الرئيسية / مؤتمرات / عربيتنا عند فاتحة القرن الحادي والعشرين : من أجل استراتيجية تفكير لغوي عربي مبدع*

عربيتنا عند فاتحة القرن الحادي والعشرين : من أجل استراتيجية تفكير لغوي عربي مبدع*

” ولعمري ان العيون لتخطىء ، وان الحواس لتكذب ، وما الحكم القاطع الا للذهن ، وما الاستبانة الصحيحة الا للعقل”
الجاحظ في ” التربيع والتدوير ”

استهلال :
دائما ما يكون محل جلوسي في جلسات مؤتمرات وندوات مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت بين صديقين مفكرين اثنين أحدهما يجلس على شمالي هو رضوان السيد ، وثانيهما يجلس على يميني هو سمير أمين لكي أتوسطهما اسمعهما تعليقاتي اللاذعة على ما نسمع ، كما وأتمتع بتعليقاتهما الذكية على ما يستخدمه البعض من المؤتمرين من أدوات لغوية أو صياغات ركيكة 00 يلتفت الأول نحوي ويسخر من صياغة بعض المفكرين والاساتذة الجامعيين العرب أفكارهم بعامياتهم التي ليس باستطاعتهم التخلص منها ! وبعد وهلة ، يوشوش الثاني في أذني انتقادا لاذعا لاخرين من مشاركين محاضرين ومتدخلين لا دراية لهم بمعاني المصطلحات وهم ابعد الناس في فهم الأفكار والمناهج والفلسفات ! وكثيرا ما نسمع تعليقات ذكية من لدن بعض علمائنا ومختصينا على ما يستخدمه البعض من المثقفين والجامعيين والمؤتمرين والاعلاميين العرب المحدثين من أدوات لغوية خاطئة أو صياغات تعبيرية ركيكة ! ويسخر قوم من المفكرين والمهتمين من صياغة بعض الكتّاب والاساتذة الجامعيين العرب لتعابيرهم السمجة ولغتهم البليدة ! وهناك انتقادات لاذعة عن اخرين من مشاركين محاضرين ومتدخلين وممتحنين وغيرهم لا دراية لهم بجمالية اللغة العربية وآدابها ، فثقافتهم تكاد تكون منعدمة في هذا الباب او ذاك ! ان اللغة العربية – كما نعلم – ” كائن حي ” على حد توصيف جرجي زيدان في كتاب له يحمل هذا العنوان . وانها – أيضا – : ” اللغة الشاعرة ” على حد توصيف عباس محمود العقاد في كتاب له يحمل هذا العنوان ، وهناك أوصاف وأقوال وأشعار اخرى كرّست بحق لغتنا العربية التي تعد من أعرق لغات البشرية قاطبة .. وعندما نعلم بأن القرن العشرين قد مر وفات علينا نحن العرب بجملة ركاماته من المعاني والاشياء وبجملة تطوراته في العلوم والفنون والتكنولوجيا والمستحدثات .. فان حركة اللغة العربية برغم كل ما نتج عنها فيه ، فانها بقيت بطيئة جدا في ملاحقة حياة العصر وتطوره ، علما بأنها الاداة الحقيقية والوسيلة الحيوية لتطور الامة وابداعاتها جمعاء في كل المجالات .
