الرئيسية / حوارات / سيّار الجميل في حوارعن : مشروعه في التكوين التاريخي ونظريته عن الأجيال.. اجراه : الكاتب والصحفي كرم نعمه

سيّار الجميل في حوارعن : مشروعه في التكوين التاريخي ونظريته عن الأجيال.. اجراه : الكاتب والصحفي كرم نعمه

المجايلة التاريخية :
نظرية معرفية وفلسفة رؤيوية للزمن العربي والمستقبل
هذا هو الحوار الثاني والمطول الذي اجريه مع المفكر العربي المعروف الاستاذ الدكتور سيار الجميل بعد ان كنت قد اجريت معه الحوار الاول عام 1992 في عّمان بالاردن بعد فوزه منفردا بجائزة شومان في العلوم الانسانية .. واثر هذه السنوات الخصبة من حياته العلمية ، ازدادت اعماله الابداعية الفكرية والتخصصية وذاعت سمعته ونال أكثر من جائزة تقديرية وحمل اكثر من قلادة ابداع .. ولم يزل يعمل بصمت وهو يصل الليل بالنهار .. وهو يحمل في اعماقه هموم امته ويتطلع الى اليوم الذي تصل فيه الى غاياتها واهدافها بعد تحقيق طموحاتها في التحديث والحياة الكريمة .. وهو الذي خبر تاريخها وألم بجزئيات حياتها الخصبة العريقة . هذا الاستاذ المفكر والمؤرخ المليىء بالجد والحيوية والنشاط الذي يفضل الهدوء والواقعية وحديث العقل والنقد والتشخيص والتدقيق ويعشق الكلمة والعمل والكتاب والقلم ويحارب الانشائيات والاوهام والجهالة والتخلف له اكثر من مشروع فكري وعلمي ونقدي مطروح في الساحة الفكرية العربية ، منها : مشروع تاريخي في دراسة تكوين العرب الحديث والمعاصر ، ومشروع فلسفي في دراسة تكوين الاجيال والمستقبليات ، ومشروع نقدي في دراسة تفكير العرب والمسلمين .. وقد انجز ونشر كتبا وبحوثا عديدة ، بالعربية والإنكليزية ، فضلا عن مشاركته في العديد من الندوات العلمية والمؤتمرات الدولية وله عشرات المقالات والحوارات والمداخلات المنشورة في الصحف والمجلات .. وقد تخرج على يديه عدد كبير من الباحثين وطلبة الدراسات العليا في اكثر من جامعة عربية في كل من المشرق والمغرب العربيين . اذ كان قد دّرس والقى محاضراته في جامعات عدة عربية وغربية . وهو اليوم استاذ التاريخ والفكر الحديث بجامعة آل البيت بالاردن .. والحقيقة ان الحوار مع هذا الرجل هو حوار موسوعي معرفي مثقف عالي المستوى ..
نعم لقد كان لنا معه هذا الحوار بعد الترحيب به :
# ماذا عن مشروع تكوين العرب الحديث ؟
ـ انه فاتحة أعمالي العلمية في قراءة التاريخ الحديث ، ولكنه لم يكن الباكورة الاولى ، اذ كنت قد نشرت أكثر من عمل من قبله .. انه يتضمن حتى الان ثلاثة كتب ، هي : العثمانيون وتكوين العرب الحديث ( بيروت ، 1989 ) الذي يعد قسمه الاول أجوبة تنظيرية واسعة على السؤال الذي افترضته وطالبت اخرين للبحث عن اجوبة له : من أجل بحث رؤيوي معاصر ؟ ذلك ان الاجوبة في القسم الاول من الكتاب مخصصة للمنهج الرؤيوي الذي اعتقد جازما أنه ركيزة أساسية في عملية توظيف التاريخ من أجل معالجة الحاضر وبناء المستقبل ، سيما وان نماذج واسعة من حاضرنا في القرن العشرين لم تزل تعيش على بقايا تكويناتنا الحديثة في القرون المتاخرة . وقد أتى القسم الثاني من الكتاب متضمنا بحوثا تطبيقية لنماذج في التواريخ العربية ـ العثمانية المشتركة . ثم جاء كتابي المكمل الاخر بعنوان ” تكوين العرب الحديث ” ( ط1 عام 1991 ، ط2 عام 1997 ) وهو كتاب منهجي تحليلي اكثر منه تنظيري فلسفي .. وتلاه الكتاب الاخر من المشروع بعنوان : بقايا وجذور التكوين العربي الحديث ( 1997 ) وهو كتاب تطبيقي يلقي أجوبة صريحة على جذورنا العربية وبقايانا العثمانية .
# وهل اكتمل مشروع التكوين ؟
ـ لا ابدا ، اذا كانت الكتب الثلاثة المذكورة مخصصة لتغطية تاريخنا الحديث على امتداد القرون الاربعة : 16 ، 17 ، 18 ، 19 ، فان الكتاب القادم في اطار المشروع والذي اعمل على تأليفه الان سيغطي تاريخ العرب في القرن العشرين وبأكثر من مجلد باســـم ” تكوين العرب المعاصر 1917 ـ 1997 ” . فضلا عما استفدته من كتابة هذا المشروع في انتاج فلسفة التكوين التاريخي ..



