لدى التلاميذ عن العالم في المكان والزمان .. انه منهج منشّط للذاكرة وممتع للمشاعر خصوصا اذا اقترن بالأطالس والخرائط والمصورات والرسومات .. انه منهج يقف في سلم الأولويات في تكوين التعليم الأساسي والثانوي .. ولا يمكن البتة اعتبار دمج الجغرافية بالتاريخ من المواد المساعدة وغير الاساسية . لقد اثبتت التجارب في كل من الولايات المتحدة الأمريكية وكندا واليابان وفرنسا .. وغيرها من البلدان بأن هذا ” المنهج ” بحاجة الى مدرسين من نوع خاص كونه مادة أساسية في التكوين التربوي والتعليمي . ويساعد ليس في اجتياز الدراسة حسب ، بل في تكوين لبنة ثقافية قوية وشخصية معرفية واعدة .
ثانيا : منهج معرفي وتربوي مختزل لفهم تاريخ العالم والبشرية :
مع الاعتزاز بتاريخنا العربي وحضارتنا الاسلامية التي يكرّس لهما كل الجهود من اجل تعزيز الانتماء والهوية والارتباط بالجذور ، الا ان الحاجة باتت ماسة – كما هو الحال – لدى كل شعوب العالم لفهم هذا العالم الذي يحيط بنا ويختلط معنا وينفتح علينا صباح مساء .. انه منهج يسعى لبناء معرفي من خلال فهم جديد للتاريخ الانساني العالمي ، ويركّز فيه على المنجزات البشرية الخلاقة سواء على مستوى الدول العالمية في التاريخ والحضارات البشرية عبر سلاسلها القديمة والوسيطة والحديثة الممتدة من خلال الانعكاس الثنائي في التاريخ بين الشرق والغرب . وستتوضح لا محالة الادوار الكبرى التي اسهمت فيها حضارتنا العربية والاسلامية ازاء البشرية قاطبة . اننا لابد ان نسعى لمعرفة الاخر من خلال فهم جذوره التاريخية .
ثالثا: منهج التحقيب التاريخي وغرس مبادئ تربوية في قيمة الزمن :
بات من المهم جدا اليوم تربية الأجيال الجديدة على التحسس بقيمة الزمن وأهميته التي لا تثمن ابدا من خلال منهج التحقيب التاريخي Historical Periodization وهو المنهج الذي تدعو أليه فئة من العلماء الأمريكيين المحدثين وتقنينه في المناهج التربوية لغرس مبادئ من نوع خاص في وجدان واذهان الجيل الجديد . لقد ظهرت نظريات عديدة في التحقيب التاريخي ويمكن لتربوياتنا العربية ان تسهم من خلال مدرسيها وموجهيها في معالجة هذا ” الجانب ” على نحو تفصيلي في اكثر من ورشة عمل توضح ماهية التحقيب والتعريف به وكيفية تطبيقاته على تواريخ معينة مستعينين بفهم كليات التاريخ بعد اجراء التقسيمات عليه . وفائدته بالنسبة للتلاميذ في المدارس والطلاب في الجامعات : امتلاكهم القدرة الواسعة في تكوين رؤية واسعة وافق مفتوح للبشرية قاطبة عبر تكويناتها التاريخية والوعي بالكلاسيكات التاريخية والوسيطيات المتنوعة ثم العصر الحديث بكل تشكيلاته .
رابعا : المنهج الوظيفي والمنهج البنائي والمنهج الكمي في تدريس التواريخ الاقتصادية والاجتماعية والثقافية :
بعيدا عن التقاليد الميتة التي يجري العمل بها في مدارسنا وجامعاتنا العربية اليوم في تدريس تواريخنا المتنوعة واحالتها الى يباس وموضوعات جامدة يهرب منها الناس ومن درسها والتمتع بها والاستفادة منها وخصوصا بسبب الطرق السردية القاتلة للاحداث السياسية ووصف الشخصيات البطولية وانشائيات المطولات التي لا تفي بالغرض ابدا .. فان ثمة مناهج معاصرة تتبع اليوم في الاجهزة التربوية والمؤسسات التعليمية في العالم ، منها المنهج الكمي في دراسة التواريخ الاقتصادية ويتمرس التلاميذ والطلبة على نماذج عملية من خلال الحواسيب الالكترونية ، كما وان منهجا بنائيا معتمدا في دراسة التواريخ الاجتماعية المحلية والوطنية والاقليمية لفهم المجتمع فهما معمقا يقدم تسهيلات عالية المستوى لحل مشكلاته وحل معضلاته .. كما ان منهجا وظيفيا يتدرب عليه الطلبة في دراسة التاريخ الثقافي والتدرب على معرفة التحولات والانتقالات التي رافقت المجتمع في علاقاته الثقافية والعامة . ولابد من القول ، ان المناهج الثلاثة تسعى جاهدة لخلق متعلم مثقف عالي المستوى في التفكير وربما خلقت عندنا هذه ” المناهج ” جماعات معرفية متميزة ليس في النطاق المحلي والوطني ، بل على المستوى العالمي .