الركيزة الاساسية :
لقد دعاني هذا الاستهلال إلى القول انه لما كان كل شيء يتغير سريعا جدا في هذا العصر ومنه ثقافات الشعوب في ظل الآليات والوسائل الجديدة .. ولما كانت “اللغة” أحد ابرز الركائز الأساسية في حياة تلك الثقافات ، فسوف تتعرض لغتنا العربية إلى المزيد من التحديات المباشرة وغير المباشرة والتي قد لا يشعر بها أصحابها وهم في خضم دوامة المتغيرات الثقافية والسوسيولوجية والفكرية والاعلامية والعولمية التي طرأت في حياة العالم خلال السنوات الأخيرة من القرن العشرين . ولعل ابرز من تقع على عاتقه مسؤولية الاستجابة لتلك المتغيرات التي ربما غدت تحديات صعبة في المستقبل ، هم نخبة متميزة من المثقفين والاختصاصيين العرب الذين يمارسون أدوارهم المتنوعة من خلال ” اللغة ” التي لم تبق في يومنا هذا حكرا على المجامع العلمية والأكاديميات اللغوية (1)0
المعروف جيدا بين كافة ابناء الامم ، ان ” اللغة ” هي الركيزة الحية والاساسية في بناء شخصية الامة ، وعنوان ثقافتها ، وعماد رقيها الحقيقي . وبقدر ما يرسم ” التاريخ الحرية في الضمائر ” ـ على حد تعبير هيغل ـ ، فان ” اللغة ” توّحد الامة وتمنحها هويتها التاريخية الحقيقية والمعّبر عنها : اجتماعيا وثقافيا وحضاريا بشكل خاص . لقد حان الوقت لدى العرب لكي يعيدوا التفكير في كل شيىء لديهم ، ولعل من اهم ما يمكن التفكير فيه من قبلهم لغتهم العربية كما هو حالها اليوم ليس كما هو تاريخها في الماضي الذي تنوعت في خضم عصوره ، ولكن كما هي وضعيتها ازاء المستقبل ، فهي ابرز وسيلة استراتيجية تساعدهم في الارتقاء نحو المستقبل ! ولا يمكن للعرب ان يبقوا على تفكيرهم نفسه وعلى المألوف الذي توارثوه في حين يتغير كل شيىء من حولهم ! انهم بأمس الحاجة الى استراتيجية تفكير جديد في ما يخص لغتهم العربية والتعامل معها على اساس كونها جزء من علم عالمي لا كونها مجرد علوم محلية قديمة . وان مجرد التفكير في استحداث وسائل وآليات جديدة من اجل التطوير بحاجة ماسة وضرورة أساسية للمزيد من الدراسات والاعمال الجادة شريطة ان يقوم بها من يمتلك تفكير جديد ومن لديه تمكن من العلوم اللغوية والصوتية والاجتماعية (2) .

لماذا الدعوة الى الكائن اللغوي العربي المبدع ؟
لا نغالي اذا قلنا ان العرب يمتلكون منذ عصور سحيقة أجمل كائن مبدع عاش معهم منذ القدم وامتد معهم عبر تاريخ عريق طويل ، وشاركهم التقدم والحياة في كل لحظة تاريخية مرت .. باعتباره ، ذلك ” الكائن ” الذي ليس باستطاعة أي انسان العيش بدونه ، فاذا ما اعتنى به عناية فريدة وخاصة نما واخصب وتطور وازدهر .. فكان عنوان هوية راقية وتحضر كبير . واذا ما اهمل المجتمع والامة هذا ” الكائن” الرائع المبدع ، فستصيبه الاوجاع والضعف وسيناله الوهن والخلل ! وخصوصا العرب بمجموعهم الواسع عند فاتحة القرن الحادي والعشرين الذين لم يدركوا البتة قيمة كائنهم اللغوي المبدع الحي الذي صدق فيه توصيف شاعر النيل حافظ ابراهيم بـ ” البحر الذي تزخر احشاؤه بالدر المكنون .. ” ! وعلى الرغم من تقلب الاوضاع والاحوال التي مرت بها لغتنا العربية عبر تاريخها الطويل ، واتساع مدى انتشارها في قلب العالم جغرافيا ؛ الا انها لم تصادف ابدا من التبدلات والتغيرات (3) ، بل وحتى التحديات كما تصادف ذلك اليوم في عصرنا هذا ، وخصوصا في تضاعيف القرن العشرين وبدايات القرن الحادي والعشرين ، وخصوصا مع تدفق سيل الوسائل الاعلامية الحديثة وهول المتلقيات الكبرى في شتى المجالات ، وهذا ما تصادفه بقية اللغات الحية في العالم كله .. ذلك ان تسارع الزمن وتقلص المراحل وانكماش المكان بدا مفاجأة لا يمكن تصورها او تخيلها ابدا من قبل البعض من المفكرين الذين باستطاعتهم ان يقارنوا بين الاحوال التي كانت عليها اللغة – مثلا – وبين الذي حدث في الثلاثين سنة الاخيرة من انكسارات حادة ، فهم يختلفون عن اولئك الذين ما زالوا أسرى تقاليدهم التي تربوا عليها او تعلموا منها ! والمشكلة بين الاثنين : ان من يفكر في ما حدث ازاء الحياة ، واللغة جزءا منها ، يودون كسر الرتابة ليس من اجل حماية اللغة العربية حسب ، بل من اجل تطويرها نحو الاحسن .. في حين بقي وسيبقى التقليديون على جمودهم لا يحسون مطلقا بالهوة التي حدثت في السنوات الاخيرة من القرن العشرين . كيف ؟
