الرئيسية / حوارات / حوار مع المؤرخ الدكتور سيّار الجميل.. أجرى الحوار : د. رسول محمد رسول

حوار مع المؤرخ الدكتور سيّار الجميل.. أجرى الحوار : د. رسول محمد رسول

لقد كانت لنا فرصة طيبة ان نلتقي مع المؤرخ العربي المعروف سيّار الجميل لنفتح معه صفحة هذا الحوار وهو مفكر وكاتب واستاذ جامعي غني عن التعريف نظرا لما اشتهر به من خلال كتبه ودراساته وكتاباته المتنوعة فضلا عن رؤيته وخصب افكاره ونظريته التي عرف بها في فلسفة التكوين التاريخي .. ناهيكم عن كتاباته النقدية والتفكيكية التي أثارت حولها المزيد من النقاشات والاهتمامات وخصوصا ما عرف عن الرجل من قوة المنهج والحجة وجمال الاسلوب والكلمة والحداثة في الموضوعات والدقة في المعالجات .. وقد آلينا ان نفتح معه الحوار بمحاور وأبواب عدة منها : التراث والواقع والمثقف والمستقبل .. وغيرها لنرى وجهات نظره حولها :

العلاقة مع التراث :
* كيف تبلورت مسألة التراث عند العرب في القرن العشرين ؟
ـ هذا سؤال مهم ويأتي في محله اليوم عند فاتحة القرن الحادي والعشرين ، ذلك ان اهتمامات العرب بالتراث بشكل عام متنوعة ومتعددة ومؤشكلة زمانيا ومكانيا ، موضوعيا وفكريا .. معرفيا وسياسيا . المهم علينا ان نعرف ماهية المصطلح والمضمون قبل أن أجيب على التساؤل . التراث Heritage من الفعل ورث الاشياء وليس الصفات وبذلك فهو يختلف في دالته ومدلوله عن مصطلح الوراثة Heredity الذي يعني : انتقال الصفات الوراثية . فالتراث في مضمونه الواسع هو : حصيلة جامعة كبرى للافراد والمجتمع في كل ما وصلهما من الآباء والاجداد : منتجات ومخلفات وعادات وتقاليد ومأثورات وفولكلوريات وكتابات ومخطوطات وآثار ومصنفات وثقافات .. الخ وان مصطلح التراث لم تعرفه الثقافة العربية الا في الخمسين سنة الثانية من القرن العشرين ، وكان أول من أذاعه بعض المستشرقين في القرن العشرين ، ومنهم : توماس أرنولد والفريد غوليوم ومارك سايكس وجي غرينباوم وجوزيف شاخت وكليفورد بوزورث وسويتلز وفؤاد سزكين وغيرهم . اما في ثقافتنا العربية ، فقد بدأ الاهتمام فكريا بكل من المصطلح ومضمونه بعد أن ألف عباس محمود العقاد كتابه ” القديم والحديث ” . وجاء بعض الكتاب العرب بعد الحرب العالمية الثانية كي يستفهموا عن أبعاد التراث والوعي به ، ولكن بدأت تنشر بعد هزيمة 1967م جملة كبيرة من الدراسات والمقالات والكتب في المسألة التراثية من قبل كتاب ومؤرخين ومفكرين وساسة وأدباء عرب ، وقد اختلفوا جميعا في معالجاتهم وتحليلاتهم ومدارسهم ومرجعياتهم الفكرية والسياسية .. كما أخذت معظم الدول العربية تكرس لموضوع ” التراث ” مؤسسات ومجلات وخطابات ، كما واستقطبت المسألة التراثية حالة مواجهة مع قضايا المعاصرة على يد العديد من التوجهات السياسية والقنوات الايديولوجية العربية منذ خمسينيات القرن العشرين .. بعد ذلك تبلورت هذه الثنائية من خلال سياسات اغلب الدول العربية التربوية والتعليمية والثقافية والاعلامية . وأستطيع القول ان الجيل الحالي الذي دخل الميدان بعد عام 1979م حمل على اكتافه هذه الثنائية . هذه باختصار مقدمة لابد من توضيحها قبل أن أجيب على السؤال حول مجموعة القراءات العربية للمسألة التراثية التي أثارت جدلا واسعا في التفكير العربي المعاصر منذ هزيمة العرب امام اسرائيل عام 1967م وحتى اليوم .