# وماذا عن فلسفة التكوين التاريخي .. ونظرية المجايلة التاريخية ؟
ـ نعم ، انه مشروع من نوع اخر ، يتلاقى مع الاول منهجيا ، ويتباين عنه فلسفيا ، ذلك ان مشروع تكوين العرب الحديث : عملية تنظيرية تاريخية وتطبيقية منهجية بحتة تنبثق عن منهج رؤيوي حددت ملامحه قبل قرابة عشر سنوات ، أما مشروع فلسفة التكوين التاريخي ، فهو نظرية فلسفية في التاريخ استفادت من مناهج وفلسفات ورؤى وقياسات وتطبيقات وارقام في تحديد ملامح الزمن وابعاد المعرفة وانساق المجال وظواهر التاريخ .. وقد أسميتها بـ ” المجايلة التاريخية ” والتي اصدرتها مؤخرا بكتاب يحمل هذا العنوان : ” المجايلة التاريخية : فلسفة التكوين التاريخي : فلسفة التكوين التاريخي ( نظرية رؤيوية في المعرفة العربية ـ الاسلامية ) .

# نريد تفصيلات اكثر تعلم القراء من المهتمين والمختصين والمثقفين عن هذه النظرية خصوصا وانها اثارت المزيد من الاهتمام ؟
– الكتاب أولّي يشتمل على خمسة فصول : المدخلات ــ النظرية ــ النظام ــ المقايسات ــ الحاضر والمستقبليات ، وهو ينطلق من التحقيب التاريخي الجديد الذي استكشفته وطبقت عليه في قياس الاجيال والمجال والاجال وفي تحديد التقسيمات التاريخية لحياة الاجيال والعصور . والنظرية لا تعتمد البته التقسيمات المعروفة والمألوفة للتاريخ ، بل تعتمد الماكرو والمايكرو في تحقيب التاريخ ، وقد أخترت التطبيقات لاثبات صحة ما أتيت به على حياة الثقافة العربية والمعرفة الاسلامية في تحديد اطار حضارتنا ، فقلت بأن هناك 1500 سنة كاملة ( 599 م ــ 2099م ) قابلة للتقسيم خماسيا ، مولدة لدينا خمسة عصور كبرى ، عمر كل عصر 300 سنة اسميته بـ الماكرو ( الوحدة الكبرى ) ، وكل عصر يضم عشرة أجيال ، عمر كل جيل 30 سنة ، أسميته بـ المايكرو ( الوحدة الصغرى ) . وقد قسمت تاريخنا على هذا الاساس ، فكان عندنا العصور التالية : التدوين ــ الابداع ــ الموسوعية ــ السكونية ــ النهضوية . وكل عصر يتضمن عشرة اجيال اطلقت على كل جيل اسما خاصا به مستلهما ذلك من التطبيقات المعقدة للمعرفة ضمن قياسات المجال والاجال مستخلصا نتائج جد مهمة ـ كما أزعم ـ تحدد مسار الزمن العربي المنقسم على نفسه في اتجاهين متضادين ، اولهما : سياسي ايديولوجي ، وثانيهما : معرفي حضاري .. وفي الكتاب تفصيلات موسعة عن ذلك .