تمفصل العربية بين قرنين :
(1) التأثيرات / الدخيل من المفردات والمصطلحات
لاول مرة بعد دهر طويل ، يتوالد هذا الكم الهائل من البشرالذين يتكلمون العربية على وجه الارض ! ولاول مرة تصطدم اللغة العربية الحديثة على مدى زمني يقترب من مائتي سنة ( وخصوصا في القرن العشرين ) وبشكل يتسع شيئا قشيئا لكم هائل لم تعهده هذه اللغة الرائعة على امتداد عمرها الطويل من المرادفات والمصطلحات والكلمات الاجنبية والدخيلة الجديدة بحكم اليات العصر الجديدة ! وبقدر ما حاول ولم يزل يحاول شيوخ اللغة العربية وفقهائها منع استخدام هذا الدخيل الهائل من الاجنبي والمستحدث والهجين .. الا انهم كانوا أعجز في الوقوف ازاء الاختراقات الهائلة التي زحفت على العربية من كل مكان ! وعبثا حاولت الهيئات والمجامع اللغوية العربية في عدد معروف من البلدان العربية وضع أو سّن مصطلحات مرادفة واصيلة ، الا ان جهودها ايضا تكاد تبوء بالفشل الذريع ! ليس بسبب اليات ووسائل الترجمة القديمة التي عرفناها قبل خمسين ــــ مائة سنة ؛ بل بسبب ازدحام سبل ووسائل الاتصالات والقنوات والاساليب الحديثة التي عرفها العالم عند نهايات القرن العشرين ، ومنها : وكالات الانباء العالمية ، وتقارير المراسلين والصحافيين ، والتلفزيونات الاقليمية ، والحوارات واللقاءات في الندوات وترجمات الافلام السينمائية والتلفزيونية ، وبرامج القنوات الفضائية وصولا الى المعاجم الالكترونية والانترنيت (4) 0
(2) العربية : اللهجات المحلية والعاميات المحكية
من جانب آخر ، لم تبق اللغة العربية ثاوية ساكنة كلها على اجزائها الصامتة والمخفية .. او تلك التي ذهبت مع الوان الماضي المسكوت عنها من دون معرفتها من قبل ابناء القرن العشرين ! لم تبق العربية في محيطنا العربي الكبير – مثلا – كدجاجة او حمامة تجلس باباء واحتداد على بيوضها الى الابد .. !! ولم تعرف كل بيضة ما الذي يكون في دواخل البيضة الاخرى ! لقد انفتحت العربية في القرن العشرين شيئا فشيئا على بعضها البعض بعد ان نهضت الدجاجة او الحمامة من فوق البيض ، فبدأت اللهجات العربية المتأخرة تسري وتسمع هنا وهناك على ارض العروبة .. وبدأت العاميات العربية المحكية تتنقل من بيئة عربية واخرى .. ليس بسبب من وحدة العرب الجغرافية المنشودة او اتحادهم العربي التاريخي والحضاري المأمول او تضامنياتهم السياسية المفتقدة ، ذلك لأن العرب لم ينجحوا حتى اليوم لا في مشاريع وحدتهم ، ولا في اساليب اتحادهم ، ولا في مناهج تضامنياتهم بل كانت كل من اللهجات Accents العربية ، والعاميات Dialects (5) العربية قد تعرفت بعضها على البعض الاخر ولاول مرة على استحياء في الخمسين سنة الاخيرة بواسطة الوسائل الاعلامية والثقافية كالراديو والسينما والاغاني والمسرح والتلفزيون ، وكانت المحكية المصرية ولم تزل هي السائدة والمتحركة بقوة اعلامية مؤثرة في كافة ارجاء الوطن العربي بحكم الانشداد للمنتجات المصرية من الافلام السينمائية والمسلسلات التلفزيونية .. ولّما دخلت قنوات الفضائيات العربية ولم تزل تدخل كل يوم الى كل بيت عربي ، فان العرب اليوم بدأوا يتعرفون على مستوى وعيهم الجماعي الكبير لا كما كان عليه الحال عن المستوى النخبوي المؤطر قبل عقود من الزمن ! لقد بدأوا يتعرفون على بعضهم البعض الاخر من خلال الوسائل المستحدثة والادوات الجديدة ، وسيكون لهذا كله وذاك تأثيراته البالغة ومؤاثراته المجتمعية على مستويات اللغة العربية في القرن الحادي والعشرين .