* في حدود العلاقة مع التراث ، هناك قراءات عدة جرت لهذه العلاقة من قبل مفكرين عرب ومنذ نحو عشرين عاما والملاحظ ان هذه القراءات أثارت الجدل واسعا.فما هو حالها الآن ؟
ـ منذ ثلاثين سنة ، كانت هناك عدة قراءات عربية للعلاقة مع المسألة التراثية من قبل عدد كبير من الكتاب والمختصين والمؤرخين والمفكرين العرب ، وخصوصا بعد ان جاءت كرد فعل قوي ازاء التحديات التي واجهها العرب من الغرب ، وبعد أن وضع العرب تراثهم على طرف نقيض من المعاصرة ، واعتقدوا وما زالوا يعتقدون بأن لديهم الكثير في تراثهم ما يسهم في الحياة الحديثة . ولقد وصلت قوة هذا ” الطرح ” في الفكر العربي ابان السبعينيات والثمانينيات وعلى يد أبرز الكتاب العرب الذين ألفوا العشرات من الكتب وكتبوا المئات من المقالات في هذا الباب .. أما اليوم ، فقد خفتت هذه الموجة كثيرا جدا أي في العشر سنوات الاخيرة من القرن العشرين ليس لأنهم كانوا قد نجحوا في رؤاهم وتنظيراتهم في المسألة التراثية ، بل لأن منتجات العصر ومستحدثاته الواسعة والطاغية كانت أكبر بكثير مما يمكن مقاومته ! أي بمعنى : أن التوجهات التي كانت تطلق اعلانيات التوفيقية بين التراث والمعاصرة قد فشلت ليس بسبب عجز التراث او تفوق المعاصرة أو بالعكس ، بل لأن التفكير كان خاطئا عندما قرن الاصالة بالتراث فقط ، فضلا عن تبلور ازدواجية مشوهة في الجمع بين الاثنين .. وعندما وجد العرب فجأة أنفسهم أمام آليات جديدة ومستحدثات طاغية ولدها عصر التكنولوجيا والمعلومات والسرعة والاعلام الواسع والتقنيات القوية مع ضعف عربي مرير في الايديولوجيات والطروحات التي كانت داعمة للتوجهات التوفيقية ، انفصم التفكير عند العرب اليوم الى مسارين غير متلاقين أبدا : مسار الدعوة الى القديم والتخندق فيه ، ومسار الدعوة الى الحداثة والتماهي فيها . وهنا أستطيع القول أن العرب قد فشلوا فشلا ذريعا في ضياع زمن ثمين جدا من حياتهم النهضوية في العزف على اسطوانة الثنائية بين التراث والمعاصرة والتي ولدت شخصية مزدوجة لدى اصحاب المسار الاول ، كما ولدت شخصية متمردة لدى اصحاب المسار الثاني .. علما بأن المسألة التراثية كان لابد ان تعالج بمنتهى البساطة ، اذ لا تحتاج الى اطروحات واعلانات ودعائيات .. بل كانت بحاجة ، وخصوصا عند العرب الذين يمتازون عن غيرهم من الامم انهم أصحاب تراث مجيد ، بحاجة الى فهم ونقد وتحقيق وتدقيق ضمن مناهج معرفية وعلمية لا ضمن سياقات ايديولوجية واعلامية .. كما كان على الفكر العربي المعاصر ان يعالج المسألة التراثية في باب النقد التاريخي لا من باب العداء للمعاصرة ، اذ كان من أكبر خطايا ذلك التفكير جعل كل ما هو تراثي يدخل ضمن ما يسمى بـ ” الاصالة ” وكأن المعاصرة لا أصالة فيها ! وفي المقابل جعل كل ما هو معاصر يدخل ضمن ما يسمّى بـ ” الاستعمار الغربي ” وقد روجت لهذه الفكرة المزدوجة هيئات واحزاب وايديولوجيات وأفكار نجدها اليوم وقد زرعت في اللا وعي العربي .. وسيحتاج العرب الى جيل كامل ، أي بحدود ثلاثين سنة للتخلص نهائيا من هذه الازدواجية القاتلة .