# وكيف كانت آليات العمل والمنهج ؟
– لقد اعتبرت حياة الانسان في معدلها العام 60 سنة منقسمة الى قسمين اثنين ، فالانسان يعايش جيلين اثنين محددا عمر كل جيل بثلاثين سنة ، اذ يتكون في الاول ويجايل في الثاني .. وقد أعانني الحاسب الالكتروني كثيرا في القياسات الكمية والابنية الجدولية من خلال برنامجين أساسيين بقسيم حياة ثقافتنا العربية ومعرفتنا الاسلامية الى خمسين من الاجيال ، افرت في ملاحق الكتاب جداول رقمية على أساس الولادات محددا قياسات الاجيال والمجال والاجال اسماء من يمثل كل جيل بدءا بجيل رسولنا الاعظم محمد (ص) الذي بدأ حقيقة بـ 599م ، وانتهاء بالجيل الاخير القادم بعد مئة سنة من اليوم عام 2099م ، معتمدا التقويم الغريغوري الميلادي في الحسابات المنهجيةالكمية للتاريخ نظرا لدقتها اولا ، ولاكمال ” المشروع ” في النظرية والتطبيق مستقبلا اذا اراد الله بمواصلة النظرية واكمال تطبيقاتها عن فلسفة التكوين التاريخي للثقافة البشرية والمعرفة الانسانية عموما لما قبل ميلاد السيد المسيح (ع) وحتى نهايات القرن القادم .. واستكشاف لما لدى بقية الشعوب والمجتمعات في تاريخ العالم من محددات وابداعات ، فالشعر مثلا كان ولم يزل ديوان العرب الاعظم في التاريخ ففي كل قرن لدينا علامة فارقة وشاعر عظيم بدءا بالمرقش الاكبر قبل الاسلام وانتهاءا بالجواهري الذي اختتم حياته قبل قفلة القرن العشرون !

# وماذا أفادك من مناهج وافكار في بلورة نظريتك ؟
ـ كثيرة هي ولا تحصى ابدا بدءا بالزمن القرآني وانتقالا الى ابن خلدون مرورا بفلسفات المعرفة والتاريخ المعروفة وصولا الى النظرية النسبية لاينشتاين في البعد الخامس ( المجال ) ، ثم افكار ونتائج ما طرح في القرن العشرين سواء في علوم البيئة والمجال الحيوي والبنيويات والانساق والدوائر الحضارية والمنطق الرياضي وفلسفة الزمن والمستقبليات وغيرها ..

# طيب ، حسب تقسيماتك : نحن في أي جيل وفي أي عصر تاريخي نعيش ؟
ـ نحن الان في الجيل السابع والاربعين 1979ـ 2009 م ، وستتلونا ثلاثة أجيال حتى عام 2099 م حتى يكتمل العصر الخامس الذي بدأ عام 1799م بالجيل الحادي والاربعين وهو جيل التأسيس النهضوي.. ثم تبعته حتى جيلنا الحالي الذي بدأ عام 1979 أي على مدى 220 سنة ستة اجيال هي : جيل التنظيمات والاصلاحات وجيل الدستور وجيل الاستنارة الفكرية وجيل التكوينات الوطنية وجيل الثورة القومية وجيلنا اليوم هو الذي يبحث عن ذاته واستقلاله التاريخي في اخطر مخاض بدأ عام 1979 وسينتهي عام 2009 ، كي تبدأ حياة ثلاثة اجيال اخرى في القرن الحادي والعشرين على امتداد تسعين سنة قادمة ستقفل نفسها وستقفل تاريخ عصر كامل عام 2099 ؛ وقد أعطيت بعض الاستنتاجات والتنبؤات لما ستؤول اليه الاحوال حسب الرؤيوية التاريخية .. وستجد تفصيلات اجيالنا الحديثة والقادمة في كتاب المجايلة التاريخية .

# معنى ذلك ان جميع نبوءاتك في الذي تكتبه من دراسات وكتب وبحوث تنتمي الى هذا الطرح ؟
ـ اكاد اجزم بكلمة نعم !


# وعليه ، فانك تحدد بعد ما يؤكد علمية هذا الطرح ، الا ان مجرد العرض بدا للمتابعين ما يشبه التخمين ؟
ـ لقد افصحت عن بعض النتائج في عدد من الدراسات والبحوث والكتابات قبل نشر كتابي ” المجايلة التاريخية : فلسفة التكوين التاريخي ” ، فبدت للبعض من المتابعين انها مجرد تخمينات وفرضيات .. ولكن دع الناس تقرأ ما كتبته بحدود 600 صفحة في كتابي الجديد المذكور ، وعند ذاك ستطمئن الى انها ليست مجرد تخمينات وفرضيات ، بل انها استنتاجات معرفية من خلال تطبيقات وحسابات وقياسات رقمية عن كل ما اتيت به في نظرية فلسفة التكوين التاريخي .

