الرئيسية / حوارات / حوار مع المفكّر العراقي الدكتور سيّار الجميل .. حاوره د. سمر ماضي و د. إسماعيل الربيعي

حوار مع المفكّر العراقي الدكتور سيّار الجميل .. حاوره د. سمر ماضي و د. إسماعيل الربيعي

سيّار الجميل .. هذا الاسم الكبير المتوهج .. هذا المفكر العراقي العربي الاصيل.. هذا المؤرخ المتمّيز بمنتجاته وابداعاته وفلسفته للحياة والزمن والتاريخ .. هذا الذي يهوى حياة العصر وقد اثرى ثقافتنا العربية بكل جديد .. وهو المتواضع الذي لا يأبه للتفخيمات والتعظيمات وقد امتلك ناصية النقد وآليات التفكيك بحيث يخشى الاخرون الاقتراب منه .. هذا الذي تعب على نفسه وتكوينه الخصب وترّبى تربيته الخاصة وارتوى من بيت عربي اصيل وهو حفيد شاعر نهضوي جليل القدر وابن مثقف ورجل قانون ضليع .. قرأ ثقافات عدة وله موهبة في النقد وملكة في فحص الادلة ودقة في كشف العورات ونقد المعلومات وله اسلوبه البارع اذ تأسرك كلماته وجماليات ادبه وتوليده ونحته لعدد كبير من المصطلحات والتعبيرات العربية .. هذا الذي قّدم افكاره وقناعاته وتصوراته وتحليلاته في الاستراتيجية والتحولات العولمية ومن الغرابة والدهشة ان كل توقعاته التي نشرها قبل سنوات قد حدثت عند مطلع هذا القرن !
وان التقيت به سحرتك كاريزماه وجذبك الى ما يقول .. تجده رومانسي حالم في حياته يهوى الموسيقى والشعر وفي الوقت نفسه واقعي براغماتي في تنظيم زمنه وعمله وتفكيره هذا الذي دفع ثمنا باهضا من قبل خصومه وحّساده ذات اليمين واليسار العربيين معا على ترابه العربي جراء استقلاليته السياسية وحرية كلمته وجرأته وقوة آرائه ونقداته وموضوعيته ودقته وعلميته.. هذا الذي يحترم كل المعتقدات الدينية والاتجاهات الفكرية والتيارات السياسية ولكنه يأبى المؤدلجات والتحّزبات والانخراط بين جدرانها الموبوءة .. وهو يحارب التخلف والبلادة ويؤمن بالحرية والتقدم فهو الذي يمّثل فكريا ريادة الليبرالية العربية الجديدة بأبهى تجلياتها .. هذا الذي يريد امة عربية ليست شوفينية بليدة ، بل يريدها ذكية وعاقلة ومنتجة وحرة ومحترمة فاعلة بصمت من دون شعارات تشارك العالم ابداعاته ويأتلف فيها كل انواع البشر ويتعلم منها كل العالم !! دعوني اشارك في حوار هذا المفكر القادم من اعماق ارض الحضارات .. من العراق .
( د. سمر ماضي )
كمّ من الهواجس المعرفية التي لا تعرف للطمأنينة طريقا أو بوابات، إستراتيجيات من التبصرات النافذة نحو شمس المعنى الساطع، من دون الوقوع بين براثن الاكتمالات والمطلقات، لافظ للتواطءات والمصالحات، ساع بكل ما ملك من روح نحو لي الراسخ والثابت، دائب بصبر وأناة للتدقيق في تلك الملامح، التي لا تستدعي الوصف فقط، بقدر ما تكون الممارسة حاضرة بكل توقها ومعتركاتها واذكاراتها.
منشغل هذا الرجل حد الافتتان بالوقوف على الصياغات، والحفر العميق في تحولات الواقع والمعرفة، في استبصار لايني من الابتعاد عن التقعيد والتعقيد،توقد يلهب الحماس في مناطق الانطفاء الكثيرة في الأرض اليباب العربية ، التي سكنت الى الأسباب من دون التفكر لحظة بالتكونات والتفاعلات والحركات.مسافر زاده الاسترشاد بحركة الواقع، وكاشف حاذق للأسباب والعلل، تلك التي استوطنت في حشاش العلاقات، صاخب من دون ضجيج، عراقي من قمة رأسه حتى أخمص قدميه ، عروبي صميم كأنه لا يعرف الارتواء إلا من حليب الناقة، حاد وباتر وصارم كأنه جراح إنكليزي، دقيق لا تميزه عن ابرع حرفيي الساعات السويسريين الجالسين في ضواحي جنيف.
في بحثه الدؤوب عن مواطن الاشكالات والتقرحات، لا يفتأ من الولوج في احتدامات الضرورات والمحظورات، مؤرخ من سلالة التبجيل والتقدير ، عاكف على الترتيب والتوظيب والتقميش والتهميش، حتى لتراه بالعين مجالسا للطبري واليعقوبي والغزي والمقري،، يطرب لبيت شعر يقوله مقيس بن صبابة، ويقف باجلال عند الزهري المحدث،ومستزيدا من الفراهيدي اللغوي،ومستمعا الى عمرو بن عبيد المتكلم،ومتفحصا في نصوص ابن الزيات الكاتب،متبصرا في تجليات الجاحظ المفكر،ومابين الصولي والمحاسبي والنظام والجمحي والكندي وابن خلدون ، يستغرق محاورا وقارءا ومفككا لنيتشه وهيدغر وميشال فوكو .
سيار الجميل خلطة سحرية من المؤرخ الفيلسوف ، والفيلسوف المؤرخ، حيث التماهي في أقصاه.متهاديا يسير في عالم المخطوطات والمجلدات والموسوعات والأبحاث والمؤلفات، من دون سكون ولا اضطراب، يعانق السؤال الذي ملأ عليه حواسه، حيث الرجوع الى غريزة التفكير، تلك التي ما انفكت تؤسر عليه لبه.


( د. اسماعيل الربيعي )


سيرة تعريفية :
ولد سيار الجميل في الموصل / العراق العام 1952 . ونال دكتوراه الفلسفة ( التاريخ الحديث ) في جامعة سانت اندروس الاسكتلندية العام 1982 . عمل محاضرا واستاذا في جامعات : وهران وتونس الاولى والموصل واليرموك وآل البيت والامارات .. استاذ زائر في جامعة كيل بالمانيا الغربية منذ العام 1987. شارك في عشرات المؤتمرات الدولية والندوات العلمية . حصل على عدة جوائز علمية منها شومان ( 1991 ) وبراءة تقدير ( 1992 ) وقلادة الابداع للعلماء المتميزين ( 1995 ) . تخّرج على يديه العديد من حملة الماجستير والدكتوراه . وهو عضو مزامل ومشارك في العديد من المؤسسات الاكاديمية والجمعيات الثقافية وهيئات التحرير واللجان الاستشارية والمراكز العلمية والمنتديات الفكرية والسياسية في العالم . خبير دولي في الدراسات الاجتماعية والثقافية للعديد من المنظمات والمراكز العلمية .ادار العديد من وحدات البحوث والدراسات وورشات العمل البحثية في تاريخ المدن الاجتماعي والاقتصادي . شارك في كتابة وتحرير موضوعات مختزلة للانسكلوبيديا الاسلامية والانسكلوبيديا التركية وموسوعة المدن الكبرى وموسوعة تاريخ الثقافة البشرية الحديثة وموسوعة التاريخ العالمي. له اكثر من عشرين كتابا منشورا ونشر 76 بحثا علميا في العربية والانكليزية . ترجمت بعض اعماله الى الانكليزية والفرنسية والتركية . اشترك مع علماء آخرين في دراسات مشتركة ، منهم : سمير امين وبيتر بيرك وخليل انالجيك وغيرهم . يعمل على تأسيس مشروع معرفي في كيفيات التعامل بين الثقافات والعولمة من خلال انشاء مركز I.C.N.C في تورنتو / كندا .
من اهم كتبه المنشورة :
– A Critical Edition of ADDURR: 1514-1812, Edinburgh, Scotland, 1983.
العثمانيون وتكوين العرب الحديث / تكوين العرب الحديث / بقايا وجذور / العرب والاتراك : الانبعاث والتحديث من العثمنة الى العلمنة / المجايلة التاريخية : فلسفة التكوين التاريخي / زعماء وافندية / تفكيك هيكل / العولمة الجديدة / استراتيجية تفكير !/ التحولات العربية / النسر الاحمر / الدليل التاريخي / الرؤية المختلفة / انتلجينسيا العراق / المجال الحيوي للخليح العربي وغيرها .




وكان اللقاء وهذا الحوار :