وباستطاعة أي مّنا – مثلا – ان يلتقط كم هو حجم تأثير بعض المرادفات العامية المحكية المصرية – وهي من اجمل واسلس المحكيات العامية العربية – في مختلف القسمات الاجتماعية والثقافية العربية بتأثير الافلام السينمائية والمسلسلات التلفزيونية التي انتجت ونشرت في الخمسين سنة الماضية ، فكيف سيكون عليه الحال عند العرب في الخمسين سنة القادمة بتأثير محكيات عامية عربية اخرى كاللبنانية والسورية والخليجية والعراقية والمغاربية ؟؟ لقد اصبح العربي في الشارع والمصنع والمزرعة والبيت والمدرسة .. الخ يأتينا من خلال لا وعيه الفاعل بمرادفات محكية عامية مصرية نتيجة تأثره باسلوب مباشر او غير مباشر بها ! واذا كانت بعض اللهجات المحلية اللفظية والعاميات المحكية العربية فيها من الجمالية والسهولة والشفافية والرقة واليسر .. فان لهجات وعاميات عربية اخرى فيها ليس لها أية سلاسة او جماليات او وضوح او رقة وخصوصا في بلدان تتنوع فيه الجغرافيات والقوميات والطوائف والاقليات وتنوع نسيجيات مجتمعاتها الفسيفسائية .. وعلى الرغم من اعتزاز ابناء كل بيئة او اقليم ( لا ابناء كل قطر او بلاد ) بلهجته المحلية وعاميته المحكية . انني اعتقد بأن العرب بعد خمسين سنة قادمة ستختزل لهجاتهم المحلية وعامياتهم المحكية كثيرا والتي توارثوها كابرا عن كابر ، كي يجد اولادنا واحفادنا بعد خمسين ـــ مائة سنة من اليوم ، أي على امتداد ثلاثة اجيال قادمة ، قد تحسنت لهجاتهم وعامياتهم كثيرا واصبحت قليلة ، ولكن على حساب لغتهم العربية الفصحى الام التي سيحل الضعف كثيرا بها ، وربما ستتوالد اساليب جديدة فيها ، الا انها لا ترقى الى المستوى الذي بلغته ووصلت اليه في اساليب الكتابة والمحادثة العربية في القرن العشرين .