# ولكن الى أي حد انت مطمئن على قولك ان الجيل الجديد من الشباب سيغدو مؤهلا وقادرا على العطاء والعمل وتولي زمام المسؤولية في الثلاثين سنة الاولى من القرن القادم ؟
ـ ربما ، انني اقول بان الاجيال الثلاثة القادمة في القرن القادم ستكون افضل من الاجيال الثلاثة التي اطّرت حياة القرن العشرين ، اذ اعتقد وربما كنت مخطئا بأن الجيل الخمسين عند نهاية القرن القادم سيكون افضل من الذي سبقه .. اذ ستفرض عليه الحياة والعالم والظروف اجمع بأن يعتمد على نفسه في الانتاج والعمل والاعتماد على النفس ، وستدين الاجيال القادمة الاباء والاجداد لما ضيعوه من الزمن والموارد والحياة على الاستهلاكيات والحروب والانقسامات ! ولابد ان تحدث تغييرات واسعة في الذهنية والتفكير العربيين وحتى على امتداد عالمنا الاسلامي ازاء متغيرات العصر ! صحيح ان رعبا يتملكني بعض الاحيان لما ستؤول اليه الامور سياسيا في عالمينا العربي والاسلامي ، نتيجة حدة التناقضات والاستلابات التي عاشتها اجيالنا الثلاثة في القرن العشرين وبواقعنا المعاصر وتفكيرنا الذي تستلبه المواريث والاحتقانات السالبة ازاء التحديات القوية والضاغطة التي تواجهنا على ارض الواقع .. ولكنني مؤمن بأن ارادة الخير ستنتصر من خلال المعرفة في نهاية الامر ، ليس في الثلاثين سنة القادمة بل عند نهاية القرن القادم !



# هذا شيىء مهم ، هل هو تصور ام نبوءة ام استنتاج معرفي وانت المعروف بافكارك المستقبلية ؟
ـ سّمه ما شئت ، ولكن الاجيال القادمة ستذكر ذلك ان جدّ جدها والتي ستدرك ان المعرفة والمنهج والتخطيط والتمدن والمؤسسات والانتاج والتكتل والحوار والتعددية والعلم .. هي التي ستنفعها في بناء المستقبل واستقلال الذات بعيدا عما يقوله المؤدلجون والخياليون والشعراء والنصيون والتقليديون والمتزمتون .. اننا سننهي حضارة الغرب وسنكون عمالقة في السنوات القادمة !! بل استطيع القول ان العرب والمسلمين أجمعين باستطاعتهم ان يرسموا اولى خطواتهم بعد 2099م أي بعد قرن من الزمن وقد صحوا فعلا على واقعهم بعد نضوب افكارهم ومستهلكاتهم وبترولهم ، وقّلت نسبة الامية فيهم وتعددت مشاربهم واحترموا ارادتهم وفهموا تاريخهم وحققوا معرفتهم واستقلاليتهم وقدروا منزلتهم واقلياتهم واسسوا مدنيتهم ومؤسساتهم وكوفئت نخباتهم المبدعة ! هذه هي استنتاجاتي المتواضعة ازاء مستقبل العرب والمسلمين .

# كم دام عملك في تأليف كتاب المجايلة التاريخية ؟
ـ عمر الفكرة قرابة عشر سنوات ، اما العمل فقد استغرق اربع سنوات كاملة اثناء وجودي في الجامعات الاردنية التي تمتاز بمكتباتها العامرة ، وقوة حركة الاتصالات فيها مع تشجيع بعض الاصدقاء والزملاء .. وعندما بدأت العمل وتأسيس الخطة للمشروع .. لم أكن اتوقع الخروج بمثل تلك النتائج المدهشة التي دلنتني عليها حصيلة الارقام وفاعلية المعلومات وساعدني في ذلك برنامجين ناجحين وضعتهما بنفسي على الحاسب الالكتروني سواء في بيانات القياسات الكمية والجداول ام محددات الرسوم والمخططات والاشكال .



# سمعنا ان كتاب المجايلة التاريخية يترجم الان الى الانكليزية والفرنسية ؟
ـ نعم ، يترجم الى الانكليزية في الولايات المتحدة الامريكية ، ولكن بعلمي وموافقتي وباشرافي على المحررات النهائية عندما يكتمل العمل بحول الله .