سؤال : يقال انك سليل عائلة عراقية عريقة لها ارث ادبي وعلمي وارستقراطي .. فهل كان لذلك كله تأثيره على شخصيتك وابداعاتك ؟
– ربما بعض الشيىء .. ولكنني لا اؤمن بالسلالات والارستقراطية ولم تكن تربيتي ارستقراطية .. لست من آل جميل زاده ببغداد فنحن من آل الجميل بالموصل .. نجح والدي – رحمه الله – وهو واحد من رجال القانون البارعين ان يحسن تربيتنا وتربيت في بيت يعتز بمواريث الشعر والادب وكان جّدي علي الجميل مثقفا بارعا وكاتبا لامعا لم ازل اردد ابيات من شعره .. عشت منذ صغري مع الكتب والارواق والاقلام في بيتنا القديم واعتقد ان الزمن والسفر والتفكير بالمعاني والاشياء والحياة ومتغيرات العالم هي التي أثرت على تكويني اكثر من كلاسيكيات بيئة عائلية قديمة لم اعايشها الا في سنواتي العراقية الاولى .. مع اعتزازي بمدينتي ووطني .
سؤال : ما هي هواياتك ؟ وما الذي تحب ممارسته اثناء اوقات الفراغ ؟
– ليس لدّي أوقات فراغ ابدا .. ولا أحب سماع هذا التعبير فالزمن اثمن شيىء في وجود الانسان . هواياتي متنوعة كالموسيقى والسفر وقراءة كتب المذكرات ..
سؤال : يقال انك تمارس لعبة الاسنوكر والبليارد ..
– كان ذلك قبل اكثر من عشرين سنة عندما حصلت على بطولة فيها
سؤال : ما الذي يعجبك من الموسيقى ؟
– الموسيقى الكلاسيكية ولي معرفة وخبرة فيها وبمؤلفيها والسمفونيات والكونشترتوات ..
سؤال : ومن تهوى سماع موسيقاه ؟
– الموسيقار النمساوي غوستاف مالر في اروع ابداعاته وسمفونياته التسع .. ولكن لدي ما يمكن قوله هنا ان الموسيقى عالم شفاف جدا لا يمكنني التمتع به الا بمزاج خاص وحالة خاصة وفي بيئة تساعدني على سماع فضاءاته والحالة التي يمكنني ان اكون جزءا منها ..
سؤال : وهل تهوى سماع الغناء الشرقي ؟
– طبعا ، والطرب العربي في مقدمة ذلك .
سؤال : ومن تهوى سماع طربه ؟
– الاوائل اهوى ابداعاتهم وبعض المتأخرين اذ لم يتبق اليوم الا النادر من المطربين .
سؤال : ما هو اهم ما يمكن للعرب ان يهتموا به ؟
– الزمن وكيفية توظيفه لبناء مستقبلهم .
سؤال : ما الذي تريده من العرب ؟ اقصد ما اهم ما تدعوهم اليه ؟ اي بمعنى : ما الذي يمكنك ان تفيدهم به ؟
– ان يفكرّوا .. ان يؤمنوا بالنسبية في تقويم الامور بعيدا عن مطلقات الاشياء .. ان يدققوا كثيرا .. ان يشككوا في كل ما يقرأونه .. ان يؤمنوا بالقيم الديمقراطية .. ان يميزوا بين القيم العليا والقيم العادية .. ان يحترموا الزمن بشدة .. ان يكون عندهم مشروع محبة يجمعهم .. ان يكف بعضهم عن التلفيق وعن الاطراء والتزييف والاطناب والمديح والمفاخرات والانوية والنرجسية .. ان يحبوا الاخرين .. ان يقرأوا كثيرا .. ان يجادلوا بالحق .. ان لا يصادروا حقوق المرأة .. ان يؤمنوا بالتقدم والحداثة .. ان يكفوا عن عبادة الاوهام والاشباح ان ينبذوا الخرافات ان يبحثوا من اجل حقائق الاشياء .. ان يجددوا حياتهم المدنية من خلال قوانينهم المدنية وتربوياتهم المدنية واساليبهم المدينة ومقاصدهم الاساسية .. عليهم بتوظيف التاريخ واحترام الماضي لا تقديسه .. عليهم بتنمية التفكير .. ان يعرفوا كيف يكتبون وكيف يتكلمون وكيف يعيشون وكيف يربون اولادهم .. عليهم بالصدق والتواضع واجتناب الكبائر .. هل تريدين اكثر من ذلك !
سؤال : هل تعتقد انك كاتب شامل ذائع الصيت ام فيلسوف عربي غير معلن عنه ولم يأخذ مكانته بعد في الحياة العربية ؟
– هذا سؤال اكبر مني .. دعيني منه رجاء . لا اريد ان تشتمني الناس .. رجاء دعي الناس هي التي تقول كلمتها .. ان ليس اليوم فالمستقبل ابوابه ستفتح وستقول احفادنا فينا احكامها ..
سؤال : ولكن العرب لهم حصصهم وموازناتهم ومحاصصاتهم حتى في ثقافتهم .. فكم من مبدع عراقي غبن ولم يسمع صوته وسط ضجيج اعلامي عربي صارخ تؤلفه سلطات وقوى قطرية واحزاب ترفع اسماء وتحّط من قدر اسماء اخرى !
– هذه سنة الحياة العربية المعاصرة التي عرفناها منذ ان خلقت .. ربما يختلف الناس بغير الناس من بيئة لأخرى .. فما نراه في مصر مثلا من علاقات واعلاميات ربما لا نجدها في العراق وعند العراقيين بالذات .. اي بمعنى لكل بيئة عربية اساليب وادوات وطبائع ومخلوقات تختلف عن الاخرى . ان العراقيين قد ضيّعهم حكامهم واحزابهم وايديولوجياتهم وتعصباتهم على مدى خمسين سنة ، وكان لابد ان يحيا العراقيون من مثقفين ومبدعين ومتخصصين في وطنهم .. كان لابد ان يعملوا على ترابهم .. كان لابد ان يموتوا على ارضهم .. كان لابد ان يفخر احدهم بالاخر .. كان لابد ان ينعموا بظل عراقهم وبخيراته .. لكنهم تشردوا وعانوا وتمزقوا .. فقبل ان نعتب على الاخرين لابد ان ننقد ما الذي جرّته علينا اوضاعنا ..
سؤال : ولكن الم تكن هناك ادوار عربية في تغييب العراقيين ؟
– ربما ، ولكن ان لم يجد العرب ان هناك ثمة سياسات ومناخات مساعدة لما غبن هذا على حساب ذاك .. وعلينا ان لا نقف عند النتائج ، بل لابد لنا ان نفحص الاسباب . لابد ان نعرف اولا بأن العراقيين لا سند لهم يدافع عن حقوقهم ووجودهم وابداعاتهم وثانيا ان ندرك من كان ولم يزل يسيطر على الاعلام العربي من الاخوة العرب وثالثا لابد ان نفقه اللعب السياسية وراء السلطات العربية وعمليات صناعة هذا على حساب ذاك .. الخ
سؤال : سابقى مصّرة على معرفة سبب ذيوع اسمك في امريكا مثلا مقارنة بما هو عليه الحال في عالمنا العربي .. ومنذ ان نشرت مشروعك في فلسفة التكوين التاريخي وسلاسل الاجيال بدت اهتمامات واسعة بمقالات كتبت عنك هناك قبل ان ابدأ بترجمة كتابك ( المجايلة ) الى الانكليزية ..
– هذا امر متوقّع .. فلقد كتبت ( المجايلة ) لاجيال المستقبل عربيا .. ولا تنسين ايضا ان مؤرخينا العرب يكتبون تاريخا ولا يكتبون فلسفة للتاريخ ! ان ( المجايلة ) ثمرة التسعينيات في حين ان مشروع ( التكوين التاريخي ) ثمرة الثمانينيات ولقد اهتم بعض الزملاء في الولايات المتحدة بالمشروع الاول قبل اهتمامهم بالثاني ، وخصوصا ما كتبته ونشرت عنه كل من المؤرخة دينا خوري واستاذ الفلسفة بيتر ثورون والصديق الكاتب توماس لنك وغيرهم.
سؤال : ما العلاقة العضوية بين ” الرؤيوية ” التي دعوت اليها منذ كتابك الاول في مشروعك الاول وبين ” فلسفة الاجيال ” في مشروعك الثاني ؟ وهل ثمة رابط ايضا بينهما ومشروع ” التفكيك ” النقدي ؟
– لا احب مصطلح ( مشروع ) فانا لست صاحب مشروعات حتى اتفلسف بها على اقراني في هذا العالم . ان لدي مجموعة افكار ازعم انها جديدة وهي مترابطة حقا ، بين ” الرؤيوية ” و ” سلاسل الاجيال ” رابط هو ( فلسفة التكوين التاريخ ) الذي يعتمد جملة مبادىء نظرية قدمت عليها تطبيقات عديدة اولاها فحص ترسبات التاريخ ومكوناته من خلال جذوره وبقاياه .. ثانيها ربط الدواخل بالاطراف في اطر المكان وجيو تاريخيته وهذا انتج الاهتمام بجيو ستراتيجية المجالات الحيوية في العالم المعاصر .. ثالثها محاولة الخروج من ماضويات التاريخ بتكوين قطيعة معرفية وليست بالضرورة تاريخية من اجل توليد حالة منهاجية رؤيوية جديدة للحياة والمستقبل .. رابعها استبطان مخفيات ما وراء النص بعيدا عن السرد وعدم الاكتفاء بالظاهر وهنا تتطلب الحاجة الى مهارات ومقارنات لاستنباط النتائج التاريخية والاستنتاجات المعرفية ثانيا .. وهذا كله هو الذي اثمر عن آليات التفكيك النقدي في مطارحاتي ومعالجاتي لظواهر اراها قد غيبّت الحياة العربية وراء التاريخ اي الكشف عن الزيف فيها حتى وان اختلفنا مع حقائق ذلك التاريخ .. خامسها وهو المطلوب : ما الذي اثمر عن هذا كله ؟ بتواضع ارى ان حصيلته جملة من النتائج الرائعة التي خدمتني في تحليلات وتوقّعات سياسية وفكرية وجيوستراتيجية من اجل المستقبل .
سؤال : المعروف عنك انك دوما تؤكد من خلال كتاباتك ومحاضراتك على امور وتوقعات اغلبها يحدث .. ما مدى استفادتك من كل من الرؤيوية و المجايلة في ذلك .. علما بأن ما توقعته قد حصل ، مثل : سقوط الاتحاد السوفييتي عام 1992.. وما توقّعت حدوثه في الولايات المتحدة من احداث دراماتيكية عند مطلع القرن الجديد ؟ وقد توقعت ايضا سقوط النظام العراقي عام 2009 ولكنه سقط العام 2003 ؟
– اعتقد انه لولا الحرب التي شنتها الولايات المتحدة وقوى التحالف باسقاط نظام صدام حسين ، فقد كان بمقدور النظام ان يعيش مترنحا حتى 2009 هذا ما كنت اقوله منذ سقوط الاتحاد السوفييتي .. اي ان عوامل الانهيار كانت موجودة وتنخر في جسد العراق السياسي ولم يكن باستطاعته البقاء ابدا ! اما عن هذه التوقعات فهي من قبيل الثيمات والاستنتاجات لا من قبيل التنبؤات ، فالاحداث التاريخية عندما تحدث لها ظروف ولادة ومسببات لابد من التوغل في معرفة قوة نضج الاسباب وقوة تفاعلات المصالح ومراقبة التباينات في العلل والمعلولات ولكل قوة تكوينية في التاريخ عمر زمني .. فاذا نجح المرء في قياس ذلك امتلك توقعات تأتي في اغلبها كما هي وليدة ظروف وليس وليدة اقدار .. وحتى الحرب الاخيرة التي راهن عليها البلداء والاغبياء ، فهي مقررة سلفا لصالح الاقوى بدليل عدم وجود اية موازنات بين قوة الطرفين .
سؤال : اريد معرفة كما وعدت قراءك انك ستطبق نظريتك في المجايلة على التاريخ البشري بعد ان نجحت في تطبيقاتك على التاريخ العربي الاسلامي .. فهل مشروعك قائم ؟
– نعم قائم ولكنه بحاجة الى اتعاب كبرى واكثر من برنامج على الحاسب الالي انه بحاجة الى زمن وبحاجة الى مساعدي بحث يعاونوني للتصدي له من النواحي الاحصائية واتباع المنهج الكمي .. واذا انجز فانني اتأمل بأن نتائجه ستكون مذهلة جدا .
سؤال : منذ العام 2000 ، لم تنشر اي كتاب .. ولكن بدا اهتمامك بالمقالات اكبر ! لماذا ؟
– لدي الان عدة اعمال جاهزة وتحت النشر اكثر من عمل ، ولكن ثمة ظروف خاصة مررت بها اخّرت بعض اعمالي وخصوصا عدم استقراري بمكان منذ العام 2000.
سؤال : بودي ان أسألك اسئلة صعبة وانا اتوقع منك وضوح الاجابة لما عهدناه فيك من الجرأة والشجاعة الكافية وسبل الاقناع .. لقد ذكرت في واحدة من مقالاتك اننا كعرب لم نقرأ تاريخنا بعد قراءة نقدية .. فماذا تريد ان تقول هل هناك مخفيات فيه ؟ وهل هناك مستور عنه ؟ وهل هناك ما لم يكشف منه ؟
– لست الوحيد الذي قال بذلك .. لقد سبقني غيري باثارة هذا كله ، ولكن لا حياة لمن تنادي في وسط عالم يجمع كتب منمقة ومطرزة ومزينة يتباهى باغلفتها ولا يقرأ منها شيئا ! علينا ان ندرك بأن هناك من يقدّس سفاسف التاريخ ولا يريد زحزحة تفكيره بالوعي به فكيف تريدين منه دراسته نقديا ! هناك بنية كهنوتية من المؤرخين والكتاب العرب والمسلمين الذين يمكنني ان اطلق عليهم بارثودكسية اللا تفكير من الذين لا يريدون الا اتباع التقاليد الميتة التي عرفها الاباء والاجداد فقط على شاكلة تسجيل الحوليات وترديد المقولات الخاطئة ! وهناك كتاب وباحثين عرب انتقائيون لا يريدون الكشف عن كل مخفيات هذا التاريخ واسراره خوفا ورعبا من سلطة المجتمع قبل سلطة الدولة ! وهناك كتاب ومفكرون عرب مؤدلجون يريدون اثارة ما ينفع اجندتهم وافكارهم السياسية من دون اي منهج ولا اي عملية تفكيك ! وهناك ندرة من باحثين حقيقيين لا يمكنهم ان يغطوا كل هذا التاريخ والتراث باعماقه الدنيا وآفاقه الواسعة وهم قد جعلوا دراسة التاريخ وتدريسه مهنة او حرفة ترزقهم واولادهم .. فلا يريدون اذكاء النيران او اثارة المستور من علامات الاستفهام ! الخ
سؤال 🙁 عفوا للمقاطعة) هل تريد القول ان ليس هناك اية استفادة من المناهج الحديثة ؟