خامسا : من اجل منهج تحديثي مقارن لتدريس تواريخنا الوطنية والعربية والاسلامية :
ان عالمنا العربي المعاصر بشكل عام ودولة الامارات العربية المتحدة بحاجة ماسة وضرورة حقيقية لتجديد وتحديث المواد والمضامين والاشكال والعناصر والاساليب ووسائل الايضاح في تدريس مواد التاريخ . ان المنهج التحديثي يرمي بشكل اساسي الى تغيير في مضامين تدريس تواريخنا المتنوعة . ويقوم هذا ” المنهج ” بشكل اساسي على قاعدة اختزال المعلومات ومقارنتها بامثلة ونماذج من تواريخ شعوب اخرى .. ومعالجة الجزئيات بدل سرد الكليات والمواعظ والنصوص والروايات والقصص .. التي لا اجد حاجة لها الا عند الضرورة القصوى .. اذ لابد ان تحل بدلها أساليب الابتكار والتوثيق والتحليل والتعبير والتضمين والنمذجة والاستبيان والتصوير والسيمافور التاريخي والمقارنات مع الاخرين .. الخ ان تواريخنا الوطنية والعربية والاسلامية بحاجة فعلا الى منهج تحديثي مقارن ومبتكر واصيل يعالج موضوعاتنا بسلاسة ويوظف ماضينا لمعالجة الحاضر وبناء المستقبل وعلى ايدي الجيل الجديد الذي هو بامس الحاجة الى معرفة تواريخه على احسن ما يكون ، ويتربى على كل تكويناتها المتنوعة .
من اجل تكوين معلمين ومربين نشطاء في الحاضر واذكياء في التاريخ :
ثمة مبدأ اساسي يجب ان لا نغفل عنه ابدا ، يقول : بأن ما نزرعه في المدارس والإعدادات والثانويات سنحصده في المعاهد والكليات والجامعات . فمن ينجح في اعداد تلاميذ لامعين وعلى درجة من الخصب المعرفي والتربية القوية فسوف يؤهل جيل كامل للدراسة الذكية في المؤسسات التعليمية العالية ، بل وانه سيخلق منذ البداية الحوافز وسيحفر منذ البداية الاسس ، وسيبني منذ البداية الخلايا .. وكلها ستخلق النخب المتميزة في المجتمع . ان اقسى ما يمكن رؤيته : وجود كتل عريضة من جيل جديد لا تجد من يرشدها ويعلمها ويرعاها لا في المدارس والاجهزة التربوية ولا في الجامعات والمؤسسات العلمية !
السؤال الان : ماذا يحتاج ذاك الذي يعلم ويربي ويكّون في كلا الميدانين ؟
اولا : انه بحاجة ماسة الى تفكير جديد يتقبل فيها اساليب العمل الجديدة في التربية والتعليم بعيدا عن كل هذا الذي ورثناه من القرن العشرين . وعليه ، لابد ان يتزحزح عن كل ابنيته الحجرية الصلدة التي بناها تفكيره منذ عشرات السنين ويريد ظلما وعدوانا توريثها الى ابناء الجيل الجديد. وهذا منتهى الخطأ .
ثانيا : لا يمكن ابدا معالجة او تحليل أي نصوص تاريخية او مواد وروايات قديمة بمعزل عن وسائل الايضاح المتقدمة والابتكارية .. أي بمعنى : ان عليه تحديث اسلوب المحاضرة في العلوم التاريخية من خلال التطبيقات العملية التي يدخل الان فيها الانترنيت والحواسيب الذكية .
ثالثا : الوعي الموسوعي والانسكلوبيدي : على كل من يعمل في حقل تدريس التاريخ تربويا وتعليميا ان يتسلح بوعي موسوعي وانسكلوبيدي يغرسه في نفوس تلاميذه وطلبته .. اذ لا يمكن ان يقرأ التاريخ بمعزل عن العلوم المساعدة والموسوعات والانسكلوبيديات والقواميس والفهارس والادلة .. الخ
رابعا : اختيار اللغة العربية الموزونة والمبسطة بعيدا عن اللغة العربية المقعّرة والمقعّدة والوعظية من طرف .. وبعيدا عن العاميات المبتذلة من طرف آخر . ان عامل اللغة له خطورته على اللسان العربي لدى الناشئة ، وبالتالي سيؤثر على الخطاب الذي سينتجه ذلك الجيل بعد مرور بضعة سنين .
خامسا : المتابعة والقراءات المتنوعة واستمرار التواصل مع لجان التطوير ، فضلا عن الاشتراك في الدورات التأهيلية لتطوير العمل ضمن المناهج ، او لتطوير العملية التربوية والتعليمية والاستفادة من تلك ” الدورات ” استفادة قوية .
سادسا : على مدرسي ومعلمي التاريخ ان يكونوا صريحين وواضحين في إلقاء دروسهم وتربية النشىء الجديد في الافصاح عن كل الخبايا والاسرار.. أي باختصار : على المعلم اظهار التواريخ على حقيقتها من دون أي تزييف ولا تحريف ولا ايهام ولا تزوير ولا تضخيم .. الخ ان مجرد حدوث ذلك – لا سمح الله – سيخلق جيلا مشوها .
واخيرا :
لابد ان أؤكد للسادة المنتدين الافاضل في هذه الندوة المباركة إلى عدة من المطالب التي اتمنى تحقيقها من اجل رفد العملية التربوية والتعليمية وتطويرها الى احسن ما هي عليه الان في الامارات العربية المتحدة دولة ومحتمعا :
1. استمرار عقد حلقات عملية وورش عمل ودورات تدريبية لكل الاجهزة والكوادر التي تضطلع بمهام تدريس العلوم الاجتماعية وخصوصا التاريخ .. من اجل متابعة التطورات والتحديثات في البرامج والخطط التدريسية .