# كما قرأنا مؤخرا انك ستطبق نظريتك بمنهجها في التكوين التاريخي على المعرفة البشرية كاملة ؟
ـ اذا أعانني الله ، فذلك يحتاج الى جهود مضاعفة وكبيرة باجراء نقلة موسعة ليس من ناحية المضمون ، بل من نواح اخرى ، ابرزها : سعة المعلومات الموسوعية الهائلة التي يستوجب السيطرة عليها وترتيبها ومن ثم برمجتها على المنهج الكمي ومن خلال الحاسب الالكتروني ، فضلا عن سعة السقف التاريخي للمعرفة البشرية وسعة المساحة الجغرافية لها ، ومن ثم فان الصعوبة تكمن في جدولة كل ذلك بمنتهى الدقة والصبر لاجراء المقارنات وتحليل المنتجات للخروج باستنتاجات كبيرة يمكنها ان تفيد المستقبل .

# هل تعتقد ان كتابك ” التحولات العربية : اشكاليات الوعي وتحليل التناقضات وخطاب المستقبل ” جزءا من هذا المشروع في فلسفة التكوين التاريخي علما بأنه قد نشر قبل سنتين ؟
ـ فيه طروحات فكرية ونقدية تعطي بعض اشاراتها عن ” المشروع ” ، لكنه كتاب مهمته الاساسية نقدية لما هو عليه واقعنا العربي المستحدث والمعاصر ازاء حياة العصر على امتداد القرنين الاخيرين من الزمن ، ومن خلال ذلك طرحت بعض الافكار المستقبلية لرسم صورة جديدة مستندا على نقداتي وتحليلاتي لاشكاليات الوعي المتأزم نتيجة الانغلاقات والانكفاءات والتراجعيات مع تفاقم حدة التناقضات المريعة المتصادمة جميعها مع روح النهضة والتحضر .. وعليه ، فثمة مطالبات لضرورات اساسية لـ : التنظيم والبرمجة والمعرفة وتغيير التفكير السائد من خلال تجديد للقوانين واليات الدولة والتربويات والاساليب والسياسات والانفتاح الحضاري المنظم على المعرفة والعالم لتحقيق المزيد من فرص الحوار والحريات والتنمية والابداعات والوقفيات والعمران والحقوق الاجتماعية والعيش الكريم والعمل المنتج والاستثمارات ورعاية الكفاءات .. الخ
# وماذا عن كتابك ” الرؤية المختلفة ” ؟
ـ انه كتاب يجمع دراستين صدر مؤخرا يختص بنقد بعض اعمال وافكار ومعلومات الاستاذ محمد عابد الجابري ، واستطيع القول انني أول من كتب نقدا منشورا على افكاره في الخطاب العربي المعاصر والمشروع النهضوي الحديث منذ عام 1986 ..

# وبماذا خالفته عدا اسئلة التاريخ ؟
ـ ثمة نقاط خلاف منهجية وموضوعية ومعلوماتية ، ولكن للرجل منطلقاته وتجربته وتخصصه .. وله اسلوبه ووضوحه واستنتاجاته ، وكلها لابد ان نعتز بها اعتزازا كبيرا ، ولكن مهما بلغ ذلك ، فثمة ملاحظات نقدية سجلتها على هوامش بعض كتبه ، منها ما يختص بالمعلومات التاريخية او ببعض التحليلات الفكرية او السياسية .. ويمكنك ان تجدها متنوعة في محتويات الرؤية المختلفة .

# سمعنا ان لك رؤية مختصة عن العولمة ضمنتها واحد من كتبك اسمه : ” العولمة الجديدة ” ، فهل هي جزء من نظريتك للزمن العربي أم من مشروعك في التكوين التاريخي ؟ أم انها معالجة من نوع اخر ؟
ـ نعم ، لي كتابات عدة حول هذا ” الموضوع / الظاهرة ” الذي شاع في التسعينيات من هذا القرن ، ولي كتاب ” العولمة الجديدة والمجال الحيوي للشرق الاوسط : مفاهيم عصر قادم ” واتبعته بكتاب اخر : ” العولمة والمستقبل ” عالجت في الاول مفهوم العولمة وتأثيراتها على منطقتنا الشرق اوسطية التي تعد في الاساس ملكا جيوتاريخيا لنا وليس للاخرين . وقد خرجت بعدة اجتهادات متواضعة في معالجة ما يمكن معالجته ومواجهته ، ومنها بعض المقترحات التي اراها عملية في تأسيس مستقبلنا ازاء العولمة التي تنغرز في نسيجنا ومجتمعات وثقافات واقتصادات اخرى في االعالم ، ومن أبرز تلك المقترحات : السعي لتأسبس كتلة عربية اسلامية اقتصادية قبل ان تكون تحالفية سياسية لأن عصر التحالفات سينتهي في القرن المقبل بدء عصر التكتلات .. ثم السعي الحثيث لاجيالنا القادمة من قبل النخب الفاعلة في مجتمعاتنا العربية والاسلامية لتأسيس دور فعال لها على الساحة في معالجة التحديات والمخاطر ! وقد اختلف معي البعض في الذي نشروه حول طروحاتي هذه ، ولهم ألحق كل الحق في ذلك ولكن لم يعطوا البديل !