– لقد مرت اكثر من مائة سنة على ولادة افكار ومناهج وقراءات وكتابات عن تاريخنا .. وترجمت فلسفات وكتب ومناهج الى العربية ، وتعّرف العرب على اساليب وسبل متطورة حديثة ، بل ودرس خيرة ابناء العربية في جامعات عالمية متقدمة .. ولكن يبدو انهم لم يوفقوا في تطبيق سبل الحداثة بفعل سطوة التفكير القائم !! ولم اجد هناك من له القدرة والجرأة حتى اليوم على ان يفصل بين الماضي والحاضر .. لقد مرت عشرات السنين وكتابة التاريخ عربيا تمشي على عكازات مكسّرة وتخشى من اثارة موضوعات وتتمنع على ان تثير اية اشكاليات او معالجة اية مشكلات .. الخ والاحوج الينا والى تفكيرنا ان نشّخص السلبيات في تاريخنا وان نمتلك الشجاعة الكافية لكي يقول الانسان اليوم بأن في تاريخنا خطايا ارتكبها العرب انفسهم بحق انفسهم وبحق اجيالهم ومستقبلهم ! لابد ان تدرك الاجيال اليوم بأن تاريخنا ليس كله مزدهر وعظيم وان لا نبقى نزّمر ونطّبل ونغّرر بالاجيال بأن ليس للعرب من مثالب وليس للمسلمين من هنات وليس للحكام والخلفاء والسلاطين من موبقات .. لا يمكن ان نبقى اسرى الخوف من بعض الذين ليست لديهم الا التهم الجاهزة فيتهمونك بالمروق والاستشراق والكفر وانت من ابعد الناس عن ذلك .. ليس من الصحة ان نسكت على ما حدث في تاريخنا من ظلم ومن عبودية ومن استبداد ومن قمع ومن قطع رؤوس وحز رقاب ومن معارك قبلية او صراعات محلية او طبقية او سياسية .. او حتى من ممارسات جنسية واباحية ضد المرأة تحت ابواب ما يجوز وما لا يجوز !! ليس من الحقيقة ان نقمع اي صوت يريد ان يعلن ما سكت عنه الاخرون .. ليس من العدالة ان نبقى اسرى الكهنوت سواء من رجال احتكروا الدين واحتكروا التاريخ ايضا ! ليس كما تعلن بعض السلطات الشوفينية والايديولوجيات الكاذبة ان اثارة موضوعات حقيقية سيفكك كيان الامة وينخر الثقافة ويميت العرب ويتصدّون للنقاد والمفكرين تحت شعار ( لا تجلدوا الذات .. ) .. العكس هو الصحيح .
سؤال : ماذا انتج ذلك كله دكتور سيار ؟
ان السكوت عن اعلان الحقيقة والخوف من ممارسة النقد ومعالجة ما حدث من اخطاء وخطايا في تاريخنا هو الذي يجعل الاجيال تعيش وهما مزدوجا وثنائيات غبية ! لا يمكن ابدا ان نبقى اسرى العناوين الخلابة والمعلومات العامة المزيفة من دون معرفة ما يكمن في الاعماق من خطايا حصلت وانتجت واثمرت بحكم ترسبات التاريخ . ليس من الحكمة ان نسكت على تواريخنا الكسيحة ونصبغها بصبغات ملونة مضيئة ونزيّف تاريخنا ونربي اولادنا على الزيف والبهتان .. ليس من المنطق ان نمزج تاريخنا الحضاري وهذا العالم المضيى ء من حضارتنا وثقافتنا ورقينا عبر التاريخ بما صنعه تاريخنا السياسي المقيت بكل ما حفل به من السيئات ومشروعات القتل والسمل والخنوع والعبودية والظلم والاستبداد .. لابد ان يخرج ايضا اولئك المتشرنقون بمرجعيات ومنطلقات طائفية ومذهبية وعرقية وقومية شوفينية وسلطوية وقبلية من اثيابهم ليكونوا حياديين وموضوعيين في معالجة التاريخ واتخاذ المواقف .. واخيرا ، لابد للعرب ان يتخلصوا من الانوية والشخصنة والمحليات والجهويات وايضا ما ولد في القرن العشرين من القطريات المقيتة بحيث هذا يرى امجاده مصرية فرعونية وذاك يرى عظمته شامية اموية والاخر يرى عراقيته فوق الجميع وهذا يتفاخر باردنيته البدوية او لبنانيته الجبلية او ليبيته العظمى او تونسيته الخضراوية او خصوصياته المغربية او جزائريته الثورية او فلسطينية لا تمس .. الخ لابد من الاعتراف بأن هناك في تاريخنا مركزيات ومحاور واطراف .. هناك اعمار وازمان واجيال وآجال .. هناك مدن حضرية وهناك ارياف زراعية وهناك بواد وصحراوات وجبال .. هناك سواحل ودواخل .. هناك حضارات نهرية قديمة وهناك آثار وكنوز في خارطة تاريخية متغيرة لم تكن هكذا ابدا عبر الزمن كالتي نراها في القرن العشرين ! وآخر ما يمكنني قوله ان تاريخنا الاسلامي بالذات يتجاوز عمره 1400 سنة لا يمكن ان نقف فقط على اربعين سنة منه ونترك 1360 سنة منه .. لا يمكن ان نتجاهل ما حدث حتى في هذه الاربعين سنة من حكم الخلفاء الراشدين من اخطاء وفتن ومشكلات الى جنب المنجزات ! لا يمكن لمن يعتز بالامويين وتاريخهم ان ينكر ما حدث من مآس وظلم في عهودهم ! لا يمكن لمن يعتز بالعباسيين وتاريخهم ان ينكر ما حدث من خطايا قاتلة وثورات مميتة وانقسامات مريعة في عهودهم ! لا يمكن لمن يعتز بالفاطميين وتاريخهم ان ينكر ما فعلوه ويتغاضى عن ذلك ! لا يمكن لمن يعتز بالاندلسيين ان ينكر حجم الانقسامات والتشرذمات ومملكات العصبيات والطوائف .. لا يمكن لمن يعتز بالصفويين والعثمانيين وتواريخهم ان ينكر ما حدث عند الطرفين من مشكلات سياسية وفتن وظلم وحروب داخلية وصراعات طاحنة ! ليأتي الجهلة ويقولون والله نحن نمتلك تاريخا عظيما وان مشكلتنا فقط هي مع الاستعمار والصهيونية !!
كما قلت في كتابي ( بقايا وجذور ) ان ما تحّكم في مصائرنا اليوم مجموعة من ترسبات التاريخ وجذوره العقيمة التي خلقت من بيئاتنا ما اهلّها لتكون طعاما للاستعمار والصهيونية .. فهل يفّكر العرب علنا في ذلك ويقولون ما يبطنون .. ام انهم يبطنون عكس ما يعلنون ويعترفون بأن الحاجة باتت ماسة لمعرفة ثيمات التاريخ وبدائله بكل خصبه وبكل خطاياه من اجل ان نعرف كيف نتخلص من ترسبات قالتلة في تفكيرنا واساليبنا وندرك كيفية تعاملنا مع الاخر في ضوء اساليب جديدة لا علاقة لها بما تمنحنا اياه غرائب التاريخ العجيبة .
سؤال : توقف الفكر العربي بطريقة تثير الإملال والجزع ، عند موضوعة الانتكاس والخذلان والوهن والهزيمة، وراح المتخصصون يندرجون في دوامة الترقيع والتبرير حول ثيمة ( الأسباب) التي راحت تقدم في انعكاسية وصفية، ترى هل يمكن القول بأن مسار الفكر العربي، قد توقف عند هذا التطلع ، أم أن هناك نقطة ضوء؟
سؤال يتهادى من عتمة زمن كئيب وهو يبحث عن شيىء مفقود .. نقطة الضوء او كما نسميها بصيص الامل بعيدة جدا عّنا اليوم .. ليس من السهولة الوصول اليها اذا ما استمر التفكير ( لا الفكر كوني لا اؤمن بأن لدينا اليوم اي فكر ) على ما هو عليه اليوم ! تفكير العرب سواء على مستوى القيادات والزعامات ام النخب العليا ام فئات المثقفين ام على مستوى عموم الجماهير .. لا يرقى الى الحد الادنى من فهم ما تتطلبه الحياة المعاصرة . ولن اقول هذا من باب انكار وجودنا كعرب في هذا النظام الاجتماعي العالمي ، بل هناك شعوب عدة من العالم الاسلامي تشاركنا هذا الاغتراب ! الموضوع ليس انتكاسة وخذلانا ووهنا وهزيمة .. حتى يتراكض الاغبياء من اجل تبريرات وتسويغات وترقيعات – كما وصفتها عزيزي – او لايجاد ثيمات وكأن العرب كانوا قد وصلوا الى القمة هكذا بسرعة في التي اسموها بـ ” النهضة ” ثم ارتكست بهم الحال ! ابدا ابدا .. انهم خرجوا على العالم في العصر الحديث وهم بعقليات قديمة جدا ولم ينفضوا عنهم غبار القرون والجهل والتخلف .. صحيح انهم تعلموا وخلقوا لهم نخبا ومثقفين وكتبوا ابداعات وفنون واشعار .. لكن نظام تفكيرهم لم يتغّير ابدا .. لم يغيّروا ولم يتغّيروا من اجل خلق مركزية جديدة لهم .. بعد ان كانت لهم مركزيتهم قبل الف سنة ! لم يشاركوا حتى اليوم عالم اليوم مركزيته ويجعلوا من انفسهم مشاركين فعالين اسوة بغيرهم من شعوب نهضت من بعدهم في اقاصي آسيا مثلا وتجد اليوم قوة انتاجهم .. نحن لسنا بحاجة الى اشعار وشعارات وخطابات واغاني وكتابات واجترار تراثات وترديد مقولات وسرد حكايات وقراءة روايات وتهويل ومبالغات ومسلسلات تلفزيونية وضياع زمن وكلام فارغ .. العرب بحاجة الى نظام تفكير جديد وقوة علاقات ومشاركات في ابداعات عالمية ومنتجات نوعية واختراق اسواق دولية وانتاج ثقافات جديدة وتطور نوعي في الخدمات .. باختصار انهم بحاجة الى انسان جديد لا يلوك المقولات ولا يتغنى بالامجاد ولا يفاخر بالسلالات ولا يجتر التراث ولا يعرف الا الفوضى وذبح الحناجر .. الخ العرب عليهم بفلسفة جديدة للحياة والتفكير عليهم ان لا يصدقوا بما يقوله هذا وذاك .. عليهم ان يكونوا واقعيين بدل ان يبقوا يعيشون خياليين طوباويين .. عليهم ان يخرجوا من كنف الاساطير .. عليهم ان يخرجوا من عالم السحرة .. عليهم بالحكمة وعليهم بالمعلومات المؤكدة لا بوجهات النظر القاصرة .. عليهم باحترام الزمن وتقديسه عليهم ان لا ينخدعوا بكتابات الكتاب العرب من صحفيين .. عليهم بالتوقف عن المبالغة في وصف الاشياء عليهم بمشروع تكاتف ومحبة في ما بينهم .. عليهم بالتوقف عن اي نزعة شوفينية تجعلهم فوق البشر .. عليهم برؤية الاخر لا من نوافذ سياسية او تعفنات ايديولوجية .. عليهم وعليهم الكثير .. فهزيمتهم سوف لا تتوقف عند اجيال القرنين التاسع عشر والعشرين .. الهزيمة ستطال اجيال القرن الواحد والعشرين اذا ما استمر الحال على ما هو عليه !
سؤال : المسألة الثقافية في الواقع العربي ، بقيت حبيسة الاندراج المباشر في الأدلجة والمذاهب والتيارات،حتى بات من العسير الخروج من المعطف الجاهز، الذي لا تفتأ المزيد من التيارات من التلويح به، ترغيبا وترهيبا.أين تكمن مساحة المثقف والحرية؟
– اعتقد ان المسألة الثقافية هي نتاج واقعين اثنين اولاهما اجتماعي وثانيهما سياسي .. وكل منهما يشكلان سلطة من نوع ما على اي مثقف عربي نبت في خضمهما ولكن المشكلة تكمن في سؤال حيوي : من هو المثقف ؟ هل هو هذا النموذج الذي نراه اليوم في محيطنا ؟ ام هو غيره ؟ واذا كان غيره ؟ فأين هو ؟ المثقف عملة صعبة في حياتنا ! ما دام كل من واقعينا الاجتماعي والسياسي هما هذا الذي تفرزه لنا حياتنا العربية عند مطلع القرن الواحد والعشرين ! فالمسألة الثقافية لها مشكلاتها المأزومة قبل ان يدخل العرب في طور الادلجة والتناقضات السياسية بعد الحرب العالمية الثانية خصوصا . ربما وجدنا عند الاجيال السابقة نوعا من الحرية ومساحة من ثقافة متنوعة .. ولكنها لم تتطور كانت مأسورة في اطر اجتماعية مغلقة كالتي وجدناها في معارك الازهر مثلا ضد المثقفين الاحرار او في معارك ادبية وفكرية عند جيل الاستنارة في فترة ما بين الحربين ! اما في الجيل الذي اعقب الحرب الثانية ، فلقد بدأت كل من السلطات والايديولوجيات والاحزاب الراديكالية والشوفينية خصوصا تفرض اجندتها على المثقف وتحاصره وتقمعه وتأسره وتكبل حرياته وخلقت طوائف من تابعي السلطة او اولئك الذين اسموهم بـ ” مثقفي سلطة ” وكان هناك سباق على كسب من يسمونهم بالمثقفين والمبدعين ليس لكسب ولائهم بل للسيطرة على ابداعاتهم وامكاناتهم وتوظيفها لصالح انظمة وايديولوجيات وافكار وسياسات واتجاهات معينة ! واستمرت المسألة الثقافية العربيةتنتقل من ازمة معقدة الى اخرى اكثر تعقيدا عندما وصل الامر الى اغتيال مثقفين وتغييب آخرين وانتحار بعض آخر وهجرة نخب بعينها .. اما الجيل الذي جاذ متبلورا بعد العام 1979 ، فلقد دخلت المسألة الثقافية والمثقفين العرب نفقا مظلما وخصوصا بعد ارتخاء الايديولوجيات السياسية والراديكالية والشوفينية القومية على حساب التحزبات الدينية والطائفية والمذهبية والتقليدية التي تشكل ضحالتها السياسية والاعلامية حصارا رهيبا لا تكمن سلطاته في الدولة الدينية او الحزب الديني بل تنزع سلطاته في التسّيد الاجتماعي بحيث وقع المثقف الحقيقي رهين الاسر وكبلت حرياته كاملة بل ودفع البعض حياتهم وزيجاتهم ثمنا للحرية واصبح الفارق في مساحة الحرية واسع جدا بين بدايات القرن العشرين عندما كان يصّدر اسماعيل مظهر – مثلا – مجلتيه العصور والدهور بكل ما فيها من مقالات وترجمات عربية منها مثلا نظرية اصل الانواع لداروين وبين نهايات القرن العشرين عندما يحاكم ويحبس مثقف كسعد الدين ابراهيم – مثلا – !! .. السؤال الان : هل ستبقى ازمة المثقف والمسألة الثقافية العربية مستمرة ام انها ستتوقف على حين غفلة ؟ الجواب ليس سهلا ، اتوقّع انفراجا في الازمة بعد العام 2009 ، ولكن ليس لصالح الحريات وليس من السهولة ان الثقافة العربية ستعيش عصرا ذهبيا ، بل اعتقد ان جيلا جديدا سيبدأ من حيث ينتهي جيل الاصوليين .. فالامر يحتاج الى سنوات تكوينية طويلة كي تجد الثقافة العربية انفاس الحرية بعيدا عن مأساة الدواخل بكل رهبتها وبعيدا عن الابتزازات الامريكية التي لا تعرف الا لغة المصالح من دون اي اعتناء بمسألة الحرية ولا حتى بالثقافة العربية .. فالاخر لا تعنيه همومنا ولا اوجاعنا ! ان استعادة الحياة الطبيعية امر صعب جدا في ظل ما يتعلمه الجيل الجديد في مدارسنا وجامعاتنا المتهرئة .. او ما يتلقفوه عبر وسائل اعلامنا العربية المشّوهة .. الامر لا يقتصر على حشو معلومات او ترديد نصوص ومقولات من دون بناء قيمي او معرفي او تكوين ثقافي وتنمية تفكير ورعاية ملكات ومواهب ..