* ما طرح في قراءات التراث هو كيفيات جديدة للذهاب الى التراث . هل سنشهد مستقبلا قراءات مماثلة أم اننا سنتجاوز ذلك الى مستوى آخر ؟
ـ اعتقد ان ما راج في تفكيرنا العربي ابان القرن العشرين من تلك التي سميتها ” قراءات ” كانت وليدة مرحلة تاريخية في طريقها اليوم الى الرحيل كونها قراءات غير تاريخية ، بل لبست أثواب مؤدلجة كالتي كان ينتجها القرن العشرون باستثناء الدراسات النقدية التاريخية لكل ما انتجه تاريخنا العربي من تراثات شتى كما وصلنا وسيبقى يصل الاجيال القادمة كابرا عن كابر .. وهناك اسماء عربية كانت لها جهودها في اثراء الدراسات النقدية التاريخية لانواع من تراثات العرب من دون ان تجعل الساحة الفكرية حكرا على التراث ، بل كان تراث العرب والمسلمين في مجمل تصنيفاته حقلا لابد من دراسته للاستفادة منه . ودعني أحدد أصحاب بعض تلك الدراسات التي كانت وستبقى هي الوحيدة التي تجلي حقيقة منتجات التراث باعتباره مساهمة في رفد التفكير ، لا باعتباره سلطة قامعة للتفكير . أقول بأن في مقدمتهم : طه حسين وانستاس ماري الكرملي ومصطفى جواد ومارون عبود وعبد الرزاق السنهوري وعلي عبد الرازق .. وغيرهم من علماء ونقاد في الرعيل الاول كانوا قد امتلكوا الاداة والوسيلة والفهم والوعي بالتراث سواء في استحضاره وتعليله ودراسته والتمكن فيه للاستفادة منه في بناء العصر أكثر من تقديم رؤى ومشروعات وقراءات مؤدلجة معاصرة حاولت أدلجة التراث وجعله سلطة في هذا العصر .
* هناك قراءات ماركسية وأخرى قومية وثالثة ليبرالية ورابعة ايبستمولوجية ، فأي من هذه القراءات هي الانضج من غيرها ؟
ـ لقد سبقتني بسؤالك في تصنيف هذه القراءات كما أسميتها قبل أن استرسل في ذلك . ولكن دعني أقول التالي :
اولا ليس هناك قراءات معرفية أو كما تسميها (ايبستمولوجية) للتراث عندنا نحن العرب على مستوى من النضج هذه الايام ، وحتى ان وجدت فانها تبقى مؤدلجة مع الاسف ، اذ هل يمكنك ان تقف على دراسة معرفية ناضجة في التراث الجغرافي العربي الاسلامي كتلك التي نشرها المستعرب الروسي كراتشكوفسكي ، او تلك التي نشرها المستشرق الفرنسي المعاصر اندريه ميكال عن الجغرافية الانسانية عند العرب ، او المستشرق الفرنسي المعاصر اندريه ريمون عن خطط المدن العربية ؟ وغيرها من الدراسات المعرفية ، وبرغم ما ترجم من دراسات محمد اركون الى العربية من قبل هاشم صالح ، فهي مستعصية عن الفهم من قبل العرب بسبب التعقيدات التي فرضها صاحبها والتي لا حاجة لها مطلقا !
ثانيا : لماذا استثنيت من قراءات التراث القراءات الدينية الاجتهادية عند العرب والمسلمين والمتميزة في العلوم الشرعية والفقهية الاسلامية برغم اختلاف المناهج والاساليب اذ كانت هي الاقوى كما اعتقد في الاستفادة منها من خلال جملة من الدراسات العربية ( علما بأن هناك دراسات متميزة اخرى : تركية وهندية وايرانية ليس هذا مجال الحديث عنها ) ، نذكر من بين أبرز رجالاتها : عبد الكريم زيدان ورضوان السيد وغيرهما كثير .