# وماذا عن كتابك : العولمة والمستقبل : استراتيجية تفكير !!! ؟
ـ انه من نوع اخر .. ان مضمونه يحمل نقدا صارخا لاوضاعنا سواء في واقعنا ام تفكيرنا ، فهو يفكك العولمة كظاهرة تاريخية معاصرة ومستقبلية ضمن سلسلة الظواهر الكبرى في التاريخ .. فهي ظاهرة كابيتالية تأتي بعد ظاهرة الاشتراكية وظاهرة الاستعمار وظاهرة الثورة الصناعية .. الخ من الظواهر الكبرى في التاريخ ؛ ولكنني اختلف عن بقية المحللين والمفكرين العرب الذين يحيلون كل مآسينا واوضارنا على مرجعية العوامل الخارجية ، اذ انني ارد ذلك الى العوامل الداخلية وما عشناه ولم نزل نرسخ تفكيرنا على الذهنية المركبة والتفكير الذي يروج للشعارات والنصوص المؤدلجة والمسوغات المخيالية بعيدا عن المهارات والاستفادة من التجارب .. ناهيكم عن الانقسامات وحدة التناقضات والثنائيات ! وازعم ان في الكتاب اجوبة مفيدة لاسئلة يفرضها التاريخ علينا ليس لمعالجة التخوفات من المستقبل ، بل في ايجاد وسائل وادوات واساليب وكيفيات للخروج من مأزق مألوفات الحاضر المر .

# انك تسعى لاعادة اسئلة التاريخ برؤية مستقبلية ، فيما تنطلق دعوة ملحة اليوم في الاوساط المعرفية لتخليص الماضي من المستقبل وتخليص المستقبل من الماضي ؟
ـ دعني أقول بأن المجتمعات الواعية والشعوب المتمدنة لا تهرب من حقائق تاريخها ولا من فهم ثقافاتها ، بل نجحت في توظيفها من اجل بناء مستقبلياتها .. وعلينا نحن العرب ومعنا عالم المسلمين الواسع ان نعترف بقصورنا الفاضح في الهروب من استكشاف انفسنا وتواريخنا وتنوعات ثقافاتنا !! ثمة حقائق دامغة تواجهنا لا يمكن ان تهرب منها تحت ذرائع ومسوغات وحجج واهية مرة باسم التراث ومرة باسم المقدس ومرة باسم الادلجة ومرة باسم السياسات !! ذلك لأن اسئلة التاريخ مفروضة علينا شئنا ام ابينا ومزروعة بقاياها الموجبة وخطاياها السالبة في جوانحنا وافكارنا وتصرفاتنا وحتى في لا وعينا !! وهناك اليوم خلط مبهم في المفاهيم والمصطلحات والمضامين والمعلومات حتى عند ابرز المفكرين العرب والمسلمين ! نظرا لضحالة معرفتهم وثقافتهم التاريخية والعامة ؛ وليس هناك امة تحترم نفسها ان لم تفهم تاريخها وثقافتها ، اقول تفهمه ولا تقدسه ، وكم عزفت ـ حتى عند التقدميين ـ ولم تزل معزوفة ومغناة مسألة التراث والحفاظ عليه ، وهي مسألة واهية وضعيفة كونها لم تؤسس على اساس من القطيعة المعرفية ! المشكلة عندنا غير محددة من أجل معالجتها ، فهناك اوساط ( معرفية ) لا تعالج بفايا التاريخ في الذهنية المسيطرة ! وهناك أوساط ( سياسية ) تنطلق من افكار مؤدلجة مسبقة ! وهناك اوساط ( جماهيرية ) ترّبت على مفاهيم خاطئة ومختلطة وكلها لا تعرف غير التمجيد والمفاخرات ! وهناك اوساط ( منعزلة ) تقفز على تواريخها بعيدا حتى عن واقعها وليس لها اية رؤية معاصرة بل تبقى في اسار زاوية ضيقة ومحددة ! انني اقول ان اسئلة التاريخ لابد من اعادتها على ضوء الرؤية النقدية المعرفية من اجل توظيفها لمعالجة واقعنا وبطبيعة الحال بناء مستقبلنا وهذه هي مهمة التاريخ ووظيفته .. لابد من توظيف تواريخنا لمعالجة انفسنا اليوم وبناء مستقبل اجيالنا واخراج التفكير العربي الراهن والذهنية المركبة في العالم الاسلامي المعاصر من عبادة النصوص والشخوص والتغني بالامجاد والمفاخرة بالبطولات الى فهم الاحداث والوقائع والسير والظواهر ، ثم تأسيس القطيعة مع البقايا المستهلكة المرعبة والترسبات التاريخية الصعبة ..