سؤال : تكشف المعضلة العراقية الراهنة ، عن استئثار السياسي للحضور على حساب تهميش وإقصاء الثقافي، أين يكمن دور المثقف- الانتلجنسيا- النخبة المفكرة ، وهل من مشروع رؤيوي يجتمع حوله نخبة من المثقفين العراقيين، يمكن أن يطلق عليه أية تسمية ممكنة، مجلس الحكماء أو الخبراء ؟
– خذها قاعدة يا عزيزي دكتور اسماعيل ان السياسي دوما هو سيد الموقف في اي زمان واي مكان .. لم نجد على مر العصور لا في التاريخ الكلاسيكي القديم لا في موزيبوتيميا العراق ولا في مصر ولا في اثنيا ولا روما .. لا في دول العصور الوسطى ولا في دول العصر الحديث ان جاء السياسي بنخب المثقفين وجعل منهم حكماء يستشيرهم الا ما ندر !! يمكن ان يكون البعض مستشارا او خبيرا ولكن لم يكن هناك اي تجسير حقيقي في تاريخنا بطوله بين السياسي والمثقف ، وبالرغم من الدعوات الى ذلك ، فكل ذلك اضغاث احلام يوهم بها المثقفون انفسهم !! المثقف والمبدع مهما اراد الوصول الى اي نوع من السلطة السياسية فشل في مسعاه او فشل في تجربته او افشلوا طموحه وقتلوا فيه امله ومثال عندنا الامام علي وابن خلدون والمتنبي وابو فراس وغيرهم .. المعضلة العراقية اليوم يتزاحم بالاستثار على السلطة فيها كل من السياسي ورجل الدين ! هناك مثقفون يعملون ولكنهم ليس من خلال منتجاتهم الثقافية بل من خلال اجندتهم السياسية ومحسوبياتهم الاجتماعية ! كنت قبل سنوات قد طرحت افكارا على المستوى العربي من اجل تكوين برلمان نخبوي عربي لمثقفي الامة ولكنني وجدت بأن نزاهة الفكرة ومثاليتها لا تنسجم ابدا مع ما نجده من زبد الواقع واضغاث من يسمّون انفسهم بمثقفين ! المشروع العراقي النهضوي والحضاري ، سّمه ما شئت بحاجة الى ساسة اقوياء لهم ثقافتهم العليا وتخصصاتهم التكنوقراطية ومهاراتهم وبراغماتياتهم وتفكيرهم ونزاهتهم .. مشروع العراق في استعادة العراق ووضعه على سلم التاريخ بحاجة الى مثقفين حقيقيين وليس الى رجال دين ! مع احترامي لرجال الدين ومواقفهم السياسية التي ربما تخدم في لحظات حاسمة من عمر المجتمع والبلاد ولكن لا يمكن بناء العراق ومجتمعه المدني ومؤسساته الاهلية وقوانينه المعاصرة على ايدي رجال الدين .., فكما للمثقف حياته واسلوبه وتفكيره وميادينه .. كذلك لرجال الدين اماكنهم واعمالهم وميادينهم .. يمكن لهذا او لذاك ابداء الرأي والمشورة ، ولكن لا يمكن للمثقف ان تسلمّه بلد مثل العراق الا اذا غدا سياسيا صرفا .. ولا يمكن لرجل الدين ان تسلّمه بلد مثل العراق الا اذا غدا سياسيا صرفا ! فالسياسة بصراحة شديدة عالم نسبي ومتلون فيه كل المفارقات والمداهنات وفيه كل المتغيرات والالوان والخفايا والدهاليز وفيه كل التناقضات التي لا يجيد العمل بها لا المثقفون الحقيقيون ولا رجال الدين .. واعتقد ان السياسي لابد ان يكون مثقفا ولكن ليس بالضرورة ان يكون رجل دين ! ومن البديهي ان يغدو المثقف سياسيا ، ولكن من الصعوبة ان يغدو رجل الدين بسياسي .. وخير مثل لدينا ايران وما جرى في بنيتها السياسية على مدى قرابة ربع قرن والتفكك الذي حصل في نهاية المطاف قبل ان تحل امريكا على جانبيهم في افغانستان والعراق .. وفي النهاية سينتصر الاصلاحيون على رجال الدين ! ودعني اقول بأن هناك حكاما مثقفين حكموا العراق ولكن لم نجد في اي يوم من الايام ان رجل دين قد حكمه .. على امتداد التاريخ وانا اتحّدى من يأتيني باسم رجل دين واحد حكم العراق منذ سبعة الاف عام !! في حين شهد العراق حكم خلفاء وولاة مثقفين بدءا بحمورابي ومرورا بالمأمون ووصولا الى الواليين الوزيرين داؤد باشا ابو النهضة الادبية العراقية ومدحت باشا ابو النهضة الاصلاحية العراقية !