من تطوير الجزء الى تطور الكل : ثلاث ركائز اساسية
لقد اختلف معي أحد الزملاء العرب من المختصين في اللغة العربية منذ سنوات طوال اثر مطالبتي بـ “تطوير” العربية ، إذ قال بـ “التطور” من دون “التطوير” ؛ وأردف يقول : بأن لا حاجة للأخير إلا في النحو العربي ! ولما كنت أرى ، بأن العربية : منظومة لغوية عريقة متكاملة وهي تعيش اليوم مخاضا صعبا جدا إزاء المتغيرات الجديدة التي تلف كل حياة الشعوب وثقافاتها وابرز مقوماتها ، فإنني اسجل – هنا – بعض الرؤى والأفكار التي تختص بعمل المنظومات الحية لغويا ، وفي مجتمعنا العربي الذي نسعى جميعا إلى تطويره وتحديثه كي يواجه المستقبل بمختلف أصعدته . وما كنت برجل لغة ولا من المختصين فيها ، فما هي تلك الرؤى والافكار ؟ أجيب قائلا :
(1)مخزون الذهن المتوارث : ان اللغة العربية كائن حي – كما وصفت – ، قابلة للتطور ، تغنيها الأجيال في بيئاتها المتنوعة على مر الأحقاب التاريخية . فهي هنا : جزء من سلسلة طبيعية لما يفيض فيها من الانتصارات والانكسارات معا . والعربية أيضا : منظومة لغوية حية وقديمة تتجدد دوما ، ولم تزل تعيش مفرداتها الواسعة التي ولدت وعاشت على امتداد تاريخ طويل ، وخدمت العرب خدمات جّلى .. في حين نعيش اليوم نحن العرب : مفردات وتراكيب وموحيات وصوتيات وتعابير وامثال ومصطلحات .. الخ ولدت وعاشت خلال فترات سكونية من التخلي والتراجع اثر اغلبها سلبا على الثقافة العربية بمختلف بيئاتها الاجتماعية على الرغم من محاولات الانطلاقة النهضوية في القرن العشرين . إن كل هذا وذاك نتلمسه عند نهايات القرن من خلال قدرة العرب المثقفين او غيرهم في أسلوبهم الشفاهي والتعبيري ، وعجز أغلبيتهم في المهارة اللغوية .. ففي كل بيت أو محلة او حارة عربية تفكير ذهني لغوي يختلف عن الآخر 0 فالمخزون في الذهن المتوارث يفعل فعله بالضد ، ويقف حجر عثرة أمام التطورات والتغيرات في ميادين أخرى .
(2)استخدام المفاهيم الحية المتطورة والعلوم الحديثة : عذرا لشيوخ اللغة العربية ، اذ يأتي هنا دور العلوم اللغوية والألسنية والإشارية- السيميائية والصوتية .. وعلم النص وعلم التعبير وعلم الاسلوب والعلامات وعلم الدلالة وعلم المصطلح وعلم الخطاب .. (6) ومختلف مناهجها المعاصرة التي تقول بـ ” التطوير ” في جميع الميادين التي تستخدم ” اللغة ” فيها ، كعامل أساسي غير منظور في حقول التربية والتعليم والتكوين والتثقيف ، وكمهمة نبيلة في تحديث الحياة الاجتماعية والثقافية ، وتطوير مختلف جوانبها ، ناهيكم عن الدور المجمعي العربي المتخصص في توحيد المفردات والتعبيرات والمصطلحات 00 ( ولابد من القول ان المجامع العلمية واللغوية العربية بدأت جيدة في مهامها وخطواتها في النصف الاول من القرن العشرين ، ولكنها اليوم عند نهاياته تبدو وكأنها مؤسسات متخلفة جدا عن حياة العصر وقد فقدت مبرر وجودها بفعل حجم التطور المذهل في الاساليب والمناهج اللغوية والالسنية والصوتية والاعلامية والفكرية .. وعدا مجهودات مجمع الخالدين بالقاهرة ، فأن خللا فاضحا تعاني منه بقية المجامع اللغوية والعلمية العربية – مع الاسف – ! ).