2. تطبيق المشروعات التربوية والتوجيهية الجديدة التي يمكن ان يرفدها علماء مختصون .. وهي بالضرورة مشروعات تسبق المشروعات العلمية والبحثية . وانني اؤكد في هذا الباب ومن خلال اكثر من تجربة متواضعة لي في البعض من الاماكن في العالم ، بأن سر نجاح المشروعات العلمية والبحثية والاستراتيجية في أي مجتمع متقدم انما يتمثل بما يسبقه من مشروعات ناجحة تربوية وتوجيهية تكفل خلق اناس متميزين .
3. اما بالنسبة لتدريس التاريخ ، فارجو العناية به لدرجة ما فوق العادة بسبب اهمية كل ” الموضوع ” في بناء معرفة وغزارة معلومات وقوة ثقافة .. ناهيكم عن ربط تفكير هذا الجيل والاجيال القادمة بماضيهم التليد كي يكون ذلك بمثابة جرعات مضادة لكل عوامل الاختراق والعولمة الجديدة .
4. لابد ان يتسلح المعلم والمدرس والاستاذ باللغة الانكليزية الى جانب اللغة الام . ان ذلك سيطلقه للتعرف على تواريخ وعوالم ومعارف متنوعة يمكنه من خلالها ان يفيد بها تلاميذه وطلبته .
5. واخيرا ، اتمنى ان تشكل هذه ” المبادرة ” تقليدا سنويا لمتابعة شؤون تطوير العملية التربوية والتعليمية في كافة المدارس العربية .. وان تتلاقح معها كل عام جملة من الافكار الجديدة والأمثلة والنماذج المستحدثة .
مدخل : مفاهيم التعليم الحر
جاء في خطاب بيل موراي ، الاستشاري الاول وكبير محللي أمن المعلومات دعوته الصريحة والقوية لتأسيس منهج يضع مبادىء راسخة لمواكبة التقنيات المتقدمة في التعليم الحر ابان هذه المرحلة التاريخية الجديدة من عمر البشرية . وهو منهج يعلم الطلبة في الجامعات كيفيات التجديد في المعاني والاشياء . وان التعليم الحر سيختلف في مفاهيمه ومنهجه وطبيعته وممارساته وتطبيقاته عن الآليات والوسائل المعروفة والمألوفة في التعليم المقنن . وسيبدو ذلك واضحا في نوعية الخريجين الذين تبرزهم العملية التعليمية الحرة عن ركامات الخريجين الاخرين الذين تلفظهم كل سنة دراسية الكليات والمعاهد التي تتبع التعليم المقنن والتقليدي .
وهنا ، سيكمن هدف العمليات التعليمية الحرة الجديدة من خلال مخرجاتها التي ستثري حياة الجماعات والمجتمعات بانواع جديدة من الخريجين المثقفين المبدعين الذين لا ينتظرون من الدول والحكومات الاعانات والمنح كونهم عالة عليها ، كما يحدث اليوم في خريجي المعاهد والجامعات التي يغدو خريجوها العاديين عبئا على السوق ، وسيكون الفرق واضحا جدا بين رصيد الخريجين المبدعين من المثقفين الحقيقيين وبين عبء ركام الخريجين التقليديين من الخاوين العاطلين ، وخصوصا في العلوم الانسانية والاجتماعية والتربوية والقانونية .. علما بأن الحاجة اليوم باتت ماسة للمجتمعات الحية والدول التي تسعى للتغير والتطور بأي مجال ، باتت ماسة وأكيدة لمهارات الخريجين المثقفين من مخرجات الكليات الانسانية والاجتماعية ، وبشكل خاص في مجتمعات تمتلك تواريخا حافلة ومواريثا عريقة وتقاليد اجتماعية اصيلة .. وفي دول تزخر بالانشطة السكانية الفعالة والقوى الحيوية .. وتتمتع بمكانة بيئية وجغرافية مهمة في العالم الذي انكمش على نفسه يوما بعد آخر بفضل ظاهرة العولمة واختلف عما كان مألوفا في القرن العشرين بشكل لا يصدق !
للعلوم الانسانية والاجتماعية في ايامنا هذه دور مهم وخطير في تكوين الاجيال الحية على امتداد القرن الواحد والعشرين ، وحسب ما ينشر اليوم عند بداياته في أكثر من مكان متقدم من العالم ، وخصوصا في الولايات المتحدة الامريكية الى حد كبير ، وفي كل من اليابان وبريطانيا وكندا أيضا .. وما يوجهه عدد من المستشارين والخبراء والمحللين من مفاهيم حول امن المعلومات في زمن ثورة المعلومات في بناء مناهج جديدة لمستقبل المعرفة في العالم ، فان المطالبة بتأسيس منهج عملي حر لذلك ، انما يرسّخ جملة مبادىء قوية جدا لمواكبة التقنيات المتقدمة ، وخصوصا من خلال وسائل الاتصالات والانترنيت والدوائر التلفزيونية المنفتحة وليست المغلقة بشكل خاص . ان ارساء هذا ” المنهج ” سيطّور العلوم الانسانية والاجتماعية لأنها الحجر الاساس الذي تعتمد عليه ثقافة أي مجتمع ، وخصوصا عندما يتعلم طلبتنا وطالباتنا في المعاهد والجامعات : كيفية تحقيق حياة مثلى ذات معنى بامتلاكهم تفكير جديد ، وتمكنهم من ثقافة موسوعية او متخصصة ، وسيطرتهم على مهاراتهم من اجل توظيفها .. بدلا من مجرد السعي للحصول على عمل أو مهنة في السوق الحالية من خلال تعويلهم على الدولة في توفير فرص العمل ، وهذا ما أضر بالمخرجات التعليمية اولا ، وأضر بكل من الدولة والمجتمع ثانيا .