سؤال : المعرفة التاريخية، بقيت بمثابة المسعى البعيد عن المنال بالنسبة الى الباحث والدارس العربي، حيث الاختلاط في المقولات والتداخل في التصورات، هل من الممكن الخروج من نفق الوصف والولوج في المعرفة القائمة على الممارسة؟
– ليس بهذه السهولة التي نتواخاها ما دام هناك انعدام في التكافؤ بين الدراسات الانسانية وبين الدراسات الطبيعية مثلا .. وما دام هناك خلل في المناهج واساليب التكوين ليس في دراسة التاريخ حسب ، بل في كل العلوم الانسانية الاخرى بحيث نجد الخلل على مستوى الثقافة التاريخية العامة التي لابد ان يتحّلى بها اي مثقف عربي ، فاذا كان هناك خلط واخطاء في المعلومات التاريخية على مستوى كبار الكتاب العرب .. فكيف تريد ان يكون المثقفون العرب العاديون ؟؟ اما بالنسبة للمختصين العرب في حقول تاريخ العرب والمسلمين فلم يخرج في غالبيته العظمى – كما وصفته – من نفق الوصف والسرد من مراجع عادية او ترجمات من كتب ومراجع اجنبية ونقل الاحداث من كتب ومصادر من دون اي معالجات معرفية وتحليلات تقوم على اسس منهاجية معمقة ولا على ركائز فلسفية ابداعية .. ثمة مناهج متطورة اليوم في العلوم التاريخية تجهلها اقسام التاريخ في جامعاتنا العربية ، ومنها المنهج الكمي ( الذي يعتمد اليوم الحاسب الالكتروني ) والمنهج الوظيفي والمنهج التفكيكي .. بحيث يمكننا ان نشارك فعلا في ما يسمّى حقيقة بـ ” المعرفة التاريخية ” .. هناك ايضا لدينا نقص في تخصصات نادرة ومعقّدة وهذا يشكل نقص فاضح في معرفتنا بتواريخ شعوب ومجتمعات اخرى مثل تواريخ آسيوية واسعة ومتنوعة وتواريخ اوروبا الوسيطة والحديثة وتواريخ الامريكيتين وتواريخ العلاقات المتوسطية وتواريخ المدن والمحليات .. هناك عقم في الجغرافيا التاريخية والتواريخ الاجتماعية والاقتصادية والثقافية ..

سؤال : الطريق الى بناء المعنى يبدأ من بوابة الكشف عن الغايات والمقاصد، الى أي حد قيض للوعي العربي أن يقترب من موضوعة الحركة التاريخية؟
– لقد استخدم مصطلح ( الوعي العربي ) منذ خمسين سنة عند العرب زورا وبهتانا .. فاذا كان العرب لم يصلوا على امتداد قرن كامل لوظيفة الادراك والادراك المتبادل .. فكيف تريدهم الوصول الى مرحلة الوعي .. لقد كتب جملة كبيرة من الكتاب العرب منذ الخمسينيات والستينيات عن ” الوعي ” وصنوفه ” وعي طبقي ” و ” وعي وطني ” و ” وعي قومي ” و ” وعي سياسي ” و ” وعي مرحلي ” و ” وعي ثقافي ” .. الخ ولكن من دون ان يدرك اولئك الكتاب او من كان منهم يترجم المصطلحات وينشر بالعربية او ذاك الذي كان يؤدلج الافكار الاوربية ويكتبها باسلوب عادي بالعربية .. دون ان يدركوا بأن ” الوعي ” مصطلحا ومفهوما لا يقصد به ما يشعر به البعض من المثقفين النخبويين او اولئك الساسة المؤدلجون العرب .. الوعي – كما تقرره اغلب المعاجم والقواميس العالمية – هو حالة تتفوق على حالة الادراك بالاشياء والمعاني لدى جميع ابناء الامة بعد ان يكونوا قد وصلوا شأوا من الاقتناع بها قناعة تامة والعمل بها على المستوى العام . وانها ليست مسألة ( وعي مغّيب ) بل استطيع وصفها بحالات ” اللاوعي ” .. واذا كانت ابسط الامور العادية يجهلها ابناء المجتمع العربي ، فكيف تريد منهم امتلاك وعي عربي يقترب من موضوعة الحركة التاريخية ؟ كنت اتمنى ان يستفيد العرب والامم المجاورة من منجزات القرن العشرين وهي بالغة الاهمية وقد استطاعت شعوبا اخرى ان تتجاوز هذه ” الموضوعة ” بأن تخلق لنفسها ” حركة تاريخية تشارك العالم كله بها .. في حين لم يزل العرب ومن يجاورهم من الشعوب يدورون دورتهم ولا يحركون الا دولابهم المتهرىء دورته العادية ! فعن اي وعي تتحدث اذا ما سمعت من يقول عبر القرن العشرين ويلوك مصطلحات ومفاهيم من دون دراية بما يقول : ” النهضة العربية ” و ” الثورة العربية ” و ” الصراع الطبقي ” و ” الوعي القومي ” و ” المشروع الحضاري ” و ” الصحوة الاسلامية ” .. الخ واتساءل : اين ولت وذهبت مثل هذه المصطلحات التي زاولها المثقفون والسياسيون العرب على امتداد قرن كامل ؟ وهل ثمة مفهوم واحد صدق في رؤيته وتوظيفه من اجل بناء المجتمع العربي وتقّدمه ؟؟ ان ” الوعي ” حالة لا يمكن فرزها ومعرفتها الا عندما تدرك قدرة المجتمع على تصنيف نفسه ضمن مجموعات الرأي .. او تدركها من خلال حجم قناعات المجتمع باختيار حكامها وممثليها ! ويمكن ادراكها من قدرة الطبقة العاملة في فرض مطاليبها على الحكومة ان كان هناك طبقة عمالية حقيقية عند العرب ؟ ! ويمكن ادراكها من قوة صناعة القوى البشرية في المجتمع ! ويمكن ادراكها من عدد ما يوزع من كتاب معين ! ويمكن ادراكها كم حصل العرب على براءات اختراع في العالم ! ويمكن ادراكها من صراحة نواب في البرلمان في محاسبة وزير ! ويمكن ادراكها من قوة اعلام نظيف محايد من مسألة معينة ! ويمكن ادراكها من عملية او طريقة فرز الاصوات ! ويمكن ادراكها من قوة النظام الاجتماعي .. الخ عند ذاك يمكننا ان نتحدث عن دورنا في وعي العرب ودورهم في الحركة التاريخية .