ثالثا : اعتقد ان ليس هناك قراءات ليبرالية للتراث ، فالليبرالية بقيت محتكرة من قبل احزاب سياسية يدور اصحابها في اطار سياسي معاصر وانها عولّت على المرجعيات الغربية المعاصرة أكثر من تعويلها على مرجعيات التراث العربي الاسلامي . وعليه ، لا يمكننا أن نعد طه حسين مثلا كرجل ليبرالي درس التراث ، لأن الرجل كان يفصل بين ليبراليته السياسية للحياة وبين دراسته العلمية للتراث .. ولكن يمكننا ان نعتبر احمد لطفي السيد من قبله وهو أبو الليبرالية المصرية كان قد درس وترجم التراث ، ولكن أي تراث ؟ كان تراث الفلاسفة الاغريق وليس تراث العرب المسلمين ؟ واعتقد ان معظم الدارسين العرب من الليبراليين للتراث كانوا قد فصلوا بين تفكيرهم السياسي وبين منهجهم العلمي .
رابعا : أما القراءات ـ كما أسميتها ـ العربية المؤدلجة التي ولدت في النصف الثاني من القرن العشرين ، وخصوصا بعد هزيمة 1967م ، سواء كانت ماركسية أو قومية فهي كثيرة جدا ، ولكنها جميعا كتبت عن التراث من خلال نظريات وافكار مسبقة واغلبها معاصرة ولا تمت بصلة حقيقية لتراثنا ، وهي في مأزق لا تحسد عليه في ايامنا هذه .. بل وان من كتبها ولم يزل على قيد الحياة لم يعد يلتفت اليها اليوم بحكم متغيرات العصر ، بل هناك من تحّول بفكره من ماركسيته او قوميته الى الدين . تلك المتغيرات التي كنست معظم الايديولوجيات . خذ مثلا : هل هناك اليوم من ينادي باشتراكية الاسلام ؟ هل هناك اليوم من ينادي باليمين واليسار في الاسلام ؟ هل هناك اليوم من يكتب عن الشعوبية ؟ هل هناك اليوم من يكتب عن ثورات القرامطة والزنج والبابكية ( التحررية ) ؟ وباستثناء بعض المجلات التي لم تزل تجتر بعض المقولات المؤدلجة .. هل تجد كتابات في المسألة التراثية كالتي كان ينشرها كتّاب عرب أمثال : حسين مروة وطيب تيزيني ومحمد دكروب وأدونيس وعلي عباس صالح والياس فرح وهادي العلوي ومهدي عامل وعزيز السيد جاسم وغيرهم ؟؟؟
في رأيي المتواضع ، ان الانضج هو المعرفي الذي يبقى ، وان الانضج هو المنهجي العلمي الذي يفصل بين الايديولوجي والمعرفي .
باب العلاقة مع الواقع :
 بعد حرب الخليج الثانية أفرز الواقع العربي معطيات جديدة أثرت على الوعي الثقافي العربي ، ما هي في نظرك ملامح هذا التأثير ؟
ـ اعتقد وربما كنت مخطئا ، بأن المعطيات الجديدة التي اثرت على الوعي الثقافي العربي المعاصر لم تكن من افرازات حرب الخليج الثانية . صحيح بأن لتلك الحرب افرازات شتى ، ولكنها جاءت في مرحلة تاريخية معقدة وصعبة جدا من التغيرات العالمية التي كانت مؤثراتها وافرازاتها أقوى بكثير من حرب الخليج الثانية .. ولنا أن نتصور حجم افرازاتها لو حدثت مثل هذه الحرب قبل ثلاثين سنة على الوعي الثقافي العربي مقارنة بما حدث عام 1967 مثلا ؟ ولعل ابرز ما سيسجله التاريخ كما اتصور من افرازات حرب الخليج الثانية ما حل بالعراق وبمثقفي العراق وعلمائه وادبائه الذين عانوا وما زالوا يعانون من قسوة الحصار المأساوي الذي ضربهم في اعماقهم ودواخل مجتمعهم .. أما المعطيات الجديدة التي أثرت في حقيقة الامر على الوعي الثقافي العربي فهي نتاج ما حصل في العشر سنوات الاخيرة من القرن العشرين ، ومن أبرزها : هجرة اعداد كبيرة من المثقفين العرب الى الشتات ، دخول وسائل اعلامية جديدة قوية ومؤثرة وصاعقة على الثقافة العربية التي عاشت على مدى خمسين سنة منشغلة بالايديولوجيات وملاحقة موضات العصر الفكرية والفلسفية ، ثم انشغال معظم الكتاب والمثقفين ( وحتى المختصين منهم ) بما استجد في عالم اليوم و ” العولمة ” على رأس ذلك .. وأنت ترى التخبط الحاصل على مستوى القراءات والمواقف والتفسيرات .. ثم لا تنسى ما يحصل في ساحتنا العربية من المواجهات الفكرية والثقافية بعد الانقسام الذي حدث في التفكير وولادة جماعات ونخب متنازعة حول قضايا خطيرة ولدت بعد حرب الخليج الثانية ، ولها تسمياتها ومنشوراتها ومؤتمراتها وصحفها ، ومنها مثلا : جماعات التطبيع والاقليات والرأي ونشطاء حقوق الانسان والمؤتمر القومي العربي والجمعيات الجديدة والجماعات الديمقراطية والاصولية وغيرها .