# اسئلة التاريخ بالنسبة لك الابتعاد عن مجاراة الواقع ، خاصة الرأي العام ، وليس صحيحا عندك ـ ايضا ـ قياس الغائب التاريخي على الشاهد الزماني ، الا يعني ذلك اصلا ان اطلاق اسئلة بوجه التاريخ تضيف لنا معضلة الى معضلة التاريخ نفسه ؟
ـ بل تحرره ! اسمعني يا عزيزي ، تاريخنا كما مضى ليس معضلة ، المعضلة في الذي ما زال يحمله على كاهله صبح مساء .. هذه الكتل البشرية التي تحمل ذهنيات مركبة من التراث والمعاصرة معا هي معضلة بحد ذاتها ! والتاريخ ليس مسؤولا عنها ، بل كان الانسان وموروثاته ! مجتمعاتنا قاطبة لم تتحرر ابدا من سطوة البقايا والترسبات فتأخرت كثيرا عن الركب .. وستبقى تلوك الغث والسمين وتجتر النصوص والشعارات دون أي تفكير يعمل على اثارة اسئلة التاريخ الحقيقية واجراء حفريات نقدية ومعرفية فيه حتى يأذن الله ! لقد مضت قرابة ستة اجيال من حياة العصر الحديث في قرنين كاملين من الزمن وتحولات الواقع بطيئة جدا جدا قياسا لما غدت عليه المجتمعات الاخرى التي لا تملك تواريخا ومواريث معقدة كالتي نمتلكها نحن .. معنى ذلك : اننا بحاجة الى ضرورات مضاعفة من اجل ترتيب علاقتنا الفكرية والمعرفية من خلال القطيعة النقدية الفاعلة والمفاهيم المنهجية والفلسفية العليا التي لا تقف امامها اية خطوط حمراء ! فمتى يحدث ذلك ؟ انني احترم الرأي العام ، ولكن هذا الرأي العام لم يترب على الديمقراطية ابدا ! لقد كان ولم يزل ترعبه السلطويات مهما كان نوعها سياسية واجتماعية وايديولوجية ! الم يحن الوقت ونحن في عصر المعلومات ان يثير نقديا اسئلة التاريخ واسئلة السياسة واسئلة المجتمع واسئلة الفلسفة واسئلة الادب .. من أجل ان يتعلم الجديد وان يختط له تفكير المعرفة بعيدا عن المراوغة والتسويغ والتبرير والمفاخرة والتمجيد .. ومن اجل ان يتخلص من مشكلة التلفيق التي تعلمها مؤخرا بين التراث والمعاصرة ؟؟

# وهل تعتقد ان هذا لوحده سر تخلفنا ؟
ـ اتمنى ان تقرأ ما كتبته في فلسفة التكوين التاريخي والمجايلة التاريخية .. لقد تأخرنا جدا نحن العرب ومعنا مجتمعات العالم الاسلامي عن الدورة الحضارية الحديثة بفعل ما صنعته بنا الافكار الجاهزة والسياسات الداخلية والايديولوجيات المستوردة واجترار الافكار والمحددات ذات الخطوط الحمراء ناهيك عن التربويات الهزيلة والانغلاقيات على النصوص والمقتبسات التي علمت الرأي العام ليس كظم غيضه وكبت رأيه واللعب بعواطفه والاستخفاف بمبدعيه وارائهم .. بل ودجنّته على هز الرؤوس بأن يقول نعم لكل ما يسمعه ويقرأه ، وان يقيم في محراب المدائح والتمجيديات والمفاخرة والتقديس للماضويات وعلى الشوفينية والقطرية والعشائرية والتظاهرات والشعارات .. الخ التي لم تعد تجدي نفعا بديلا عن النقد والحوارات والتواضع والجداليات والانفتاح الفكري والمعلومات .. واليوم زاد الضرب على اوتار الماضي بسعي اغلب سياسات العالم الاسلامي عن ابعاد الجيل الجديد عن المعرفة المدنية وعن المؤسسات العلمية ، وانها تساهم من حيث تدري ولا تدري بزج التراث مهما كان نوعه في التكوين العلمي المعاصر بعبادته وتقديسه بدل نقده وفهمه !