سؤال : في كتابك ( المجايلة التاريخية-فلسفة التكوين التاريخي)، يلحظ القارئ المزيد من الاجتهادات، لعل الأبرز فيها؛ فكرة المجايلة ذاتها، طريقة استخدام الحاسب الالكتروني، المنهج التاريخي الكمي، المعرفة التطبيقية.هذا التنوع والانفتاح هل يقوم فقط على( الانتقال من متاهات الفلسفة المعقدة ومشاكلها الى سوسيولوجيا المعرفة)، أم أنه تأسيس، أو لنقل تأصيل منهجي يسعى الى ترسيخ خصوصية رؤيوية؟
– انه الاستنتاج الثاني .. لا اقول انه تأسيس بل دعني اقول انه محاولة في التأسيس لفلسفة تاريخ جديدة تتخذ من التحقيب التاريخي ميدانا لها خصوصا وان العالم يهتم منذ عشر سنوات بمسألة التحقيب Per iodizationولعل اهم من يهتم بها اليوم البعض من المؤرخين وفلاسفة التاريخ الامريكان امثال ( جيري بنتلي واندرو فرانك وروس ي . دن وبيتر ستيرنز ووليم كرين وفيليب غورتن وجين شنايدر وغيرهم ) . علما بأن التحقيب ميدان حقيقي في التاريخ اهتم به العرب القدماء كثيرا .. لقد وجدت ان من ابرز اسباب ترسيخ منهج الرؤيوية التي تقوم على استبطان التاريخ لتأسيس تفكير من نوع جديد لابد ان تخدمه جدا مسألة التحقيب .. اي باختصار كما وصفتها ( تأصيل منهجي ) ولكن النظرية هي التي يستوجب فهمها وادراكها .. اتمنى ان يعتني المؤرخون العرب بمسألة التحقيب التاريخي .. فليس لدينا الان محقبون ولا فلاسفة للتاريخ ابدا .. سيكون لنظرية سلاسل الاجيال في التاريخ – كما اعتقد – شأن في المستقبل عندما يستوعبها الوعي التاريخي وخصوصا عند اجيال القرن الواحد والعشرين .. وستكون علاجا للعديد من المشكلات التاريخية التي يعاني منها الزمن العربي المعاصر وما ستعاني منه الاجيال القادمة من ترسّبات ماضويات القرن العشرين .

سؤال : من أين يبدأ الترميم؟ أم التجذير، لاسيما وأن العالم بات يعيش وطيس صراع الحضارات أم حوارها ، الشرعية الدولية ، حقوق الإنسان،الإرهاب، العولمة، الديمقراطية، الشفافية، سقوط الأيديولوجيا. هل يمكن الوقوف على إضاءات قوامها التكيف والتفكير، من دون الوقوع في دوامة استبدال الطغيان المحلي بآخر عالمي.
– ما دامت هناك شعوبا ضعيفة ومجتمعات منهكة في هذا العالم الذي حّلت فيه مركزية القطب الواحد .. فليس هناك من خيار امامها الا ان تستجيب للتحديات التي يفرضها عليها هذا العصر . ان ثمة مراجعات نقدية لما كان قد حصل قبل خمسين سنة من حياة الحرب الباردة وصراع الشرق والغرب او ما سمي بالشيوعية العالمية والامبريالية الغربية ستخلص منها ان انقسام العالم كان قويا ويعيش على هوامشه العالم الثالث بكل ابتساراته وخوره وضعفه .. ولم تعد كل تلك الشعارات التي زيّنت دول العالم الثالث شوارعها وجدرانها الا محض هراء ! لم يكن اي حياد ايجابي ولا عدم انحياز .. كلها اكذوبات مررت على شعوب كاملة نحرت نفسها من اجل الاستقلالات الوطنية والحريات والديمقراطيات .. في حين كانت الحقائق التاريخية قد زيفها الحكام والحكومات وحتى الاحزاب .. وأوهمت الشعوب كثيرا في حين كانت هناك علاقات وارتباطات سياسية ودسائس مخابراتية اثمرت عن حركات وجماعات وانقلابات ومؤامرات على امتداد النصف الثاني من القرن العشرين !!! ما نحتاجه اليوم هو الوعي بالذي كان وبالذي يحصل وبالذي سيكون .. المسألة ليست مجرد طغيان محلي او عالمي .. وكأن الجميع ابرياء من عفن التاريخ ! هل مشكلات واشكاليات مثل الوعي والادراك المتبادل والشفافية والاصلاحية والديمقراطية والفيدرالية والعولمة والغات وحقوق الانسان .. الخ يدركها الساسيون والمثقفون العرب ويعملون بها قبل ان نجعلها شعارات جماهيرية او دكاكين سياسية للمتاجرة بها .. السؤال القوي الان : هل نحن ومن يشابهنا من الشعوب بحاجة الى تفكير ووعي جديدين بالمصائر وبالايام القادمة ام لا ؟

سؤال : المفترق التاريخي الذي يعيش في كنفه العراقيون، حيث المزدوجات المقلقة حول ؛الاحتلال والتحرير، والإرهاب، الحرية والفوضى. ثنائيات من المفاهيم التي تثقل على الواقع العراقي،الى الحد الذي يكون فيه من الصعب الخروج بتصور واضح، أين بتقديركم تكمن مساحة الفرز والفصل؟
– تقديم الاهم على المهم حسب ما يريده الناس .. هل لدى العراقيين اليوم اهم من الوازع الامني والاستقرار السياسي من اجل اعادة ترتيب اوضاع البيت العراقي الذي خرج من حرب قاسية اعقبت نظام حكم جائر سحق الوجود العراقي في الصميم وغّير حتى عادات العراقيين واخلاقياتهم وسلوكياتهم بشكل لا يمكن تصديقه ! انني ادرك ان هناك دوامتين داخليتين يعيشها العراقيون ازاء معضلتين اثنيتن اولاهما المعضلة الامنية وافتقاد الحد الادنى من الاستقرار ثم هناك هيمنة المحتل وسيطرة قوى التحالف على الاوضاع . اولى الدوامتين : تعدد الاجندة السياسية العراقية وتصادمها بين مختلف الفصائل الدينية والمذهبية والعرقية .. وثاني الدوامتين : احساس الكل بالسعي لنيل منصب او تقلد مسؤولية وما يجري وسيجري لاحقا واستخدام المحسوبيات والمنسوبيات والطائفيات وكل ما يخدم المصالح الفردية والفئوية كالتي اعتاد عليها العراقيون منذ ازمان طويلة .. وان الرجل المناسب في المكان المناسب مجرد اكذوبة لا تصلح في العراق !! ارجع فأقول : ان هناك هما عراقيا واحدا لدى جميع العراقيين يكمن في الورقة الامنية والخلاص من عمليات التفجير والقتل واخذ الثارات وتفخيخ السيارات والعمليات الانتحارية التي تبعد العراق عن مسيرته والعراقيين عن مصالحهم وفرص تقدمهم وابقاء المحتل الى اجل غير محدود ! فهل باستطاعة العراقيين حماية العراق وهل يمكنهم اجتثاث كل المخربين والمتعصبين ؟ هل من ادانات عربية صريحة لما يجري في العراق من عمليات ارهابية تستهدف العراقيين قبل غيرهم ؟؟

سؤال : عاش العراق مخاضا عسيرا من الأحداث والتحولات ، تجعل من العالم طرا ، يوجه أنظاره بتركيز وعمق، منتظرا النتاج المعرفي الذي يليق بمثل هذه أوجاع ومخاضات، على مدى مجال التخصص، ألا يمكن النهوض بمشروع معرفي تاريخي، يقف عليه مجموعة من الباحثين والأكاديميين العراقيين الذين عاشوا وتفاعلوا مع هذه الأحداث الجسام، والتي تجعل من هذا الوطن (( العراق)) على المحك،مشروع يكون على شكل جمعية تاريخية، أو لنقل اتجاه معرفي تاريخي، يطلق عليه مسمى(( مدرسة بغداد التاريخية الجديدة)).
– هكذا مشروعات معرفية اعمارها طويلة وهي لا تنعكس بايجابياتها على العراق والعراقيين بسرعة كما هو حال المشروعات السياسية والاقتصادية والاعمارية التي يحتاجها العراق اليوم . ان مشروع قبول العراق قبل ايام عضوا في منظمة التجارة العالمية ( الغات ) عضوا مراقبا ، ثم قبوله عضوا فعالا مشاركا بعد تأسيس حكومته الوطنية سبق غيره من البلدان التي تنتظر دورها منذ عشر سنوات مثل ايران . ان هكذا مشروع مثلا سيتقّدم بالعراق خطوات اقتصادية هائلة نحو الامام . وهناك مشروعات اكثر حيوية وفاعلية من مشروعات معرفية ربما ستنبثق ولكن بعد استعادة الاكاديميون العراقيون في الداخل مكانتهم العلمية من خلال ما ينتجوه من الاعمال التي لها تأثير دولي .. انني آمل ان تتشكل في العراق جمعيات علمية ورابطات فكرية ونسوية ونقابات مهنية وكل ما يأخذ بيد المجتمع العراقي نحو الامام .. ولكن يبدو لي ان احداث بدايات القرن الواحد والعشرين التي انطلقت من العراق في العام 2003 ستشّكل علامات تاريخية فارقة في حياة العراقيين وتفكيرهم .. انها صدمة قوية صاعقة ستجعلهم يفكرون مليا في كل تلك المشروعات البائسة التي نالت منهم في القرن العشرين .. وهذا ما ستبصره الاجيال القادمة في العراق . اما اجيال القرن العشرين فمن تبّقى منها سيرحل عاجلا ام آجلا ويترك كل تجاربه المريرة لمن يخلفه من اجيال عراقية اعتقد انها ستمتلك وعيا تاريخيا بكل ما حصل تحت مسميات وشعارات ومؤامرات وبيانات وخطب سياسية .. الخ اضرت العراق ومستقبله ! واستطيع القول ان ليس من السهولة تأسيس مدرسة تاريخية عراقية .. لأن لا يوجد حتى اليوم اي مدرسة تاريخية عربية في اي بلد عربي ، ولكن اتأمل ان تكون للعراقيين مدرستهم المعرفية ولكن بعد عشرات السنين ! فالمشكلات التي تعاني منها بلداننا لا يمكن ان تحل في يوم وليلة .. فهي قد ورثت تركة ثقيلة جدا عبر قرون سالفة وان التخلّص من تبعاتها وآثارها وسوالبها سيستغرق زمنا طويلا .. انني لست متشائما جدا ، ولكن ربما ستغدو الاجيال الثلاثة القادمة في القرن الواحد والعشرين افضل من اجيال القرن العشرين وهذا ما يدعوني قليلا بالتفاؤل .

سؤال : الى أي حد يمكن تقبل النقد المعرفي في الفضاء العربي، خصوصا وأنك خضت مجال النقد المعرفي ، كما في كتابك : (( تفكيك هيكل)) ؟
– هذه اضحوكة .. بل قل عنها يا عزيزي انها نكتة ثقيلة في ان يتّقبل الفضاء العربي النقد الادبي وتكون لهم فيه مشاربهم واساليبهم حتى يتقبل ذلك الفضاء النقد المعرفي ! فضاؤك اخي العربي هو رهين مؤدلجات وشعارات ومعلومات خاطئة وانشائيات وتعابير وعواطف وسياسات وخطب رنانة ومواعظ دينية وقصائد شعرية شعبية في اغلبها واغاني معظمها واطئة .. فضاؤك العربي يا اخي تستهويه الاكاذيب الصحفية والمفبركات والحيل ليس هناك مصداقية واضحة الا لدى البعض النادر من هنا وهناك .. ربما يعترفون بأن هناك نقدا معرفيا ، ولكن ما دامت المعرفة نقيض الايديولوجية وان الادلجة تخرم كل التفكير العربي ، فليس هناك اي اهتمام بالنقد المعرفي ، بل قل ان العرب لا يعرفون معنى النقد المعرفي وتصحيح المعلومات .. ان عواطفهم مع الاخطاء وتداول المعلومات المزوّرة والكاذبة والعنعنات والتهويلات والمدائح وايات التبجيل والتفخيم .. الخ انها مشكلة تفكير لا اكثر ولا اقل ! اتمنى ان تتطور نزعة النقد المعرفي عند العرب .. اتمنى ان تدرك الاجيال الجديدة بأن لا حياة لهم في المستقبل من دون ممارسة النقد المعرفي وان يصحح كل شخص مواد الاول وهكذا وان اي تقدم سوف لا يسجل لصالح الامة من دون تطوير اساليب النقد المعرفي فيها .