 كيف نحتكم الى واقعنا ، ثمة افتراق بيننا وبينه . كيف تتم الفجوة ؟
ـ انها وأيم الله عملية صعبة جدا فلا يمكن الهروب منه ، ولا يمكن الانغمار فيه وأنا اتحدث عن المثقفين العرب الذين يعيشون بالفعل مأزقا ، فاغلبهم يعانون شقاء الوعي بما عليه الواقع الذي أخذ له مديات واسعة من الانقسام والتشظي .. والفجوة ستتسع يوما بعد آخر بحكم تفشّي أمية المتعلمين ، وبحكم عدم ملاحقة العصر مع ازدياد السكان وما يحتاجه المجتمع في المستقبل . منذ زمن طويل وانا اردد بيت شعر فيه حكمة واقعية قيل قبل أكثر من ألف سنة ، وأطلقه شاعر قد لا يصدق المرء انه المسمّى بأبي نواس عندما قال :
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها ان السفينة لا تجري على اليبس
عندما ستتوفر عند الاجيال القادمة اشتراطات اساسية لابد من تحقيقها بعقلانية وبصيرة ، سيتغير الواقع شيئا فشيئا نحو الاحسن والافضل ، وعندما سيجد العرب بأن مصالحهم العليا المشتركة هي اول اهتماماتهم .. وهذا ما آمل حصوله بعد عقود من الزمن بعون الله .
باب المثقف العربي والواقع العربي
* يرمي الواقع العربي بكل حمولاته الثقافية والواقعية باللائمة على المثقف العربي كونه بعيد عنه ، فالمثقف رجل نخبة وليس رجل واقع . كيف تنظر الى هذا التفسير ؟
ـ اعتقد وربما كنت مخطئا بأن ابناء الواقع العربي المتعبين والمسحوقين والمحبطين في بلدان عربية عديدة لا يرمون باللائمة على المثقف العربي بقدر ما يدينون السياسي العربي ، أو بالاحرى رجل السلطة .. ونحن ندرك بأن المثقف العربي ليس بالضرورة رجل سياسة او رجل سلطة .. صحيح ان المثقف رجل نخبة ، ولكن من هو المثقف الحقيقي في مجتمعنا العربي ؟ المثقف الحقيقي من يجد في نفسه القدرة في استيعاب معنى واسع الافق للحياة ويتخذ لنفسه اسلوبا خلاقا فيها من اجل ان يستفيد من الزمن ويطور معرفته لكي يقدم شيئا نافعا لبيئته ولارضه ولاهله من ابناء جلدته .. المثقف ليس هو ذاك الذي ينظّر من برجه العاجي ، ولا ينزل الى قسمات الحياة والواقع من اجل توظيف ثقافته في تطورهما .. واعتقد بأن هناك الالاف المؤلفة من المثقفين العرب الذين قهرهم الواقع فغاب ابداعهم وماتت جذوتهم وجنح تفكيرهم وسلكوا بحياتهم مسالك بعيدة . وليس مؤكدا ان يكون المثقف المبدع والحقيقي رجل نخبة لا رجل واقع ، اذ نجده يؤدي خدماته للواقع مهما كانت طبيعة تلك الخدمات .. ولكن المشكلة تكمن اساسا في عناد هذا الواقع الصعب الذي تزداد صلادته وجموده ومشاكله يوما بعد يوم ، والتفاصيل واضحة في كتابي : ” التحولات العربية : اشكاليات الوعي وتحليل التناقضات وخطاب المستقبل ” .