وعليه ، فان هذا ” الموضوع” يتأمل فيه الان عدد من المختصين والمفكرين والمسؤولين خصوصا وانهم باتوا يطمحون للتغيير من اجل تحسين نوعية الخريجين من الجامعات وليس الوقوف فقط عند ركام اعدادهم وخصوصا في العلوم الانساينة والاجتماعية . ان الاقبال على دراسة العلوم الانسانية والاجتماعية سواء التاريخ والفلسفة والاجتماع والاعلام والجغرافية واللغات .. الخ تتطلب اناسا يتمتعون بقدرة عالية على اكتساب الثقافة وتطويرها ، وبالتالي تطوير ثقافة مجتمعاتهم من خلال مكتسباتهم الجامعية . وهنا يقترح البعض على أن يكون تعليم هذه العلوم التي لا تحتاج الى مختبرات ولا الى تطبيقات ميدانية حقيقية .. يحتاجون الى التعليم الحر بكل متطلباته وهو بذلك يختلف عن التعليم المقنن . لماذا ؟
لأن التعليم الحر هنا بطبيعة الحال ، سيفتح المجال واسعا على رحابته لاعداد مهمة من ابناء المجتمع تسعى للحصول على ثقافة وليس على مهنة ، وتسعى لامتلاك الاداة والمهارة وليس على مجر قصاصة ورق اسمها ” شهادة جامعية ” .. وتسعى للحصول على تفكير براغماتي مهاراتي وليس على افكار تجريدية ونظرية من المألوفات التقليدية التي تزود في القاعات ضمن قوالب ميتة لا حياة فيها !!! الغاية هنا ان يدرك الناس انهم جزء من ثقافة أصيلة لها ماض عريق ، وسيكون لها مستقبل . وهكذا ، فان المطالبة بمثقفين حقيقيين من اجل تكوين نخب فاعلة في المجتمع لا يمكن ان يكون الا من خلال العلوم الانسانية والاجتماعية .. ويؤكد كل اصحاب الدراسات المتقدمة اليوم ( المعروضة اعمالهم على شبكة المعلومات الدولية – الانترنيت – ) بأن هذه العلوم الانسانية والاجتماعية طالما عاشت وتطورت على ايدي ابناء أي مجتمع ، فانها ستعيش وتغني ذلك المجتمع بما ترفده من حالات التطور لثقافته وستقف معه في السراء والضراء .
المطالبة أيضا عند بدايات القرن العشرين ، وفي برامج مختلفة ببناء نخب فكرية ومثقفة ثقافة حقيقية ، تقرأ ما يكفي من علوم التاريخ والانسانيات والاجتماعيات بحيث يصبح بمقدورها ، اختيار اتجاه المستقبل الذي تريده وتطمح للوصول اليه ، خصوصا وانها تمتلك القوة الكافية ليس للتأثير على ذلك المستقبل ، وانما المساهمة في صنعه ، وهكذا بالنسبة للجغرافية : ادراك متبادل بين الانسان والارض ، أي بين ابناء أي مجتمع وبيئتهم ، علما يحسون بأنهم ليسوا وحدهم على هذه الارض .. وصولا الى ادراك الحقائق والتفكير نقديا للوصول الى حقائق الامور . وان الحقيقة لا يعلى عليها ، وانها اذا امتلكت ، فستصبح قيمة جمالية في المجتمع ، وقوة حماية له ، وهو المجتمع الذي سوف لا يستطيع أي أحد أن يضلله ولا يخذله او يضحك عليه كما كان يجري في القرن العشرين الذي كان مزدحما بمحترفي الايديولوجيات والكذب والدجل والشعوذة والغوغائية والتدليس والشعارات الميكافيلية والالتباسات .. الخ ثم المطالبة أيضا بجيل جديد يحاول أن يبدع في الادب والموسيقى والفنون التشكيلية ، أي يقدم جماليات المكان وروعة البنية وحلاوة التراث وخصب الفولكلوريات وزهو الالبسة وانتعاش الالوان .. والاستمتاع بذلك كله ! ويختتم بيل موراي خطابه التأسيسي في دعوته الجديدة للتعليم الحر ، بقوله : ” أريد أناسا يقدرون معجزة الحياة وعجائب الحضارة . أريد أناسا لديهم المعرفة والرؤية والحرية والحكمة لبناء المستقبل الذي يريدونه بدلا من ان يكونوا ضحايا للمستقبل الذي تختاره لهم السلطات . أناسا مؤهلون للمشاركة في حكوماتهم . أريد أناسا يفهمون قيمة العمل ويذوقون حلاوة العمل الذي ينجزونه ولكن عندما ينتهي يوم العمل ، يكونون قادرين أيضا على رواية القصص بحثا عن المغامرة والجمال والحقيقة . أناسا عندما يضعون أدواتهم أرضا لآخر مرة ، يستطيعون النظر الى ثمار عملهم وجهدهم قائلين ” ما أروعها ” ” .