سؤال : دكتور سيار دعني اسألك واسترسل مع جرأتك اذ يقال الكثير عن ” رجل التاريخ ” في تعيين موقفه ومواصفات عمله : يجب أن يكون موضوعيا .. ومحايدا .. أن ينقل الواقع .. وأن يحرص على تدوين ما حدث ( بوصف عمله عملا متصلا اتصالا عضويا بالماضي ) . في حين أن عملية التحليل ” التي يقوم بها رجل فكر ونقد معرفي من طرازك لا يمكن أن تتم بمعزل عن رأيك ووجهة نظرك ، وفرض محددات وعيك ومواقفك أيضا . فماذا تقول ؟
ـ لابد أن أقول الكثير ، ولكنني سأختزل كلمتي علما بأنني لا أريد أن أتحدث عن نفسي أبدا ولا اريد أن أقيم أعمالي العلمية والفكرية ، فربما سيأتي من بعدنا ناس من غير هذا الزمان في المستقبل ليقولوا كلمتهم في ما يكتبه المؤرخون والمفكرون العرب اليوم . هناك العشرات من المؤرخين العرب الذين ازداد عددهم في النصف الثاني من القرن العشرين ، وقد كتبوا في تواريخنا الاسلامية والعربية والحديثة والمعاصرة ، ولكن هناك القليل منهم من قام بمهمة توظيف تلك التواريخ وهي من اشق المهام وأصعبها .. هناك فرق بين من يكتب التاريخ وبين من يؤرخ الماضي ! هناك فرق بين من يسرد الاحداث ويركب الوقائع وبين من يحلل التاريخ ويفلسف الاطوار ! هناك فرق بين من يتشرنق في اطار الماضي ويعيش في طياته وبين من يعيش حياة العصر من خلال فهمه لانساق الماضي ! كنت أتمنى ان يجد العدد الغفير من مؤرخينا العرب المعاصرين وسيلة اخرى للعيش والتكسب والتوظف بدل ان يكتبوا التاريخ ! كنت أتمنى أن تعتني مؤسساتنا العلمية بصناعة المؤرخ الجاد الذي باستطاعته امتلاك الاداة والوسيلة ومن قبلهما الوعي والمقدرة على الفهم ! وكنت أتمنى على عدد كبيرمن مؤرخينا أن لا يوظفوا بعض اعمالهم لاغراض ايديولوجية وسياسية وعقائدية ومذهبية ويبقوا في قنوات ضيقة بعيدا عن المنهج العلمي والتفكير العلمي واشتراطاتهما من موضوعية وحيادية ودقة وعدم انحياز !
سؤال : وهناك من ينادي باعادة كتابة التاريخ ؟
– أرجع لاقول بأن كتابة التاريخ ليس عملية اعتباطية وساذجة وتركيب سرديات دون أي تمايزات ودون أي اشتراطات . انها عملية ذكية ومعقدة وخصوصا في عمليات التحليل في كشف الاسباب والمسببات .. العلل والمعلولات من اجل التوصل الى الاستنتاجات . مع الاسف على امتداد خمسين سنة لم يدخل اقسام التاريخ في جامعاتنا الا اصحاب المعدلات الواطئة واغلبهم من دون رغبة جامحة في علم التاريخ ومن دون موهبة او قدرة في صقل موهبة ولا حتى ذاكرة .. والمؤرخ هو الوحيد بين العلماء الذين بحاجة الى ذاكرة حادة وبحاجة ماسة الى اختراق انساق الماضي لاستحضارها وتوظيفها بسرعة سواء باسلوب شفاهي ام تحريري . وأخيرا ، دعني اخبرك سيدي بأن المؤرخ بحاجة الى كل هذا وذاك .. فكيف يمكن للمؤرخ أن ينتقل من طوره التحليلي الى تفكيره الفلسفي اذ ان هناك فرق كبير بين المؤرخ وبين فيلسوف التاريخ . هذا الاخير لا يمكن ان يصل الى مكانته الا من تفوق بتفكيره كي ينتقل من العمل في تحليل الاحداث والوقائع التاريخية الى التفكير والكتابة في الاطوار والظواهر التاريخية . القاعدة في أي مكان من الدنيا في الماضي والحاضر قد يبقى المؤرخ ممتازا وجادا وموضوعيا عمره كله ، ولكن ليست لديه القدرة في ان يغدو فيلسوفا في التاريخ .. ومن الصعوبة بمكان أن تجد في دنيانا العربية اليوم هذا الاستثناء ، وحتى ان وجد فاما أن يحارب من قبل اقرانه وأما ان يهاجر نحو الشتات واما ان يموت مبكرا في عز الشباب وأما ان تغبن حقوقه ولا تعرف مكانته الا بعد ازمان .. وما ابن خلدون وتجربته الا أحد الامثلة على ما اقول ! باختصار اود القول بأن التفكير في التاريخ هو الاصل ، ولا يمكنني أن أكتب تاريخا من دون أن تكون لي وجهة نظر فيه ولكن بعد الوعي به .. ومن خلال ذلك تتحدد مواقفي بعيدا عن السرد اوالتشرنق او العزلة او التخندق .. وعن كل ما يبعد المؤرخ عن فهم الماضي والتعامل معه على هذا الاساس .
سؤال : ولكنك ، في هذا كله ، قد لا تعزل نفسك في ما ترى وتقول عن ” خبرات الماضي ” . أريد أن أعرف : كيف تتعامل مع تلك ” الخبرات ” ؟
– لا يمكن لأي مؤرخ جاد ان يؤرخ او بالاحرى أي مفكر حقيقي أن يكتب بمعزل عن خبرات الماضي ، بكل تراكماتها وتنوعاتها وخصب مجالاتها .. ولابد من استدعاء براهينها ومعانيها قبل استحضار نصوصها وشخوصها كونها بقايا ومواريث أزمان مضت وانقضت ، ولا يمكن حتى اعادة تشكيلها من جديد كما كانت .. المهم كما قلت خبرات الماضي وليس عناصر الماضي . والتعامل هنا صعب ومتنوع اذا كان المؤرخ والباحث يدقق في الجزئيات ولا يكتفي كما جرت العادة بالعموميات ، وهنا اقول : لابد ان يحمل المؤرخ أي مؤرخ وباحث اي باحث قاعدة عريضة من الثقافة العميقة وان يمتلك الافق الواسع وليس كما درجت عليها الساحة في ما يتعارف عليه بـ ” التخصص ” . نعم ” التخصص ” مفيد في المنهج والاولويات .. ولكنه غدا نقمة على ثقافتنا العربية مع غياب المؤهلات الاخرى . وقد تسألني عن المؤهلات التي يفترض ان يتسلح بها أي مؤرخ ومفكر عربي معاصر (علما بأنني لا أستسيغ مصطلح ” المفكر ” التي غدت تطلق جزافا على كل من هب ودب وليس هناك من يستخدم المصطلح في ثقافات امم اخرى )، فاقول انها كثيرة لابد ان تكتشف عند الشباب الطموحين لنيل الدرجات العلمية منذ بداياتهم كي يعرف هل بمقدور هؤلاء ان يتحملوا المسؤولية وحمل الامانة في المستقبل ، ومنها : القدرة على فهم الماضي والثقافة الموسوعية والدقة في القراءة والكتابة ، والتمكن من اللغة ، والتفكير النقدي والوعي بتحقيب العصور من اجل اكتشاف التمايزات بين عصر وآخر .. الخ وعليّ القول بأن فهم خبرات الماضي في التاريخ الحديث والمعاصر هي عملية معقدة أكثر من فهم خبرات الماضي في التواريخ القديمة والوسيطة .. ومع كل هذا وذاك فلابد أن افضي لك بقناعتي التي تقول بأن أي مؤرخ او مفكر سوف لن يستطيع البتة التعامل مع أية ” خبرات الماضي ” ما لم يستطع التعامل مع ” خبرات الحاضر ” . وهنا تكمن مشكلة أغلب مؤرخينا ومفكرينا وكتابنا العرب المحدثين .
* ولكن ، قل لي : كيف يكون بمقدور المرء او لتسمح لي تسميته بـ ” رجل التاريخ ” ، أن ينظر الى حاضر يعدّ نفسه ( أو هو ، بالضرورة ) جزء عضوي منه ، خصوصا وأن الانسان لا يمكنه أن ينكر ذاته ، بما لها من تكوين عضوي وذهني، أو ما تحمل هذه ” الذات ” من مكونات ستتدخل في تحديد هذا الموقف أو ذاك ؟
ـ يعجبني في حوارك معي سيدتي العزيزة سؤالك المثقف وغير العادي .. سؤال يبحث في عمق الاشياء فلسفيا لا في توافهها كما جرت عليه العادات السقيمة، وكم تمتلىء حوارات المثقفين العرب المعاصرين بسذاجات لا أول لها ولا آخر سواء في الصحف والمجلات ام في الاذاعات وقنوات التلفزيونات .. دعيني أقول بأن أي خطاب معرفي أو أدبي هو مقول قول صاحبه او جماعته او مدرسته ضمن زمان معين ومكان محدد .. وهنا سيغدو نتاج أي خطاب وليد تكوين صاحبه وضمن التكوين التربوي والمناخ القائم والظرف التاريخي والافق الثقافي .. وهذه حقيقة ثابتة لا يمكن التملص منها تحت أي ذريعة والا وقع أي مفكر في تناقض خطير . خذ امثلة على ذلك : هل كان خطاب مؤرخ كالطبري مشابه لخطاب المسعودي او خطاب الخطيب البغدادي او خطاب ابن خلدون او خطاب ابن الاثير او خطاب ابن العديم او خطاب المقريزي او خطاب الجبرتي او خطاب الشهابي او خطاب عبد العزيز الدوري او خطاب عبد الله العروي ؟؟ لم يستطع احد من هؤلاء انكار ذاتهم او تكوينهم او فكرهم او بيئتهم او ظرفهم وزمانهم او ثقافتهم .. فكل واحد منهم ابن حقيقي لكل ذلك . وبعكسه فسيكون المؤرخ قد تناقض مع ذاته وعصره وبيئته وثقافته وذهب بعيدا ليعيش في الماضي فتراه شاخصا امامك يعيش عصره بشكل ولكنه يفكر بشكل آخر .. وهذا هو سر النكوص الخطير الذي يعيشه تفكيرنا العربي المعاصر ، فمن مخاطره ان يعيش الانسان العربي خارج زمنه ولا يريد لواقعه ان يكون معاصرا للعالم والحياة . وعليه ، فالعملية ليست معقدة جدا ولا تحتاج لا الى انكار ذات او انكار تكوين ومعرفة وعصر .. كل ما في الامر يكمن بتأسيس قطيعة معرفية في تفكيرنا ونحن نقرأ التاريخ او نشتغل عليه .. قطيعة معرفية من اجل فهم التاريخ وتوظيفه بعيدا عن عبادته وتقديسه من طرف أو انكاره ومسخه من طرف آخر ! المشكلة عندنا نحن العرب تكمن في الكيفية التي تتمأسس في تفكيرنا مثل هذه القطيعة المعرفية ! لقد اراد بعض رجالاتنا العرب من النهضويين الاوائل العمل على تأسيسها في مناخات فكرية لم تستمر مع الاسف ، اذ انهم خذلوا بتأثير عوامل أقوى منهم هي سياسية بكل تأكيد ومنهم : طه حسين وجميل صدقي الزهاوي واسماعيل مظهر وعلي عبد الرازق واحمد امين وعبد الرزاق السنهوري ومحمد شفيق غربال .. فيما بين الحربين العظميين ، ولكن المناخات الايديولوجية التي فرضت نفسها على الساحة العربية بعد الحرب العالمية الثانية اتخذت اساليب حقن التفكير العربي بالتقنين والسذاجة التي تعصبّت لها الفكرة القومية واسقاطات جاهزة من الافكار والنظريات والشوفينيات لتبدأ مرحلة التوفيقية السطحية بين التراث والمعاصرة او الجديد والقديم واسطوانة نأخذ ما يفيدنا ونترك ما لا يفيدنا .. وعند نهايات القرن العشرين أصبحنا في مرحلة الهروب باندفاع مجنون نحو الماضي واستمعنا الى من يقول بـ ” الصحوة الدينية ” وكأن مجتمعاتنا كانت نائمة دينيا .. انه التفكير الماضوي الذي تعتقد الكثرة الكاثرة ان فيه خلاصنا بعيدا عن كل شيىء ! أهذا الذي أردت التوصل اليه يا سيدتي ؟
* ولكن الماضي او بالاحرى عملية ما مضى من تراكمات الزمن وذاكرة التاريخ بتسلطها على ذواتنا كثيرا ما يملي ذلك كله علينا حالته .. مما يجعل البعض يفكر ، أو يدعو الى اعتماد نظرة منهجية نقدية ـ جذرية ، لكي نمنح تفكيرنا وانفسنا مسافة كافية في النظر اليه وفلسفته ، وفي دراسته وتقييم معطياته .
ـ نعم ، وهذا الذي دعاني أن أطلق على واحد من كتبي عنوانا هو ” بقايا وجذور .. ” ولكن التاريخ ليس هو المتسلط على ذاكرتنا ، بل المتسلط هو الموروث والفرق كبير بين ” التاريخ ” و” الموروث ” . استطيع ان اتجرأ قليلا لأقول بأن العرب خصوصا من بين شعوب الدنيا هم أبعد الناس عن تاريخهم وفهم تاريخهم لأنهم لو فهموه حسب القواعد والاصول وامتلكوا الوعي الكامل بكل جزيئاته لا بعمومياته .. ووظفوا معطياته لما كانوا بالوضع الذي نراهم اليوم عليه ! انهم يقدسون الماضي ولا يعرفونه وعم عبدة لمواريثهم ولبقاياهم وتقاليدهم السقيمة اكثر من الايجابية .. صحيح انهم ابناء تاريخ مجيد وحافل ، ولكنهم في غالبيتهم وحتى مؤرخيهم يعتقدون ان كل ماضيهم زاهر ولابد من استعادته ولهم الحق في ما يذهبون .. ولكن هذا هو عين الخطأ لأن الماضي لا يمكن استعادته مطلقا .. المشكلة ان تنمية التفكير للاجيال العربية كافة ابان القرن العشرين كانت تعيش جملة من العموميات والبطولات التي تربي عندها الرغبة في استعادة الاشياء لا في امكانية خلق الاشياء وانها غدت مشحونة الذهنية بالامجاد والبطولات من دون اي معنى واقعي لها فهي تعلمت التاريخ اسطوريا مفتقدة في اساليب درس التاريخ الحقائق موضوعيا .. كما زرعت الاعلاميات والخطابات شحنات في الذاكرة العربية اوهاما بدل المعرفة وتلقين التمجيدات بدل التوظيفات ، وتعميم الشعارات بدل المفاهيم وعبادة البطولات بدل المعاني التي يمكن للمرء ان يتعلمها من التاريخ . وهذا ما لم نجده لدى شعوب ومجتمعات اخرى تحترم تواريخها وتفهمها من دون ان تقدس تواريخها ولا تفهمها ! اما بصدد الموروث المتسلط على الذاكرة منذ ازمان خلت ، فانه يسري حتى في الجينات العربية ولا يمكن الفكاك منه بسهولة لأنه شمولي تراه معشش عند الجميع سواء عند القادة والحكام او حتى عند الناس العاديين .. فليس هناك أمة تكثر:الامثال والحكم والاشعار والنصوص التراثية والحكايات والاساطير والاخيلة والاوهام والتكهنات والاغاني عندها مثل العرب ، كلها مسيطرة على الذاكرة سيطرة عمياء وحبذا لو تفهم جميعها على ضوء رؤى نقدية وقواعد منهجية للاستفادة منها ، ولكنها اقنعة باسم التراث الزاهر لا باسم نقد التاريخ المجيد ! وثق يا عزيزي بأن أغلب ما كتبه المؤرخون العرب المعاصرون من تواريخ لم يستفد منها المجتمع العربي برغم كل هشاشتها مع احترامي لتجارب علمية قدمها مؤرخون عرب لهم جدارتهم ، ولكن أعمالهم لم تؤثر عشر معشار ما يشعله بيان سياسي في النفوس ، او ما تثيره قصيدة غزلية في الوجدان ، او ما يستنسخ من كتاب في التراث !
* وأيضا في قراءة التاريخ قراءة نقدية ـ جذرية معمّقة ، وفي دراسته ( أو كتابته ) وفاقا لذلك ، هناك منظورات ومناهج متعددة ومتباينة ، مختلفة ومتقاطعة ، تواجهنا ، وغالبا ما نجدها تشكل ” منظومة مهيمنة ” : فهناك المنظور الديني .. وهناك المنظور السلطوي (أو منظورات رجال الحكم والسلطة ) وهناك المنظورات السياسية لكل حقبة ممن الحقب .. الخ . فكيف ترى امكان أن يمشي مؤرخ مثلك ، وهو يكتب ، بين هذا كله ، بكل ما يعتوره أو يصدر عنه ؟
ـ انه شقاء الوعي النقدي بالواقع والمصير وفي عصر عربي مهين يزداد ضراوة سياسية ودينية واعلامية على المعرفة ورجالاتها .. والمشكلة ان هناك من يتدرع بأسم العلم والمنهج والموضوعية في اشاعة ما يريده .. ان ما يواجهنا اليوم من ” منظورات ” ـ كما أسميتها ـ لا مناهج ، قد واجهت من سبقنا من الاباء والاجداد قبل ازمان خلت تحت ذرائع مختلفة . وأقسى ما يواجهه المفكرون الحقيقيون اليوم من العرب يكمن في التعامل مع الجهلاء الذين لا يفهمون معاني التاريخ والزمن والحياة . أريد القول بأن للحقيقة وجه واحد لا أكثر من وجه ويقول الانشائيون والمتفذلكون والمتحذلقون والمدلسون والكذابون والمفبركون .. عكس ذلك وهنا يحدث الخلاف ! من المشكلات الاخرى عدم التمييز بين المعلومات الاساسية كحقائق قائمة بذاتها وبين وجهات النظر العادية التي لا تستند الى اي توثيق ، فلا يفهم البعض كيف يقدم الاولى مهما كانت طبيعتها ويحترم الثانية حتى وان اختلف معها .. من المشكلات الاخرى غياب النقد المعرفي والادبي معا وغيبوبتهما في خضم تشخيص الاخطاء سواء عند الصغار او الكبار لا فرق عندي .. من المشكلات الاخرى عدم الاعتراف بالخطأ والاصرار عليه بل والتمادي فيه كيلا تؤخذ العزة العربية بالاثم علما بان الاعتراف بالخطأ فضيلة عند اجدادنا القدماء .. من المشكلات الاخرى منح العلامات العالية والدرجات والمرتبات العلمية والجوائز عند العرب ممن يسمون انفسهم بأساتذة ودكاترة ومفكرين ومبدعين كما تمنح الحلوى للاطفال .. من المشكلات الاخرى ليس تسلط المنظور السياسي كما قلت ، بل انعدام تكافؤ الفرص وعدم وضع الانسان المناسب في المكان المناسب بحيث يتسلط الجهلاء على المؤسسات العلمية والفقهية وحتى اللغوية والفكرية.. فليس هناك طفيليون في السوق فقط ، بل هناك طفيليون في التعليم وفي القضاء وفي الصحافة وفي الجامعات العربية .. المهم ان لا يخاف المرء وهو بين هذه الجدران ، والمهم ان يتوكأ على عكاز وهو يمر في هكذا دهاليز مظلمة ، والمهم ان يزرع من يجد عنده أي فكرة جديدة في المجتمع .. والمهم ان لا يبحث ابناء النخبة العربية على الاضواء والضجيج صحيح انني متشائم مما يعتور حياتنا العربية اليوم من منظورات وضجيج وشعارات خاوية من المضامين خصوصا عند جيلنا الذي كان ضحية تكوين صعب في عموم قسمات الامة، الا ان الامل يمكن ان نلمحه في الاجيال القادمة التي ستقل عندها المفارقات مقارنة بما تزدحم به اليوم في حياتنا ، ولابد للحقائق ان تنجلي في المستقبل كي يقف الانسان هناك ويتأمل هذه البنية العربية التي تتجاذبها منظورات وشعارات هشة اوجدتها سلطويات قوى واحزاب وفئات القرن العشرين بعيدا عن منتجات النخب الرائعة في المعرفة والتقدم .
سؤال : ولكنك لا تتجرد مما تحمل من رؤية وموقف .. وانت المعروف بالدقة والموضوعية وتفكيك الرزايا العربية ان سمحت لي ان اصفك
ـ نعم ، وهذا حق طبيعي لكل انسان له القدرة على التفكير ، ولكن ربما كنت مخطئا فالانسان ليس معصوما من الخطأ ، وعليه لابد ان ينتبه كل كاتب وباحث عربي الى نفسه ويراجع ان كان قد اخطأ في كتاباته او محاضراته .. وازعم بكل تواضع ان لي رؤية معينة للاشياء وللتاريخ وللحياة وللشعر وللفن وللموسيقى وللرواية وللغة وللمعرفة .. اما انني صاحب موقف فهذا ما يمكن ان يحدده غيري عني ، ولكن بكل تأكيد لي استقلاليتي السياسية والفكرية اذ لم انتم الى أي خط سياسي او ايديولوجي لا عربي ولا اجنبي ، ولكن هذا لا يمنع ان اكون عاشقا لوطني ولعروبتي ( واقول العروبة وليس القومية فالفرق عندي بين الاثنتين كالفرق بين الارض والسماء ) واعتز بتاريخ العرب وكل الشعوب والمجتمعات التي شاركتنا تاريخنا كما ان تاريخ العراق هو سجل من ازمان مثقلة بكل المعاني والاشياء والحضارات برغم كل ما يثار حوله من سجال اذ يكفي ان العراق كان مهدا لنشأة المدينة والزراعة والدولة والقانون والموسيقى والمكتبة والنظام .. اعتز بالعروبة واقدس الاسلام واحترم الاديان واؤمن بالتقدم والحرية والديمقراطية وادافع عن حقوق الانسان في كل مكان وأناشد كل الدنيا بالوقوف الى جانب الشعب العراقي وكل الاهل في العراق الحبيب وهم يفتتحون طورا جديدا من تاريخهم الصعب بعد انهيار النظام السابق .
سؤال : الى أي حد يمكن ان يؤثر عليك ” الوضع الخاص” للمرحلة التاريخية التي نمر فيها اليوم وأنت تقرأ التاريخ ( في اطارها ) مثل هذه القراءة النقدية والرؤيوية التفكيكية التي تقوم بها ، وتدعو اليها ؟
ـ انه تأثير كبير لأن ضغوطات المرحلة المعاصرة ثقيلة جدا ، ولم يسبق ابدا ان مرت مجتمعاتنا بمثلها في سابق الازمان وبمثل هذا المخاض من العلاقات المتشابكة مع العالم سياسيا واقتصاديا وثقافيا واعلاميا ، وخصوصا وان تأثيرها بالغ التحدي بالنسبة للنخب والفئات الواعية .. طبيعي هناك من يهرب وهناك من يعجز وهناك من يستسلم وهناك من يستجيب للتحدي . من يقرأ تاريخ العرب عموما وتاريخ منطقتنا في تحدياتها وازماتها سيجد ان سلسلتها سوف لن تنتهي او تستقر ببساطة متناهية كما يفسر ذلك السياسيون والاعلاميون بتفكيرهم الافقي او حتى ضمن شعاراتهم واكاذيبهم في بياناتهم وتصريحاتهم التي اشبعوا الناس بها !! اما بالنسبة لي كقارىء متواضع لاطوار التاريخ وتحدياته فسيجد ان مخاضات صعبة ستمر على اجيال هذه الامة ( والمنطقة بالذات التي اسميتها بمربع الازمات في الشرق الاوسط بعد ان عاشت في الخمسين سنة الماضية مثلث الازمات ) في المستقبل فيعمل على تقليل الفجوة من خلال تفكير عمودي ان استطاع ان يستفيد من قراءة الماضي وتوظيفه لمعالجة الحاضر من اجل بناء لبنة اساسية يعتقد انها ستفيد ، او يشعل شمعة يؤمن بأنها ستضيىء في بناء المستقبل . ان الاستجابة للتحديات لا تكمن بالوسائل الشائعة اليوم في فكرنا العربي المعاصر والتي اعتقد – وربما كنت مخطئا – انها ستفيد مستقبلنا للخلاص من مشكلاتنا العربية الصعبة والقاسية خصوصا وان العرب افتقدوا زمنا رائعا في القرن العشرين كان عليهم ان يتقدموا فيه خطوات الى الامام . ان أبرز ما يمكنني الاشارة اليه ضمن ما أدعو اليه في المنهج والرؤية والتفكير : العمل على مجابهة التحديات بالاستجابة لها باحلال التوافقات بدل التعقيدات وان اي حلول يمكنها ان تحافظ على الحد الادنى من الحقوق التاريخية ستفيد حقا بدل حرق المنطقة بالحروب والارهابيات والتصدعات والانقسامات .. ونحن لا نملك الا الشعارات والخطب الرنانة !