وماذا ايضا ؟
(3) هناك أساليب التفكير على نحو تجديدي عربي : وهي التي تعمل بهدف موحد للامة كالذي نشهد بعض فصوله لدى بعض المؤسسات والمراكز والهيئات العلمية التي أنجزت على امتداد القرن العشرين عدة مشاريع مهمة وإصدارات قيمة خدمت اللغة العربية .. ولكنها جميعا لا تتناسب مع ما كان لابد له أن يكون ! إذن ، فالتطور هو غير التطوير 0 وما إجراءات ” التعريب ” –مثلا- المجزأة غير المنتظمة ، والمتخلخلة زمانيا ومكانيا في المعاصرة العربية ، إلا عملية ارتكازية تاريخية وقومية من مهام التطوير 0 تلك المهام التي لم يغنها العرب حتى اليوم بالمزيد من المفاهيم الحية المتطورة ومناهجها التطبيقية (7)0
بعد الوعي بأهمية المسألة والادراك المتبادل بين زمنين : ماض وآت ، نسأل : كيف يمكننا أن نفهم ما يمكننا فعله ؟
اللغة العربية : عمليات التطوير
علينا بادىء ذي بدء أن لا نتوقف عند محددات مقفلة ، ومنها : ” تطوير النحو العربي” حسب ، بل على العرب السعي لتطوير علوم اللغة والذهنية اللغوية والقياسات الفكرية معا ، بحيث لا نفصل في معالجاتنا بين ما هو مكتوب او متداول في اللغة ومنظوماتها الاجتماعية المتوارثة عن تاريخ متنوع طويل وعن اتساع جغرافي مدهش باعتبار ان “المتداول” (: اللهجات والعاميات المحلية مثلا ) بدأت تطغى حتى على المكتوب 0 وعليه ، فلابد من استخدام البديل الذي اقترحه في هذا المجال ، وهو استخدام ( العربية المبسطة ) Standerd Arabic السريعة والمفهومة والخالية من الألوان البيئية . فكيف يتم كل ذلك على وجه صائب كما أزعم ؟
1- إن “التطوير” هو جزء من عمليات التحديث العلمية ، التي تعّد مفاهيمها النقدية والمعرفية من الأسس العقلية الحقيقية لتقويم المنظومات والبنيات كافة ، ومنها المنظومة اللغوية التي ستغتني بالمزيد من الدراسات والخطط والمناهج والفعاليات والتجارب 00(8) وخصوصا في النظم التربوية والتعليمية من اجل بناء جديد لجيل جديد يعنى بلغته وتطويرها ، ويسعى لاثرائها بالمفردات الحية والتراكيب الصحيحة .. لا البقاء ضمن التمفصل في تراتبيتها السقيمة وسكونياتها العقيمة باستخدام سوالبها ، او الانغلاق على أساليبها الضعيفة التي يكثر فيها الاسهاب والاطناب واللف والدوران والتكرار وترتيب الكلمات والمصطلحات التي لا معنى لها ضمن السياقات المطلوبة .
2- إن ” التطوير ” هو بذاته : مجموعة من العمليات المتجاوزة للتخلف والتقاليد الرثة البالية زمانا ومكانا ، تاريخا وجغرافية بهدف توحيد المفردات المتداولة كتابة وشفاها ، والتعود من خلال الممارسة على التفرد باستجمال واستحداث المفردات الارقى والأسمى فيها .. ثم الكشف عن مصطلحات ومفردات وتعابير وتراكيب جديدة وعربية مؤصلة او قابلة لكي تكون أصيلة . وتغدو بديلا رسميا وجماهيريا عن الأجنبي والدخيل والعامي واللهجي … الخ والخروج بنسق لغوي موحد في مختلف الاستخدامات اللفظية والتعبيرية على غرار بقية اللغات الحية في العالم 0 وسوف يسعى هذا البناء التربوي والتعليمي والاجتماعي إلى تحقيق هدف أرقى يعنى بتحديد المعاني والمباني في اللغة العربية ، والوصول إلى تأطير البيئة اللغوية العربية على رقعة العرب الجغرافية كاملة0