 ما هي اذن محنة المثقف العربي المعاصر ؟
ـ محنة مؤشكلة وقاسية ومتنوعة البيئات ومتعددة الاوجه من مكان الى آخر ، ولكن أرجع وأقول متسائلا : من هو المثقف الحقيقي الذي تقصده ؟ فمصطلح المثقف عندي كبير جدا ، اذ لا يمكن أن يطلق على كل من هب ودب .. المثقف الحقيقي نادر في بيئته العربية هذه الايام ، وخصوصا عندما نراه صاحب معرفة ولغة وافق فكري ومنهج عمل واحترام للزمن واسلوب تفكير وقراءات ، ولا يهم ان كان منتجا او مبدعا او كاتبا او فنانا او عالما او اديبا .. الخ محنة مثل هكذا مثقف عربي اغترابه عن محيطه ، وفقدانه لما يريد تحقيقه ، والغبن والحيف الذي يحس به ، وشعوره بالقهر من سلطات متعددة ليس شرطا ان تكون سياسية ، فربما كانت السطوة الاجتماعية على تفكيره هي اكبر من ان يقاومها .. محنته أكبر من ان توصف او ان تجسّم !
باب المثقف والمستقبل
* في كتابك الاخير ( العولمة والمستقبل : استراتيجية تفكير !) ، ثمة رؤية الى المستقبل تستند الى مفهوم ” الرؤيوية ” يرى البعض في هذا المفهوم غموضا ، فأين وضوحه من وجهة نظرك ؟
ـ لا أدري لماذا لا يبحث هذا البعض في المفاهيم ليعرف الدلالات والمضامين .. ان الرؤيوية باختصار لم يعد مفهوما جديدا ، بل غدا منهجا ايبستمولوجيا في استنباط رؤى معرفية توظف من اجل بناء المستقبل . ويمكنكم العودة الى مقدمات كتاب ” العثمانيون وتكوين العرب الحديث : من أجل بحث رؤيوي معاصر ” ، فلقد أوضحت طبيعة المفهوم والمنهج والتفكير بشكل أوسع كما أزعم من أطروحة بريدغمان Bridgman . فالرؤيوية تعمل على ربط معطيات الملاحظة باثارة جملة واسعة ليس من التساؤلات بل من الاشكاليات كي تبحث عن أجوبة لها معتمدة على العقل والاستبطان في الربط والبرهنة عليها مع استخدام النقد في فحص المضامين ونقد المفاهيم وتحليل النواقص ومعالجة الشكوك وسد الثغرات .. ان منهج الرؤيوية لا تقتصر على القواعد المعروفة عن السببية والعلة والتحليل التاريخي ، بل انها حالة نقدية تستعد لاستقبال مقترحات وتوجهات وتطلعات من خلال فحص ظواهر واحداث وانماط وانساق وبنى .. وفي أكثر الاحيان لا مفكر فيها توصلا لرسم رؤى على شكل اشارات نحو المستقبل . فهذا المنهج يربط الماضي بالحاضر بالمستقبل . هذا باختصار هو جواب سؤالك ، ولكن هناك تفصيلات واسعة .