# دكتور سيار ، لك اراؤك في المجال الحيوي ـ كما أسميته في كتابك العولمة الجديدة ـ فماذا يعني ذلك بالنسبة لمن يتعامل مع مستقبلياتنا ؟
ـ ثمة مجالات حيوية في العالم اليوم من خلال التعامل مع الجيوستراتيجيات المعاصرة ، وتطمح العولمة الجديدة الاستفادة من عناصرها الاساسية مهما كانت الاثمان . ولعل من ابرز تلك المجالات الحيوية هي التي يمتد على جنباتها الشرق الاوسط سواء بمناطقه العربية المتوسطية ام الخليجية ام الايرانية والتركية والقوقازية والتي تشكل مربع ازمات لما يمتلكه من الاحتياطيات البترولية الهائلة او الثروات المائية او القوة الديمغرافية او القدرات الزراعية .. هذه العناصر الاربعه التي لا يمكن لاصحابها الحفاظ على مصالحهم ازاءها دون اتخاذ سياسات جديدة ومستقبلية تراعى فيها المصالح الاقليمية والامن المشترك وتأسيس التكتلات الاقتصادية لرعاية مجتمعاتنا التي انهكتها الحروب والمنافسات والصراعات السياسية والدكتاتوريات السلطوية من اجل بدء عصر جديد يستطيع ابناؤنا في دول ومجتمعات هذا المجال الحيوي التعامل مع العولمة الجديدة على اسس وقواعد جديدة وعقليات جديدة وقوانين جديدة ودساتير جديدة وتربويات جديدة .. اما ان بقيت الامور كما كانت سائدة في القرن العشرين فستحل التفككات والانقسامات والانهيارات لا سمح الله .. وتفصيلات ذلك كلها نشرتها في اكثر من مكان .. كما خصصت لابرز منطقة مهمة وذات مجال حيوي ومستقبلي في القرن القادم ، هي منطقة الخليج العربي اكثر من ثلاثة بحوث ستنشر قريبا ، هي : المجال الحيوي للخليج العربي ، وعولمة الخليج العربي ، والمشكلات المستقبلية للعالم الاسلامي المعاصر .

# واخيرا ، ماذا عن اعمالك الحالية ومنشوراتك القادمة ؟
ـ أعمل الان على وضع اللمسات الاخيرة على كتاب جديد سيصدر في العام القادم وهو يعتني علميا ونقديا ووثائقيا بتاريخ أحد ابرز الشخصيات الفكرية في عالمنا الاسلامي الحديث هو السيد جمال الدين الافغاني الذي كان ولم يزل اسمه تتداوله الالسنة ، وان كتابي سيكشف عن تفكيره المزدوج ورسم صورة اخرى له لا كما يريدها المعجبين به فيقدسونه ، ولا كما يريدها له أعداؤه فينتقصون منه .. وساكشف من خلال بعض الحفريات النقدية والوثائق النادرة التي استطعت التوصل اليها عن اشياء جديدة ومهمة جدا تخص علاقات الرجل باطراف اخرى فضلا عن التوغل في مشروعه الذي رسخه في تفكير المسلمين المعاصر !

# وماذا أيضا ؟
العمل في انجاز بحوث ونشر اعمال اخرى تاريخية وفلسفية ونقدية تخص معالجة واقعنا ومستقبلنا لا اريد الاعلان عنها الان .

# دكتور سيار .. شكرا جزيلا راجين محاورتك في مواضيع اخرى في المستقبل القريب تخص هموم الامة وذكريات الوطن وتجربتك في النقد والادب والتاريخ ..
ـ ان شاء الله

الزمان وصحف اخرى ، فبراير 2000

شاهد أيضاً

ملف: إمكانية حكم دكتاتور عادل للعراق.. حوار عراقي مصري بين الدكتور سيّار الجميل والأستاذ عبد الله كمال على روز اليوسف المصرية

مقدمة كتب الصديق الأستاذ عبد الله كمال عضو مجلس الشورى المصري ورئيس تحرير كل من …