3- إن ” التطوير” من مهام العصر والمعاصرة ، يخرج عن إطار ما تعارف عليه الواقع اللغوي والاجتماعي .. كجزء من عملية “التطور” في المفاهيم التقليدية المتداولة ، والمضامين البلاغية ، والأساليب الإنشائية ، والمحددات النحوية ، والذهنيات الأدبية 00 الخ ونحن نعرف كيف كانت اللغة العربية في استخداماتها على مدى الأحقاب التاريخية ، منها إلى استخداماتها اليوم على المستوى الشفاهي والصوتي والالسني والتعبيري والكتابي .. أمام غلبة من التعقيدات والوسائل الإعلامية – الميدية وأجهزة الاتصالات المتطورة التي يجب ان تؤخذ بالحسبان في تكوين الاجيال القادمة 0 ان الذي يؤكد هذا كله ، ما نلحظه من فروق واسعة بين الذي كانت لغتنا عليه عند رجالات الامس وبين الذي آلت اليه عند ابناء جيل هذه الايام 0
4- إن ” التطوير” في اللغة العربية هو إسهام حقيقي واضح لا يكمن في دواخلها فحسب ، بل يمتد لكل ما له علاقة بالحياة الحديثة والياتها المتنوعة التي بدأت تستخدم اللغة استخدامات لا حصر لها . وعليه ، فان “التطوير ” لا يمكن حصره أبدا برجالات اللغة أو المختصين فيها من العلماء المجمعيين والأساتذة الجامعيين .. انه إسهام فعال وقوي لمؤلفين وأدباء ونقاد وساسة وزعماء وإعلاميين وصحافيين وتربويين ومثقفين ومذيعين وشعراء وفنانين وأساتذة اكاديميين .. الخ او أنه يأتي نتيجة لتطبيق مجموعة من التعليمات والقوانين والسياسات .. بينما يعد “التطور ” حصيلة تراكمية لعمليات معقدة جدا في التواريخ اللغوية والاجتماعية والثقافية(9) ، تجري خلال مراحل بعيدة المدى ، وما عمليات التطوير اللغوي إلا حلقة في سلسلة التطور في كل مجالات الحياة 0
5ـ ثمة رأي خاطىء يسود يوما بعد اخر عند البعض الغشيم من العرب ، يقول بأن المسبب الحقيقي في الضعف اللغوي العربي اليوم انما هو ناتج عن شراكة تعليم الابناء للغة اجنبية كالانكليزية والفرنسية ! باعتبار ان تعلم أي لغة اجنبية تؤثر بشكل او اخر على تعلم اللغة العربية ! انه رأي ساذج لا يمكن التعويل عليه او اعتماده ، ذلك ان تعلم أي لغة عالمية لا يسحب البساط البتة من عملية التمكن باللغة الام عند الاجيال الجديدة ، ما دام هناك تعليم قوي وتربية رصينة على نوازع اللغة العربية في أي جانب من جوانب الحياة .. وان مكتسبات اللغة الام لم تعد قاصرة على المدرسة حسب ، بل انها سارية في كل مكان من الحياة العربية : تربويا وثقافيا واعلاميا وسياسيا واجتماعيا .. الخ انني اجد ان الشراكة اللغوية بين الاجادة في اللغة الام واللغة الاجنبية ، انما يعزز الثقافة اللغوية لأي انسان عربي في هذا العصر .
6. لقد تحول مشروع التعريب عند العرب في نهايات القرن العشرين الى مشكلة مأزومة ومعقدة بفعل السياسات المضطربة والمنغلقة والمتقوقعة والمتناشزة في كل بلد عربي مقارنة بالبلد الاخر . لقد بدأت الترجمة عند العرب قوية في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين لدى علماء كبار فرادى ومتميزين كان لهم وعيهم باهمية الترجمة والتعريب .. وبرغم كل الامكانات بعد مرور اكثر من مئة سنة ، الا ان التعريب لم يحقق عند العرب اليوم أي نجاح بشهادة كل النقاد والمختصين والمفكرين الذين يطالبون بتطوير المشروع كونه من مستلزمات البحث العلمي وارتقاء الاجيال العربية من خلال التنمية اللغوية (10) .. وستبقى هذه المشكلة قائمة وسيزداد تأزمها اذا لم يفتتح العرب عصرا جديدا لهم بمعالجة تفكيرهم ومناهجهم واساليبهم وطرائق عملهم من اجل مستقبل اجيالهم القادمة . ولقد سمعنا مؤخرا بانبثاق منظمة عربية خاصة بالترجمة والتعريب في بيروت ، ونأمل ان ترفد هذا ” المشروع ” بالخصب والنماء ومن خلال مناهج متطورة وأساليب مستحدثة وخطط جادة واصيلة غير تقليدية او مستنسخة او مميتة من اجل بناء المستقبل العربي .