سؤال : وهل تجد نفسك وانت المفكر ليس بالواقع حسب ، بل المفكر بالمستقبل وخطوطه ، بعملك هذا ان تسهم اسهاما فاعلا في التاريخ ؟ كيف ؟ وعلى أي نحو يتمّ لك ذلك ؟
ـ مرة اخرى تريديني سيدتي سمر ان اتحدث عن نفسي وهذا صعب جدا عليّ ! انني لا استطيع القول بأن لي اسهام فاعل في التاريخ ! انني لست من صنّاع القرارات ! انا مجرد مؤرخ يتابع خطوط وبيانات واحداث واحصاءات ويحلل وينقد ويستبطن ويستنتج .. اتمنى ذلك من صميم القلب .. اتمنى اسوة بغيرى من المختصين والمؤرخين والمفكرين العرب المعاصرين ان أرى ثمرات ما امكننا زراعته قبل ان نموت خصوصا امنيتي بحصول تغيير في تفكير الجيل القادم نحوالافضل ولكن الامة يكبر حجمها السكاني ومعها تكبر مشكلاتها ومع هذه المشكلات تتفاقم المخاطر الاتية ولكن الامة بقدر زيادة سكانها وتفاقم مشكلاتها تقل فيها يوما بعد آخر فرص التقدم ويقل فيها المفكرون والمبدعون الجادون . في خمسينيات القرن العشرين اوصل العرب ابداعهم الى اعلى مداه ضمن الامكانات المتاحة وقتئذ ، واليوم لا تجد ذلك ! لماذا ؟ لأن ثلاثين سنة من حياتنا الفكرية والابداعية ذهبت هدرا في مسائل لا تجدي نفعا مع الاسف ! وهذا ما عالجته في اكثر من كتاب كمساهمات متواضعة في تقييم تفكيرنا العربي المعاصر وقمت بكل تواضع برسم بيانات واستنتاجات وتوقعات عن سيرورة المستقبل .. فكرنا وابداعنا العربي لم يصل حتى يومنا هذا الى المرتبة العالمية .. وأساليب التفكير في محيطنا العربي محاطة داخليا بالاسيجة الشائكة والاسوار العالية .. فرص الحرية المسؤولة غير متوفرة .. التناقضات تزداد بشكل مفجع .. الانغلاق على المواريث يشكل عقبة كأداء في تربية الاجيال وعتمة المجتمع .. ازدواجية التفكير الاجتماعي ودوغمائية في التفكير السياسي واكاذيب الخطاب الاعلامي وتشوهاته .. الخ ماذا سيخلق هذا كله عند الجيل الجديد ؟ وكيف سيغدو هذا الجيل مؤهلا للتعامل مع العالم في قابل الايام ؟ اما تسأليني عن الكيفية في ان يكون الاسهام فاعلا في التاريخ ؟ فتلك مسألة شائكة اخرى في عالم عربي يزداد شرخه يوما بعد اخر ، وتتشظى ثقافته الى دكاكين قطرية مستلبة يوما بعد آخر ، المشكلة ان ثقافتنا عربية وواقعنا غير عربي فكل يغني على هواه .. والمشكلة ان هناك دعاية لهذا وتعتيم على ذاك .. والمشكلة ان يعترف بفكر متحجر او بفكر مستلب او بفكر اجنبي ولا يعترف بما هو حيوي وصادر من تفكير ابناء النخبة .. المشكلة معاصرة وخطيرة الى حد النخاع ! ولكن على أي نحو يعمل العقلاء من المفكرين العرب ؟ وعلى أي نحو يتم أي اسهام فاعل لهم في التاريخ فربما سيكون ذلك في المستقبل البعيد .. وسيذكرهم احفادهم بالذكر الجميل لأنهم قدموا مشروعات اقل ما يقال عنها انها ذات نفع في لمستقبل ان لم يكن لها تأثير في حياتهم .
سؤال : هنا أريد أن أتعّرف على كيفية استنباط التوقعات التاريخية .. كما كتبت في قضايا وانشغالات فكرية راهنة لها واقعها / بعدها االسياسي . فأين هو الترابط في ما كتبت ؟ وما الفكرة المحركة عندك لهذا كله ؟
ـ تعرف انني متخصص في التاريخ الحديث والمعاصر ولي شغف في قراءات نقدية وادبية وموسوعية وقد نشرت في النقد الادبي وعن الرواية وعن الشعر .. كما ويحركني التاريخ الثقافي بشكل خاص . وعملي هو حذقة وحرفة ومهنة اذ انه ليس مجرد توظيف ادبي لرمز تاريخي في حياتنا المعاصرة . في التاريخ الحديث دفعني التفكير الذي احمله الى صياغة افكار مشروع اسميتها بـ ” تكوين العرب الحديث ” وجاء بثلاث مجلدات تدارست فيه اطوار العرب التاريخية على امتداد اربعة قرون وساحاول اكماله عن تكوين العرب المعاصر ودراسة تاريخهم في القرن العشرين ضمن نفس الرؤية والمنهج . اما المشروع الاخر فهو الذي تتضمنه نظرية المجايلة التاريخية في فلسفة التكوين التاريخي والتي طبقتها على المعرفة العربية الاسلامية من خلال تحقيب جديد للتاريخ لا يقوم على أي من التقسيمات المعروفة سياسية كانت ام سلطوية او سلالية .. بل تقوم على اساس الوحدات الكبرى والصغرى فالجيل هو اصغر وحدة تاريخية (30 سنة ) وكل عشرة اجيال تؤلف وحدة تاريخية كبرى يمثلها عصر تاريخي (300 سنة ) . وعليه ، فان 1500 سنة من حياتنا التاريخية العربية الاسلامية بدءا بـ 599 م ( = انطلاق الاسلام ) وانتهاء بـ 2099 م تحقب بخمسة عصور لكل عصر سماته ومواصفاته ، كما وتحقب بخمسين جيلا لكل جيل سماته ومواصفاته .. ونحن اليوم ابناء الجيل السابع والاربعين .. علما بأن هناك عصرين تاريخيين كاملين ( = 600 سنة بالضبط بين ولادة المسيح وولادة الاسلام ) سبقا العصور الخمسة وسأحاول ان أطبق هذه النظرية على التاريخ البشري كله – كما تعلمين من خلال عملك الدائب في ترجمته . تسأليني عن الترابط في ما كتبت ؟ الرابط قوي لأن لولا دراستي للتاريخ وتخصصي بالذات في الحديث والمعاصر والانتقال من دراسة حوادثه وووقائعه الى التفكير في ظواهره وعناصره ما كنت لأصل الى معالجة الحاضر ورؤية المستقبل . أما الفكرة المحركة عندي فهي التي تبلورها ثقافة متجددة تكاد تكون يومية بعض الاحيان .. ولكن عيوني مسمّرة دوما نحو المستقبل وما قراءة التاريخ الا توظيف نقدي مشروع من اجل بناء المستقبل . وأزيدك بأن اهتمامي بالتواريخ الاجتماعية والاقتصادية والثقافية بعيدا عن التواريخ السياسية هو الذي خلق هذه البنية العضوية في التفكير والترابط القوي بين الاعمال .
سؤال : بالنسبة لأعمالك الاخرى فانها تعالج قضايا وانشغالات فكرية راهنة بالفعل ، ومنها كتابك ” العرب والاتراك : الانبعاث والتحديث ” وكتابك ” التحولات العربية ” وكتابك الاخر ” العولمة الجديدة والمجال الحيوي ” وكتابك ” العولمة والمستقبل : استراتيجية تفكير ” .. في النقد السياسي لك كتاب ” تفكيك هيكل ” في نقد محمد حسنين هيكل .. في النقد الفكري كتبت الرؤية المختلفة في نقد الجابري.. هل ستكملها باعمال نقدية بنفس المنهج ؟
لدي عمل سادفعه للطبع بعنوان ( على المشرحة ) في النقد التاريخي ، ولدى عمل آخر بعنوان ( مشروع رؤيوي : من أجل تفكير جديد ) في تحديث الحياة العربية وبناء المستقبل . وسينشر قريبا كتاب ( المزامنات العربية ) وهو مجموعة مقالات .. ساقوم بنشر كتاب ( مانفيستو العراق : 2003- 2009 ) قريبا واعمال اخرى .
سؤال : واين وصل بحثك التوثيقي عن جمال الدين الافغاني .. وقد سمعنا انك تعيد كتابة تاريخه من جديد على ضوء وثائق نادرة وخطيرة ؟
– نعم ، انه عمل صعب في النقد التاريخي سانشره حال انجازه وقد اقترب معظمه من النهاية وهو عمل متعب جدا عن تاريخ السيد جمال الدين الافغاني وسيقلب تاريخ هذا الرجل رأسا على عقب ! ولقد تأخر عملي فيه منذ سنوات نظرا لانشغالي بكتابة عدة دراسات بالانكليزية في التاريخ الموسوعي ..
سؤال : وماذا عن تاريخ العراق ؟
– وفي تاريخ العراق ، نشرت كتابي عن حصار الموصل وكتابي زعماء وأفندية وكتابي الجديد انتلجينسيا العراق الذي اعمل على ان اضيف عليه معلومات وتحليلات جديدة .. وكتبت عن العلاقات بين العراق وايران وبين العراق وتركيا وغيرها .
سؤال : هل تواجه او بالاحرى تتمثّل نمطا ، أو تتخذ نموذجا في هذا الذي تكتب ؟ لقد سئلت احد الذين حاوروك سابقا هذا السؤال ولم اجد جوابا شافيا منك عليه ؟
ـ لا اعتقد أبدا انني اتمثّل نمطا معينا او انني اتخذ نموذجا ، فقراءاتي كثيرة ومتجددة كما قلت لك مع الايام ، قولي لي من هو صاحب نمط متنوع ؟ نعم ربما اعجب بشخصيات فكرية ورجال علم واصدقاء من مفكرين عرب ومستشرقين ولكن انماطها تخضع عندي دوما للنقد ، ولا تعجب فحتى اعمالي نفسها اخضعها للنقد دوما قبل او بعد نشرها . ربما تربيتي العلمية والادبية منذ طفولتي في البيت الذي نشأت وما ورثته من اسرتي في العراق ومن ثم تكويني في ما بعد وخصوصا عندما عشت في كل من بريطانيا والمانيا قد حددا نمط تفكيري التجريبي او كما يسمونه بالامبريقي ، ولكن لا يمكنني أن أرضى عن شيىء ابدا حتى وان كان هو نفسه الذي اكتبه ! ومع كل هذا وذاك فأنا لا اخفي اعجابي بفلاسفة ومؤرخين وروائيين وكتاب اتابع شأنهم في هذا العالم .
سؤال : ان معظم ما كتبت هو مما يمكن أن نطلق عليه ” الكتابة في بيئة اكاديمية ” . والسؤال هنا هو : ماذا أعطتك هذه ” البيئة ” في مستوى ما حققت من منجز ؟ ولقد سئلت هذا السؤال قبل سنوات واعيد السؤال عليك ثانية
ـ بصراحة اقول بأن البيئة ( الاكاديمية ) أخذت مني أكثر مما أعطتني وخصوصا الجامعات العربية التي خدمت فيها في كل من المشرق والمغرب العربيين .. وهذا واحد من الواجبات المقدسة المفروضة علينا نحن العرب في مثل هذا العصر .. لقد اعطتني في كل من الجامعات العربية والغربية : بعض صداقات اعتز بها لزملاء كرام وطلبة نجباء واصدقاء رائعين ، اعطتني قاعات درس ومحاضرات ممتلئة بشباب زرعت عندهم تنمية الشخصية والتفكير وشحذ الذهن وحب المعرفة وتأسيس منهج واستفدت من بعض كتب ومجلات ومقالات وخرائط واطالس وتقارير .. ولكنها – بصراحة وانا اتكلم عن الجامعات العربية – لم تكن بيئات اكاديمية صرفة كما هي عليه في مجتمعات متقدمة كانت قد افادتني بزاد المعرفة في التخصص والثقافة ! ان بيئات كالتي تسمى بالجامعات العربية هي أشبه بالمدارس العادية تستنزف الزمن يقف على ادارتها اناس يعبدون الروتين والسذاجة والتفخيم والندوات المخملية ولا تعترف تلك التي يسمونها بالجامعات العربية بالاعمال الحيوية وانها خاوية من اية تقاليد اكاديمية كما آلت اليه لا كما نشأت عليه ، تضيع فيها حقوق الاستاذ ضياعا حقيقيا .. انها لم تعطني أي شيىء ! ثمة مراكز علمية ومؤسسات بحثية عربية واجنبية غير اكاديمية اعطتني اكثر بكثير من الجامعات سواء على مستوى الجوائز ام شهادات التقدير .
سؤال : ولكن هل وجدت تلك البيئة الاكاديمية العربية في بعض المشاهد والمواقف والحالات ، تحاصرك رؤية وموقفا فكريا ، حين واجهت ـ تحديدا ـ بعض القضايا المثارة راهنا ؟
ـ كلا ، انها لا تستطيع أبدا ، المسألة لا تعتمد على البيئة ( الاكاديمية ) كما تصرين على تسميتها ، بل تعتمد على مدى ارتباط تلك ” البيئة ” بالمناخ السياسي الذي يغلف البلد كله ، فبيئات جامعية في بلدان مثل المغرب ولبنان وتونس والاردن ( والجزائر لاحقا ) هي اكثر انفتاحا وحيوية ومرونة بكل تأكيد من بيئات جامعية في بلدان غير التي ذكرت . وبشكل عام لا تستطيع أي بيئة جامعية عربية الا ان يخضع اعضاؤها من الهيئة التدريسية لمجموعة من القوانين والتعليمات والطقوس ، ولكن باستطاعتها ليس فقد محاصرة الرؤية وتكبيل الموقف الفكري ، بل باستطاعتها فعل اكثر من ذلك ! وعلى أية حال ، فان الباحث والمفكر مهما كان موقفه الفكري او رؤيته وفلسفته عليه ان يكون ذكيا جدا وحذرا جدا في التعامل مع اولويات وثوابت كل بلد وكل مناخ وكل بيئة .. وان يسعى لخدمة المعرفة قبل أي شيى آخر وعليه ان يوازن بل ويفصل عمله الاكاديمي في المنهج والتدريس عن عمله الفكري في الكتابة والتأليف لأنه في الاول متخصص ومرب ومرشد وصاحب منهج ولكنه في الثاني مفكر وكاتب وربما سياسي ان اراد او ربما اعتبروه فيلسوفا ان ارادوا !
سؤال : ما ال

شاهد أيضاً

ملف: إمكانية حكم دكتاتور عادل للعراق.. حوار عراقي مصري بين الدكتور سيّار الجميل والأستاذ عبد الله كمال على روز اليوسف المصرية

مقدمة كتب الصديق الأستاذ عبد الله كمال عضو مجلس الشورى المصري ورئيس تحرير كل من …