 ما هو المأمول في المشروع القومي العربي ؟
ـ المأمول فيه ان ينزل من عليائه واحلامه واخيلته ورومانسيته الى ارض الواقع ليراه كما هو اليوم عند مطلع قرن جديد بعد مضي قرابة مئة سنة على حمأة العواطف واحتدام التيارات وولادة الانشقاقات وصراع الاحزاب وشوفينية السياسات .. المأمول فيه ايضا ان يجدول نفسه في سلم الاولويات بكل عقلانية ووسطية وشفافية بعيدا عن المركزية والانوية والتصدعات والصراعات الداخلية والانقسامية وعليه ان يدرس حياة الامة في تاريخها المعاصر على ضوء تكويناتها التاريخية في العصر الحديث ، فبعض الكيانات السياسية العربية قديمة وعريقة ولم تكن من صنع الاستعمار ابدا ، فهناك تكوينات سياسية عربية قديمة قبل عصر الاستعمار سلطانية كانت ام شرافية ام امامية ام مشيخات اتحادية ام عصبية .. الخ المأمول في المشروع القومي ان يدرك التنوعات الجغرافية بين الاقاليم العربية وخصائص السكان في كل اقليم عربي .. وعليه ، فالمأمول في المشروع القومي العربي ان يكون علميا لا عاطفيا ، وان يكون عقلانيا لا رومانسيا ، وان يكون واقعيا لا طوباويا .. بحيث يقفز فجأة من التجزؤات السياسية والتنوعات الاجتماعية الى وحدة الكل ضمن اطار ايديولوجي انقلابي او ثوري عسكري .. بل عليه ان يبحث عن صيغ للتجانس والتلاؤم بين سكان كل بلد عربي ضمن اطر اتحادية للكتل ويعيد التفكير النقدي في اطروحاته بما يخدم المصالح العربية العليا تدريجيا ، وبذلك يضمن مستقبله ازاء الاجيال القادمة . والمهم في تفكير الجيل العربي القادم ان يتعايش ويتضامن في تحقيق مصالحه الاقتصادية العليا والمشتركة في تكتل اقليمي او اكثر ، كما عليه ان يستفيد من قسماته كاملة في تكوين ثقافة عربية مزدهرة ومتنوعة لها خصبها وانفتاحها على العالم ينعدم منها الهجين ويختفي منها المضطرب ويعلو فيها الموحد والجمالي والغني .. كما وان من اهم متطلبات هكذا مشروع اعادة التفكير في الحياة العربية وصناعتها وتحديد مستقبلها على ضوء المتغيرات العالمية وازالة التراكيب الذهنية البليدة والمتخلفة من الطريق .. الخ عند ذاك سيحقق العرب احلامهم بحق وحقيق بعيدا عن السياسات والايديولوجيات والاستنساخات عن الاخرين !
* ثمة رؤى في الغرب المعاصر لا ترى في الاسلام المعاصر او السياسي أو الاصولي كما يسميه الغرب ذاته أي خطر . ما هو مستقبل هذا الاسلام في العقد القادم على اقل تقدير ؟
ـ بطبيعة الحال الاسلام دين يسر وسماحة ومروءة ومرونة ودين خلاق في العبادات والمصالح المرسلة .. انه دين التلاؤم والانسجام والشفافية والمعاملة الحسنة .. انه دين سيبقى ما بقيت حياة الدنيا لأنه يجدد نفسه دوما من خلال ابنائه وعلمائه وفقهائه ومجتهديه .. وثق بأن الغرب المعاصر يدرك ذلك جيدا ، وانني اعتقد بأن الغرب اليوم والمستقبل سوف لن يستطيع مواجهة الاسلام بكل ثقله وتاريخه وحضارته كما اعتقد خطأ صموئيل هانتينتونغ في اطروحته صراع الحضارات ، فالحضارات لا تتصارع بل تتلاقى ، وحتى اذا تباينت الثقافات البشرية فكل ثقافة تتلاقح مع الاخرى ، وأيضا لأن الغرب سيبقى يبحث عن مصالحه في الشرق كله .. او كما اصطلح عليه اليوم بعالمي الشمال والجنوب . لا خوف عندي على الاسلام أبدا ، ولكن خوفي على المسلمين المعاصرين وعلى اجيالهم القادمة في عالمهم الملىء بالنكبات والمآسي والحروب والمجاعات والكوارث نتيجة سياسات التخلف والقهر والدمار ، وستزداد مشكلات العالم الاسلامي كثيرا في العقود الثلاثة القادمة ولابد من ايجاد حلول عملية ونافعة وخصوصا في هذا العقد الاول من القرن الحادي والعشرين نظرا لما يتعرض له العالم الاسلامي بأجمعه من حالات الانقسام والتراجع والتخلف ازاء التقدم التي تحصل عليها الامم الاخرى من خلال عالم التكتلات الجيو ستراتيجية ازاء المستقبل. وسيعاني العالم الاسلامي كثيرا ( والعرب في مقدمته ) من اضطرابات واسعة النطاق ستؤثر لا محالة على اوضاعه القادمة بعد 2009م .