ملاحظات وهوامش
(1) من الاهمية بمكان مراجعة كتابي الجديد ، انظر :
سيار الجميل ، العولمة والمستقبل : استراتيجية تفكير !!! ( العرب والمسلمون في القرن الحادي والعشرين ) ط1 ( بيروت / عمان : الاهلية للنشر والتوزيع ، 2000) ، ص 280.
(2) من أجل تفصيلات عن ذلك ، راجع :
R.H. Robins, A Short History of Linguistics ( London & New York: Longman, 1990), pp. 78-86.
(3) راجع دعوتي التي نشرتها منذ سنوات في اكثر من مكان ، ومنها :
سيّار الجميل ، ” لغتنا العربية في خطر ” مجلة الدوحة القطرية ، العدد (128) ، 1986، ص 6-11.
(4)حول طبيعة قراءة الافكار ، أشير الى أبرز عمل في هذا الباب :
Michael Carrithers, Why Humans Have Cultures? ( Oxford: Oxford University Press, 1992), pp. 63-82.
(5) من أجل توضيح الفوارق المصطلحية الدلالية بين كل من المصطلحين ، انظر :
D. Premack, “ Pedagogy and Aesthetics as Sources of Culture”, in M. Gazzaniga (ed.), Handbook of Cognitive Neuroscience ( London: Plenum Press, 1984), pp. 102-5. (6) للتوسع حول العلوم اللغوية الحديثة في العالم ونظرياتها المختلفة ، انظر :
نايف خرما ، أضواء على الدراسات اللغوية المعاصرة ، ( الكويت : عالم المعرفة رقم 9 ، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب ، سبتمبر 1978 ) . وانظر ايضا بشكل موسّع مقالات متعددة بالفرنسية عن هذه العلوم الجديدة في الموسوعة العالمية Encyclopedie Universalis ، المجلدات : 6 ، 9 ، 12، 15 ، باريس 1988 .
وللمزيد من التطبيقات تراجع بالانكليزية اعمال ونظريات : ميلونسكي وجومسكي وفيرث وبلومفيلد ومولدر وجورج غادامير ولاكوف وهيندرسون ورولان بارت وجوليا كريستيفا وبنفينست وهاريس وهارفي ومحمد ياسر سليمان وغيرهم .
(7) راجع مثلا بعض الاعمال ضمن مشروع المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم حول التعريب ، وما قدمه البعض من الكتاب والمختصين العرب من افكار وآراء لم يأخذ بها أحد حتى اليوم على الرغم من بساطتها وسذاجة بعضها !
(8) راجع التفصيلات النظرية والتطبيقية في :
سيار الجميل ، العرب والاتراك : الانبعاث والتحديث : من العثمنة الى العلمنة ، ط1 ( بيروت : مركز دراسات الوحدة العربية ، 1997 ) ، ص 33-52.
(9) من الاهمية بمكان مراجعة أفكار عبد الله العروي في كتابه :
Abdallah Laraui, Islamisme, Modernisme, Liberalisme ( Casablanca: Centre Culture Arabe, 1997), pp. 43-87.
(10) راجع أعمال ندوة التعريب التي انعقدت في رحاب جامعة تشرين باللاذقية للفترة 9 – 11 نيسان / ابريل 1996 . وانظر ايضا الاراء والنقدات والافكار التي عالجها كل من :
ممدوح خسارة ، التعريب والتنمية اللغوية ( دمشق : دار الاهالي ، 1994) ، ص 14- 24.
وهب احمد رومية ، شعرنا القديم والجديد ( سلسلة عالم المعرفة ) رقم 207 ، الكويت ، آذار / مارس 1996 ، ص 15-17 .
عبد السلام المسدي ، قاموس اللسانيات ( طرابلس/ تونس : الدار العربية للكتاب ، 1984) ، ص 7-9.

شاهد أيضاً

دعوة الى المثقفين العراقيين في كندا

دعوة الى المثقفين العراقيين في كندا يسرّنا جدا دعوتكم الى الحضور والمشاركة في الاجتماع التأسيسي …