بعد هذا كله ، يمكننا أن ننتقل للتفكير بتأسيس مشروع منهجي في العلوم الانسانية والاجتماعية ، وسيكون الاول من نوعه عربيا عندما تتبناه جامعة الامارات العربية المتحدة ، وضمن المبادىء التي قدمناها في اعلاه ، فماذا سيتضمن هذا ” المشروع ” ؟ وماذا يمكننا ان نضمنه منه في المستقبل ؟
مضامين أطروحات التعليم الحر :
هناك عدة طروحات ضمن برامج عديدة في العالم اليوم ، يتقدم أحدها على الاخر وبرعاية بعض من المختصين والاساتذة الجامعيين . لقد حرر موراي نلسن عملا ممتازا له بعنوان ” مستقبل العلوم الاجتماعية ” ضمنه 12 مقالا لأبرز العلماء بهدف اختبار الدور الذي يمكن أن تضطلع به العلوم الانسانية والاجتماعية مقارنة بما كانت عليه في القرن العشرين ، وما يمكن أن تكون عليه في القرن الحالي ، اذ تشير خلاصات العمل واستنتاجاته بعد معالجة المشاكل في العلوم الاجتماعية وكيفية السيطرة عليها ومعالجتها ، وان هذه ” العلوم ” ستغدو من اهم ما يمكن للمجتمع أن يعتز به ، لأنها أصبحت ميراثا متجددا لأي امة حية ، وانها الوحيدة التي باستطاعتها ان تحفظ أي مجتمع وأي امة تراثهما ، وتساهم في تطويره ازاء هجمة العلوم التقنية والحاسوبية .. ثم ينتقل في ورقة اخرى من العمل الى حالة الدفاع عن الاساليب الحرة ومنهج التعليم الحر في الحفاظ على التركيبة الاساسية للعلوم الانسانية والاجتماعية . وثمة مطالبة بالتفكير النقدي في التعامل مع هذه العلوم والخروج عن مألوفات التفكير المقنن ، خصوصا عندما يتدرب الطلبة في الجامعات على نقد الاشياء وليس مجرد قبولها ، واستسهال التعلق بها والايمان المطلق بمحتوياتها .. بمعنى ان الطلبة لا يمكن ان يقبلوا أي شيىء .. وان كل ما يسمعونه ينبغي ان يفكروا فيه نقديا .. ثم تبلورت في العمل عدة افكار حول مستقبل النوعية التي يمكن ان يتخرج فيها طلبة العلوم الانسانية والاجتماعية ، ودورهم في الحفاظ على ثقافة المجتمع حتى وان لم يمارسوا دورا مهنيا .. فلابد من الفصل بين الدور المهني والدور الثقافي ، ذلك لأن المستقبل يتطلب من المجتمع أن تسوده عدة أطياف من اولئك الذين ليسوا يحركونه فقط تقنيا ، وانما يحركونه ثقافيا .. وان صناعة المستقبل رهينة ليس فقط بما هو موجود من مناهج عادية وتقليدية موروثة ، انما لابد وان تكون هناك مناهج تعليمية وتربوية حرة . وهذا ينقلنا الى التفكير باتجاهات التعليم الحالية وكيفية تطويرها من خلال التعليم الحر ، بحيث تتسق مع الاساليب المستحدثة اليوم في العالم ، خصوصا عندما نعلم بأن تلك الاساليب أصبحت جزءا لا يتجزأ من العولمة .
ان التعليم حتى في العلوم الانسانية والاجتماعية يمكن أن يستفاد من آخر ما توصّل اليه العصر من خلال الاتصال بين الجامعات ، واستخدام الدوائر التلفزيونية ليس المنغلقة وانما المنفتحة .. ويقصد بها : عملية الاتصالات التلفزيونية المنفتحة بين الجامعات عبر دوائر مركزة وممنهجة ومواعيد دقيقة .. فيسمع المحاضرة ويشاهد تطبيقاتها اولئك الطلبة المنتمين لمنهاج التعليم الحر ، فضلا عن الاشراف العلمي الحر حتى لو كان من وراء البحار من خلال اقنية الاتصالات المباشرة عبر الانترنيت .. ناهيكم عن الوسائل الجديدة في العلوم الانسانية والاجتماعية بالاعتماد على اخر ما ينتجه العصر من معلومات وادبيات وموسوعات .. بعيدا جدا عن أي ترسبات كان قد خلفها القرن العشرون ومناهجه التي غدت اليوم بدائية جدا ازاء مفاتيح القرن الحادي والعشرين . وهذا ما ينطبق على البحوث ايضا باستلهام المناهج الجديدة التي يعمل بها اليوم في كل العلوم والاداب والفنون .. من اجل احداث تغييرات نوعية فعالة فيما ينتج اليوم عربيا مع الاسف الشديد . وتبقى هناك أكثر من مسألة يمكنها ان تعالج بمنتهى الحرية في المجتمعات الاخرى في العالم ، وخصوصا الغربية منها ، ولكنها تبقى معالجاتها عويصة في التعليم الحر عندنا نحن العرب والمسلمين ، ويقصد بها تلك التي تتعلق ببعض المسائل الاجتماعية والعائلية والجنسية ، أو ببعض المشكلات الاقلياتية والطائفية والسياسية .. اذ لابد من البحث عن حلول من طرف العرب والمسلمين ، لأنها غير متواجدة اصلا في ذاكرة غيرنا من الشعوب .. وأقصد بالحلول والاجراءات ما يخص طلبتنا وهم في طور التعليم الحر الذي يمكنهم من التدقيق في كل التفاصيل المتاحة عنده بسهولة .