* سمعنا عن وجود كتاب لك عنوانه ” انتلجينسيا العراق ” . ماذا عن هذا الكتاب ، وماذا عن المرحلة التي ستغطيها في تاريخ المثقفين العراقيين ؟
ـ كتاب اشتغلت على تأليفه منذ سنوات وكنت اعود اليه بين حين وآخر .. وهو يبحث في بنية المثقفين العراقيين منذ العهد العثماني وحتى عام 1968م ، كما يعطي تأملات مستقبلية لما ستألو اليه اوضاع النخب المثقفة العراقية .. ولقد نشرت اجزاء من هذا الكتاب في جريدة الزمان الغراء في العام الماضي .. وان كلا من النتائج التاريخية والاستنتاجات المعرفية التي خرجت بها مؤثرة ولها وقع من نوع خاص وسأعمل على نشر الكتاب قريبا بعون الله . كما استطعت ان اكتشف من خلال تعاملي مع بعض الوثائق التاريخية عن معلومات نادرة جدا بخصوص بعض الشخصيات ومنها : جمال الدين الافغاني الذي اعددت كتابا وثائقيا آخر عنه سينشر بعد اكتماله .
 كيف تنظر الى الثقافة العربية في الخليج العربي خاصة في مرحلة التسعينيات ؟
ـ انها تتطور بشكل سريع جدا من خلال جملة من الابداعات والنتاجات الحية .. وتسعى دول الخليج العربي من خلال قدراتها وخططها المتميزة ان تستقطب جملة من الفعاليات والانشطة التي يعجز غيرهم عن ادائها اليوم .. كما وتتيح حالة الاستقرار والرخاء الذي تتمتع به المجتمعات الخليجية في كل قسماتها تقديم النموذج الثقافي العربي على احسن ما يرام .. ناهيك عن ازدهار الثقافة الخليجية اكاديميا فثمة منتجات معرفية متميزة من اجل تأهيل الجيل الجديد ، فضلا عن استثمار الصحف والمجلات والوسائل الاعلامية ثقافيا .. ولا يمكننا أن ننسى ان المقروء الخليجي يصل الى أبعد مكان عربي .. كما ويخبرني بعض الناشرين بأن هناك اقبال واسع النطاق على الكتاب في منطقة الخليج العربي بمختلف حقول العلم والادب والفن .. ان أي رصد لما حصل من تطورات ثقافية في الخليج العربي خلال تسعينيات القرن العشرين سيلمس بأن هناك نتاجا فكريا متميزا ومتوازنا من خلال اسماء اثبتت جدارتها في دول الخليج العربي ، ثم سيلحظ تأسيس عدة جامعات ومعاهد واسعة من اجل تأهيل الجيل الجديد بأفضل الوسائل والادوات .. ثم سيقف عند ظواهر من الانشطة والفعاليات سواء على مستوى ولادة مؤسسات ومراكز بحوث ودراسات فرضت نفسها في وقت قياسي على المحيط العربي ، فضلا عن اقامة العديد من معارض مزدهرة للكتاب .. وألمح ان منطقة الخليج العربي قد قفزت قفزات نوعية واسعة في العشر سنوات الاخيرة من القرن العشرين في الثقافة والمجتمع والفن والصحافة والاعلام بتأثير التطورات الاقتصادية التي رافقتها خلال هذه المرحلة .. ناهيكم عن قوة الجوائز في المعرفة والاداب والفنون التي تقدم الى المبدعين والمتميزين . واعتقد ان التطورات الثقافية في بلدان الخليج العربي ستزداد مع توالي الايام وعلى أيدي الاجيال القادمة ، اذا ما تجددت الدماء كل حين بعناصر مثقفة متنوعة ومخلصة ومتجددة لا يهمها الا الشأن العام .
* شكرا جزيلا على كل ما تحدثت به ..
ـ أهلا وسهلا ..
نشرت في الزمان وصحف اخرى 2001

شاهد أيضاً

ملف: إمكانية حكم دكتاتور عادل للعراق.. حوار عراقي مصري بين الدكتور سيّار الجميل والأستاذ عبد الله كمال على روز اليوسف المصرية

مقدمة كتب الصديق الأستاذ عبد الله كمال عضو مجلس الشورى المصري ورئيس تحرير كل من …