ولكن ؟
لابد من اثراء هذا ” الموضوع ” من اجل تأسيس مشروع عربي للتعليم الحر ، ليس فقط لحماية المجتمع الذي ينمو فيه ، وانما لتطوير المجتمع الذي يتبناه ، ذلك لأن هذا التعليم يبني قاعدة واسعة وقوية من الاسئلة التي يفرضها خريجو هذه العلوم على مجتمعهم ، كونهم ليسوا مهنيين روتينيين في دوائرهم بين الجدران المغلقة ، وانما مثقفين معلوماتيين في فضاءاتهم المعولمة . وعليه ، فان ثمة آراء أخرى نشرت مؤخرا ايضا من قبل جماعة ذكية من المختصين ، منهم : كارولين هيوغ وجيم كيم ودكسون هاونغ في دراسات لهم ، متضمنة عدة أفكار لمشروع تطوير التعليم الحر للعلوم الانسانية والاجتماعية ، ولكن فكرتهم التي ضمنوها استنتاجاتهم التي خرجت بها دراستهم من وجوب احداث ادماج حقيقي للمعرفة في أي مجتمع ، فلا يمكن أن يتطور ابناء العلوم الانسانية والاجتماعية ان لم يكونوا بارعين في استخدام التقنيات الحديثة والعلوم الحديثة ، أي جعلهم جزء لا يتجزأ من ثورة المعلومات كي يسيطروا على مناهج التعليم الحر . ان هذا الادماج لا يتم ابدا في قاعات المحاضرات المألوفة منذ قرون ، يستمعون ويكتبون ويناقشون .. لا أبدا ! هذا ليس تعليما حرا تمارس فيه الحركة واللقطة والاتصال وشاشة الكومبيوتر وتراكيب البرامج ومساحة المعلومات ..
ان دراسة معمقة للمناهج التدريسية التي تتبعها جامعة جيمس ماديسون مثلا ، تكفي لمعرفة ما يتم عبر اصنافها من منتجات حتى في العلوم الانسانية والاجتماعية ، وتعتني ابرز تلك المناهج بمعلومات المدخلات ، ثم المضامين والتطورات ومنها البرامج المتقدمة والانظمة الذكية وانظمة المعلومات والميديا الشاملة وانظمة العمليات والحسابات الجدولية والكمية والمنظمات والمعاملات والسبوتنيك وتكنولوجيا المعلومات .. الخ
ان حاجة طلبة العلوم الانسانية لابد ان يخرجوا من قاعاتهم ليس ليذهبوا الى الهواء الطلق ، بل لكي يدخلوا فضاءات العالم في مختبرات الانترنيت يوميا ، ويكونوا متفاعلين مع عملهم واجهزتهم بواسطة كورسات تخصصية في الكومبيوتر وبرامجه ويتعاملوا معها تعاملا تخصصيا . وعليه ، فلابد لطلبة التعليم الحر في العلوم الانسانية والاجتماعية ان يتخصصوا في التقنيات الحديثة كما لوكانوا طلبة علوم حاسوب . وهذا ليس من الصعوبة بمكان تحصيله على طلبة العلوم الانسانية والاجتماعية ، لأن هذا التخصص المهاراتي سيفتح عليهم عالما واسعا جدا من المعلومات ، وهنا لا يكتفوا بما هو ثابت في ارشيف المكتبات ، بل ليطوروا ما هو متحرك في برامج المعلومات . ، أي ينتقلوا من جدران القرن العشرين الى فضاءات القرن الحادي والعشرين .
دور الجامعات والكليات في تأسيس التعليم الحر :
في الحقيقة ، تقوم بعض الجامعات اليوم باستخدام أمثل لشبكة المعلومات الدولية ( = الانترنيت ) لاغراض محلية وعولمية معا ، ففي جامعة واشنطن في سياتل بالولايات المتحدة الامريكية ، تسجل خطط الدروس ومناهج التعليم كاملة ، فضلا عن الواجبات والعمليات واسئلة الاختبارات لبعض فصول الدراسة على شبكة الويب . كذلك غالبا ما يتم نشر مذكرات المحاضرات على الويب أيضا ، وهي خدمة مجانية يتمنى الجيل السابق لو كانت مثل هذه الخدمات الرائعة قد توافرت على ايام دراستهم الجامعية . ولم يقتصر الامر محليا على ما تبثه الجامعة عبر شبكة الويب ، بل يتجاوز الطلبة محاضراتهم ومذكراتهم وكل الاسئلة والخطط والمناهج .. لكي يسبحوا في بحر هائل من المعلومات المتوفرة في غرفهم السكنية عبر اجهزتهم الخاصة او في مختبراتهم الحاسوبية بالجامعة .. بل ويمكنهم ان يمتلكوا العالم كله وهم مسمرين امام شاشات اجهزتهم .. ان ممارستهم للتعليم الحر ، اصبح بمثابة التحدي لهم ، فهم في سباق مع الكومبيوتر ليس من اجل قهره والسيطرة عليه ، بل اجل الاستفادة منه باقصى ما يمكن من القوة .
هنا يأتي دور المعاهد والجامعات في تطوير العلوم الانسانية والاجتماعية تطويرا عمليا خلاقا ، فلقد أكد جيم فوتروبو قائلا بأن بعض الجامعات المرموقة بدأت بالتحول من التعليم المقنن الى التعليم الحر ، ولكن ليس كل الجامعات ، بغية اعادة التفكير في بناء العقليات الجديدة ، تلك العقليات التي لم تعد تطمح لكسب وظيفة او الاكتفاء بمهنة للعيش ليس من ثروة لصاحبها الا ورقة شهادته الجامعية ، بل انها عقليات تطمح لبناء معرفة من نوع ما في عصر جديد كل شيىء فيه جديد ! والمقارنة واضحة لأن ما يحدث اليوم في العلم لم يعد كما كان في القرن العشرين . ان المجتمعات المعاصرة باتت اليوم بحاجة ماسة الى تقنيين مهاراتيين ، وربما تحتاج الى رجال اعمال مسرعين .. ورجال تخطيط مبدعين وايضا الى رجال خدمات ومدققين .. ولكنها ستبقى بحاجة ماسة الى مثقفين حقيقيين غير مزيفين واعلاميين اذكياء لا الى كتبة ببغاويين .. والى طواقم من مختصين واقعيين ونقاد ومفكرين نخبويين نشيطين لا الى تنابلة من المقلدين طوباويين .. الخ
اذن ، لم تعد الشهادة التي يحصل عليها المتخرج العادي كفيلة بأن تجعله في قلب العصر . فالهدف اليوم اكبر من ذلك بكثير في الحياة . ان الهدف يكمن اساسا بكيفية او بمقدور هذا المتخرج من معاملات العلوم الانسانية والاجتماعية ان يتعامل حقيقة مع العالم كله في المستقبل ! من خلال ادبيات الثقافة الشاملة والتي وصفتها جانيل ب. ماثيس بأنها : المرآة والشباك للتجربة . وان تلك التجربة كفيلة بخلق النظرة المجهرية للامور في صناعة المستقبل على ايدي اناس جدد سيفهمون مجتمعهم اكثر من اسلافهم ، وسيعملون على تطويره ضمن مؤهلاتهم وقيمهم واوضاعهم وبكل جرأة وبعد نظر .
وعليه ، لابد ان تتزحزح المناهج القديمة للتعليم المقنن عن جملة ثوابتها ومألوفاتها ، وسيرحل في غضون عشر سنوات لا اكثر اولئك الذين تبلدوا في مألوفات القرن العشرين ، وعليه ، فثمة شرطين اساسيين يتمثلان بـ :
1/ لابد ان يحل بدلهم جيل جديد يختلف عنهم اختلافا جذريا وذلك من خلال تكوين علمي حر وفعال مع كل وسائل العصر الجديد .
2/ لابد من تأسيس مراكز تعليم او رشات عمل جديدة الى جانب الاقسام العلمية في كليات العلوم الانسانية والاجتماعية ترعى هذا الشأن لتحقيق الشرط الاول .
ان حصيلة ما ستنتجه العملية التعليمية الجديدة بقبول طلبة وطالبات على أساسه ، كفيلة بالتغيير المنشود . وهذا ما تسعى اليه اغلب الانظمة التعليمية في العالم ، ولابد ان يكون نحن العرب لنا نصيب حقيقي وفعال في المشاركة والتطبيق لكي نؤكد ليس بسبقنا في هذا الباب ، بل لسعينا من اجل التغيير ، وخصوصا في العلوم الانسانية والاجتماعية بالدرجة الاساس ، ويمكن ان تستفيد العلوم التربوية والقانونية والاقتصادية والادارية هي الاخرى من هكذا مشروع لو طبق تطبيقا حسنا .
ان تأسيس هكذا ” مشروع ” في كلية العلوم الانسانية والاجتماعية بجامعة الامارات العربية المتحدة ، سيكون عملا عربيا سباقا يلاحق التطور الذي وصلت اليه العلوم الانسانية والاجتماعية في العالم . وحبذا ، لو انبثقت اولويات المشروع من خلال ورشة خاصة او مركز خاص للتعليم الحر ينخرط فيه مجموعة من الطلبة والطالبات الذين يمكن ان يتم انتقاؤهم ، ويستفيد المنخرطون في المشروع استفادة حيوية وخصبة من مناهج خاصة في التعليم الحر ، ورفد المجتمع الاماراتي بهم ، شريطة توفر الابداع فيهم ، وسيكون هؤلاء بالنتيجة التي لا يختلف فيها اثنان : متحسسين لقيمة العلوم الانسانية والاجتماعية عربيا وعولميا ، وسيدركوا قيمة الزمن المعاصر من خلال السيطرة المهاراتية على تقنياته ، وسيساهموا بالضرورة في تطوير ثقافة المجتمع ، بل اعتقد ان صفوة ذكية ومثقفة سيرفد بها المجتمع وهم يحملون درجة نوعية في العلوم الانسانية والاجتماعية ، بتميزهم عن الاخرين وعنوان تميزهم سيظهر في دقتهم في المعارف والتفكير والمهارة .. وسيكون منهم نخبة من المبدعين الذين باستطاعتهم تقديم الاشياء والمعاني الجديدة .. بل وستنمو على ايديهم فئات ونخب جديدة من المبدعين القادرين على صناعة اطياف المستقبل . ونقصد – هنا – بالاطياف المستقبلية : الاشياء والرموز والمعاني والجماليات والاراء .. المنوعة والمتعددة التي ستتكاثر على ايدي الفوريومات ( = التجمعات ) الجديدة من النخب المثقفة عند العرب ، واذا ما نجح هكذا مشروع مستقبلي عربيا ، فسيكون لذلك شأن كبير ، ذلك لأن العرب بالذات في هذه المنطقة المركزية من العالم يمتلكون تاريخا ثرا لم يوظف علميا ومعرفيا ونقديا حتى يومنا هذا ، فضلا عن تراث غني جدا بالقيم الروحية والمعنوية العليا في الحياة .
استخلاصات واستنتاجات :
اذن ، لابد من آليات عمل جديدة والتفكير بمنهج عملي لتأسيس هكذا مشروع للتعليم الحر في جامعة الامارات العربية تختص به العلوم الانسانية والاجتماعية .. ومن ثم وضع خطة تأسيسية على مستوى القبول ، ثم على مستوى تفعيل المنهج شريطة ان تكون الخطة والمنهج والاليات جديدة بالكامل ولا تمت لما جرى به العمل به في القرن العشرين . وان تبدأ التجربة متلائمة مع ما هو مطروح في الجامعات المتقدمة في العالم اليوم ، ثم قياس نتائج مخرجات هذه العمليات في التعليم الحر التي يتبناها هذا ” المشروع ” الحيوي والمستقبلي .
انني أتأمل نجاح ذلك مع بدايات القرن الحادي والعشرين ، وخصوصا في العقد التأسيسي فيه .. كما وأتأمل كل النجاح والتوفيق اذا ما طبقت لوائح الخطط الجديدة والمناهج المقررة ضمن فلسفة المشروع التي شرحنا مضامينها آنفا ، وان منتجات العمل ستثري حياة المجتمع الاماراتي كثيرا بنوعية عالية المستوى من صفوة الخريجين المثقفين والخريجات المثقفات ، وهم جميعا يحملون خطابا جديدا يستطيع ان يغير من نظرة المجتمع والدولة معا لخريجي العلوم الانسانية والاجتماعية ، ويغدو هؤلاء الشباب والشابات من افضل نخب العالم العربي قاطبة في جيل جديد سيبدأ حياته العملية في الميادين كافة بعد عام 2009م .
صفوة ذكية وبراغماتية مهاراتية مثقفة تمتلك ثروة من التجارب والخبرات والرؤى والبراعة واللغة في ابداعاتها المتنوعة ، استحصلتها في دراستها المكثفة والعملية والمختزلة في تكوين الثقافة الحرة . كما تتأمل كارولين بانوفسكي في افكارها المتميزة التي نشرتها عام 1999 ، قائلة : ” ان الثقافة العلمية في الانسانيات والعلوم الاجتماعية مستقبلا ، بحاجة الى تفكير نقدي لابد ان يمارسه الطلبة الجامعيين ويعتادوا في تعليمهم الحر على السؤال المباشر والحوار المباشر ، وان لا يستسلموا للافكار الجاهزة والمحنطة والمغلقة مهما كانت درجتها .. وعليهم ان يعاملوها من خلال العقل والتجربة ويقارنوها نظريا ويخضعونها للتطبيق ويقترحوا الاراء الجديدة والمشروعات الجديدة .. ربما يتجاوزوا منطق القرن العشرين من خلال استخدام الاقراص المكتنزة وشبكة المعلومات وسيساعدهم ذلك حقا في بناء ثقافة ليست محلية ووطنية حسب ، بل عن البشرية قاطبة اذ سيصبحوا اعضاء فاعلين في المجالات ذات الشأن العام ” .


استشارات :
– Bill Gates with Peter Nathan Myhvold, The Road Ahead ( London & New York: The Penguin Group, 1995).
– Hoffman, Diane M., ” Culture and Comparative Education: Toward Decentering and Recentering the Discourse”, Comparative Education Review, v 43, n4, pp. 464-88, Nov. 1999.
-Hughees, Carolyn, Kim, Jin-Ho and Hwang, Bogseon, ” Assessing Social Integration in Employment Settings: Current Knowledge and Future Directions”, American Journal on Mental Retardation, v103, n2, pp. 173-85, 1998.
– Levin, Bernard H., ” Social Change, the Future of the Community College, and the Future of Community College Research”, Paper presented at the Annual Meeting of the Southeastern Association for Community College Research ( New Orleans, LA, August 1-4, 1999)
– Mathis, Janelle B., ” Multicultural Literature: Mirror and Window on Experience”, Social Studies and the Young Learner, vii, n3, pp. 27-30, Jan.-Feb. 1999.
– Nelson, Murry R., Ed., ” The Future of the Social Studies”, (This document is available from the ERIC Document Reproduction Service).
-Panofsky, Carolyn P., ” Critical Thinking as Cultural-Historical Practice”, Educational Foundations, v13, n3,pp. 41-53, Sum 1999.
– Votruba, James C., ” The University’s Social Covenant: A Vision for the Future”, Adult Learning , v7, n3, pp. 28-9, Jan-Feb. 1999.
– Wallat, Cynthia, Steele, Carolyn ” Facing the Consequences: Identifying the Limitations of How We Categorize People in Research and Policy”, Education Policy Analysis Archives, v7, n21, 1999. –Ward, Thomas G., “The Humanities and Social Studies: Partners for the Future”, NASSP Bulletin, v75,n531, pp. 62-66, Jan. 1991.

شاهد أيضاً

دعوة الى المثقفين العراقيين في كندا

دعوة الى المثقفين العراقيين في كندا يسرّنا جدا دعوتكم الى الحضور والمشاركة في الاجتماع التأسيسي …